نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب النفقات

          ░░69▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ (1)، كِتَابُ النَّفَقَاتِ، وَفَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأَهْلِ) بجرِّ فضل عطفاً على المجرور السَّابق، كذا وقع في رواية كريمة. وفي رواية أبي ذرٍّ والنَّسفي: وقع هكذا: <كتاب النَّفقات، بسم الله الرحمن الرحيم، باب فضل النَّفقة على الأهل> وسقط في رواية أبي ذرٍّ لفظ: <باب>.
          والنَّفقات: جمع نفقة من النُّفوق، وهو الهلاك، يقال: نَفَقت الدَّابة تَنْفُق نُفُوقاً: إذا هلكت، ونَفَقَت الدَّراهم تَنْفق نَفَقاً؛ أي: نقدت، وأنفق الرَّجل: افتقرَ وذهب ماله، أو من النِّفاق، وهو الرَّواج، يقال: نفقت السِّلعة نَفَاقاً: راجت.
          وذكر الزَّمخشري: أنَّ كلَّ ما فاؤه نون وعينه فاء يدلُّ على معنى الخروج والذَّهاب، مثل نَفَق ونَفَر ونَفَخ ونَفَس ونَفَد ونَفَى، وجَمَعَها لاختلاف أنواعها من نفقة زوج وقريب ومملوك.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على النَّفقات المجرور بالإضافة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقوله تعالى> وسقط في رواية ذلك، ووقع هكذا: ({وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]) بالرَّفع في قراءة أبي عَمرو على أنَّ ما استفهاميَّة، وذا موصولة، فوقع جوابها مرفوعاً على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ للمناسبة بين السُّؤال والجواب؛ أي: هو العفو، وقرأ الباقون: بالنَّصب على أنَّ ماذا اسم واحد فيكون تقديره: أي شيء ينفقون، فوقع جوابها منصوباً بفعلٍ مقدَّر للمناسبة أيضاً؛ أي: أنفقوا العفوَ، وسببُ نزول هذه الآية: ما أخرجه ابنُ أبي حاتم من مرسل يحيى بن أبي كثير بسند صحيحٍ إليه: «أنَّه بلغه أنَّ معاذ بن جبل وثعلبة سألا رسول الله صلعم ، فقالا: إنَّ لنا أرقاء وأهلين فما ننفقُ من أموالنا؟ فنزلت».
          ({كَذَلِكَ}) الكاف في موضع نصب نعت لمصدرٍ محذوف؛ أي: تبيينا مثل هذا التَّبيين ({يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا} [البقرة:219]) / أي: في أمر الدُّنيا ({وَالآخِرَةِ}) أي: تتفكَّرون فيما يتعلَّق بالدَّارين فتأخذون بما هو أصلح لكم، وقيل: أي: فتعرفون فضل الآخرة على الدُّنيا.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري ☼ (الْعَفْوُ: الْفَضْلُ) أي: فسَّر الحسن العفو بالفضل؛ أي: الفاضل عن حاجته.
          وهذا التَّعليق وصله عبدُ بن حُميد عنه، وعنه أيضاً: لا تنفق مالك حتَّى تَجْهَدَ فتسألَ النَّاس، وروي عن سالم والقاسم: العفو: فضل المال؛ أي: ما تصدق به عن ظهر غنى، وعن مجاهد: هو الصَّدقة المفروضة.
          وقال الزَّجاج: أُمِرَ النَّاسُ أن ينفقوا الفضلَ حتَّى فُرِضَتِ الزَّكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ الرجُلُ من كسبه كلَّ يوم ما يكفيه ويتصدَّق بباقيه، ويقال: العفو: ما سَهُلَ، ومنه أُخِذَ: أفضل الصَّدقة ما تُصُدِّق به عن ظهر غنى. وعن ابن عبَّاس ☻ : «العفو: ما فضل عن الأهل». أخرجه ابن أبي حاتم عنه. وأخرج من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : «العفو: ما لا يتبيَّن في المال»، فلمَّا اختلفت هذه الأقوالُ كان ما جاء من السَّبب في نزولها أولى أن يؤخذ به، ولو كان مرسلاً.


[1] في هامش الأصل: قد بُدِئَ في هذه القطعة يوم الاثنين السابع والعشرين من أيام شهر شعبان المعظم المنتظم في سلك شهور السنة الرابعة والخمسين بعد المائة والألف، من هجرة من يأخذ العفو ويأمر بالعرف بمصر المحروسة، يسر الله إتمامها وإتمام باقيها إلى آخر الكتاب، بحرمة النبي والآل والأصحاب، وصلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.