نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة الحج

          ░░░22▒▒▒ (سُورَةُ الْحَجِّ) ذكر ابن مردويه عن ابن عبَّاس وابن الزُّبير ♥ أنَّهما قالا: نزلت سورة الحج بالمدينة، وقال مقاتل: بعضها مكِّي أيضًا، وعن قتادة: إنها مكيَّة، وعنه مدنيَّة إلا أربع آيات، وعن عطاء إلَّا ثلاث آيات منها: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19] إلى تمام ثلاث آيات أو أربع، وقال هبةُ بن سلامة: هي من أعاجيب سور القرآن؛ لأنَّ فيها مكيًّا ومدنيًّا، وسفريًّا وحضريًّا، وحربيًّا وسلميًّا، وليليًا ونهاريًا، وناسخًا ومنسوخًا، وهي خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفًا، وألف ومائتان وإحدى وتسعون كلمة، وثمان وتسعون آية.
          (╖) ثبتت البسملة في رواية أبي ذرٍّ (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيان ({الْمُخْبِتِينَ}: الْمُطْمَئِنِّينَ) أي: قال سفيان بن عُيينة في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34] ؛ أي: المطمئنين، ذكره في تفسيره عن ابنِ أبي نجيج عن مجاهد، وكذا هو عند ابنِ المنذر من هذا الوجه، ومن وجه آخر عن مجاهد قال: المصلِّين، ومن طريق الضَّحاك قال: المتواضعين، وقيل: المطيعين، وقيل: الخاشعين. وقال الكلبي: هم الرَّقيقة قلوبهم، وقال عَمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لا ينتصرون، والمخبت من الإخبات، وأصله: الخَبت _بفتح أوله_ وهو المطمئن من الأرض.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}: إِذَا حَدَّثَ أَلقَى الشَّيطَانُ فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ ما يُلقِي) وفي رواية أبي ذرٍّ: <ما ألقى> (الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ الله آيَاتِهِ) وفي نسخة: <ويُحكم آياته> أي: قال ابنُ عبَّاس ☻ في قوله ╡: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] الآية؛ أي: إذا حدَّث وتلا شيئًا من الآيات المنزلة عليه من الله ألقى الشَّيطان في حديثه؛ أي: في تلاوته عند سكتة من السَّكتات ما يوافق أهل الشِّرك من الباطل، فيسمعونه فيتوهَّمون أنَّه مما تلاه النَّبي صلعم ، وهو منزَّه عنه لا يخلط حقًّا بباطل، حاشاه الله من ذلك، فيُبطل الله ما يلقيه ويحكم؛ أي: ويثبت آياته.
          وقد وصله الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ مقطعًا، ورواه أبو محمَّد الرَّازي عن أبيه حدَّثنا أبو صالح: حدَّثني معاوية، عن عليِّ بن أبي طلحة / عنه أيضًا، والحاصل أن معنى: {إِذَا تَمَنَّى} إذا قرأ، ومعنى ((في أمنيته)): في قراءته.
          (وَيُقَالُ: أُمْنِيَّتُهُ: قِرَاءَتُهُ) في اليونينية بالرفع فيهما، وفي بعض الأصول وكثير من النُّسخ بجرهما على ما لا يخفى ({إِلاَّ أَمَانِيَّ}: يَقْرَؤُونَ وَلاَ يَكْتُبُونَ) هو قول الفرَّاء، قال: التمنِّي: التِّلاوة، قال وقوله: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] قال: الأماني أن تفتعلَ الأحاديث، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم وليست من كتاب الله، ومن شواهد ذلك قول الشاعر:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ                     تَمَنِّيَ دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
          قال الفرَّاء: والتمنِّي أيضًا حديث النَّفس انتهى، ومن هذا فسَّر بعضهم قوله تعالى: {إِذَا تَمَنَّى}؛ أي: إذا أحب واشتهى، وحدَّثت به نفسه مما لم يُؤمر به، وإنَّما أورد المؤلِّف هذا استشهادًا على أنَّ {تَمَنَّى} في هذه الآية بمعنى: قرأ؛ لأنَّ معنى قوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ} إلَّا ما يقرؤون، وقال ابنُ العربي في قوله تعالى: {فِي أُمْنِيَّتِهِ}؛ أي: في قراءته، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أن سنَّته في رسله إذا قالوا قولًا زاد الشَّيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نصٌّ في أنَّ الشيطان زاده في قول النَّبي صلعم لا أن النَّبي صلعم قاله.
          وقد تكلَّم المفسِّرون في هذه الآية فقال البيضاوي ☼ : {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} زوّر في نفسه ما يهواه {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدُّنيا كما قال صلعم : ((وإنَّه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرَّة)).
          {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فيبطله ويذهب به بعصمته عن الرُّكون إليه، والإرشاد إلى ما يزيحه {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ} ثم يثبت الله آياته الدَّاعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأحوال النَّاس {حَكِيمٌ} [الحج:52] فيما يفعله بهم انتهى، والحامل له على هذا التَّفسير ما في ظاهر هذه القصَّة من البشاعة. وقال أبو الحسن بن علي الطَّبري: ليس هذا التمنِّي من القرآن والوحي في شيء، وإنَّما هو أنَّ النَّبي صلعم كان إذا صفِّرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنَّى الدُّنيا بقلبه، وحدَّث نفسه بزوال المسكنة ووسوسة الشَّيطان.
          قال أبو جعفر النَّحاس في كتاب «معاني القرآن» له بعد أن ساق رواية عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في تأويل الآية: هذا من أحسن ما قيل في تأويلها، وعلى هذا / يُحمل ما جاء عن سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس ☻ ، وقد أخرجه ابنُ أبي حاتم والطَّبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جُبير قال: قرأ رسول الله صلعم بمكَّة النَّجم، فلمَّا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19-20] ألقى الشَّيطان على لسانه: تلك الغرانيق العُلى، وإنَّ شفاعتهم لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية.
          وأخرجه البزَّار وابن مردويه من طريق أميَّة بن خالد عن شعبة فقال في إسناده: عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس فيما أحسب، ثمَّ ساق الحديث، وقال البزَّار: لا يُروى متصلًا إلا بهذا الإسناد تفرَّد بوصله أميَّة بن خالد وهو ثقةٌ مشهور قال: وإنَّما يُروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عبَّاس ☻ ، انتهى. والكلبيُّ متروكٌ لا يعتمدُ عليه.
          وكذا أخرجه النحَّاس بسندٍ آخر فيه الواقدي، وذكره ابن إسحاق في «السيرة» مطولًا، وأسندها عن محمَّد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في «المغازي» عن ابن شهاب الزُّهري، وكذا ذكره أبو معشر في «السيرة» له عن محمَّد بن كعب القرظي، ومحمَّد بن قيس، وأورده من طريقه الطَّبري، وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السُّدي، ورواه ابن مردويه من طريق عبَّاد بن صهيب، عن يحيى بن كثير، عن الكلبي، عن أبي صالح، وعن أبي بكر الهذلي، وأيُّوب عن عكرمة وسليمان التَّيمي عمَّن حدَّثه ثلاثتهم عن ابن عبَّاس ☻ .
          وأوردها الطَّبري أيضًا من طريق العوفي عن ابن عبَّاس ☻ ، ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكلها سوى طريق سعيد بن جُبير إمَّا ضعيف وإمَّا منقطع، لكن كثرة الطُّرق تدل على أن للقصَّة أصلًا مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصَّحيح.
          أحدهما: ما أخرجه الطَّبري من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب: حدَّثني أبو بكر بن عبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه.
          والثَّاني: ما أخرجه أيضًا من طريق المعتمر بن سليمان وحمَّاد بن سلمة فرَّقهما عن داود بن أبي هند، عن / أبي العالية.
          قال الحافظ العسقلاني: وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطَّبري في ذلك روايات كثيرة باطلةٌ لا أصل لها، وهو إطلاقٌ مردود عليه، وكذا قول القاضي عياض هذا الحديث لم يخرجه أحدٌ من أهل الصحَّة، ولا رواه ثقةٌ بسندٍ سليم متَّصل مع ضعف نقلتهِ واضطراب رواياته وانقطاع إسناده. وكذا قوله: ومن حُملت عنه هذه القصَّة من التَّابعين والمفسرين لم يُسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطُّرق عنهم في ذلك ضعيفة، قال: وقد بيَّن البزَّار أنه لا يُعرف من طريق يجوز ذكره إلَّا طريق أبي بشر عن سعيد بن جُبير مع الشَّك الذي وقع في وصله، وأمَّا الكلبي فلا يجوز الرواية عنه لقوَّة ضعفه، ثم ردَّه من طريق النَّظر بأن ذلك لو وقع لارتدَّ كثير ممن أسلم، قال: ولم يُنقل ذلك، انتهى. وكذا قول ابن إسحاق وقد سُئل عنها هي من وضع الزَّنادقة.
          قال الحافظ العسقلاني: وجميع ذلك لا يتمشَّى على القواعد، فإنَّ الطُّرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلًا، وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصَّحيح وهي مراسيل يَحتجُّ بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرَّر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يُستنكر وهو قوله: ألقى الشَّيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى، وإنَّ شفاعتهم لترتجى، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه صلعم أن يزيد في القرآن عمدًا ما ليس منه، وكذا سهوًا إذا كان مغايرًا لما جاء به من التَّوحيد لمكان عصمته.
          وقد سلك العلماء في ذلك مسالك: فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلمَّا أُعلم بذلك أحكم الله آياته، وهذا أخرجه الطَّبري عن قتادة، وردَّه القاضي عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النَّبي صلعم ذلك، ولا ولاية للشَّيطان عليه في النوم، وقيل: إن الشَّيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، وردَّه ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشَّيطان {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] الآية قال: ولو كان / للشَّيطان قوَّة على ذلك لما بقي لأحد قوة في طاعة، وقيل: إنَّ المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوهم بذلك فعلَّق ذلك بحفظه صلعم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوًا، وقد ردَّ ذلك القاضي عياض أيضًا فأجاد، وقيل: لعلَّه قالها توبيخًا للكفَّار.
          قال القاضي عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدلُّ على المراد ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصَّلاة جائزًا، وإلى هذا نحا الباقلاني، وقيل: إنَّه لما وصل إلى قوله {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:20] خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به، فبادروا إلى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النَّبي صلعم على عادتهم في قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26].
          ونُسب ذلك للشَّيطان لكونه الحامل لهم على ذلك، أو المراد بالشَّيطان شيطان الإنس. وقال مجاهد: إنَّه صلعم كان يتمنَّى إنزال الوحي عليه بسرعة دون تأخير، فنسخ الله ذلك بأن عرَّفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنَّوازل، وقيل: إنه صلعم كان يتفكَّر عند نزول الوحي في تأويله إذا كان مجملًا فيلقي الشيطان في جملته ما لم يرده، فبيَّن الله تعالى أنَّه ينسخ ذلك بالإبطال، ويحكم ما أراد بأدلته وآياته، وقيل: إذا تمنَّى أراد فعلًا مقربًا إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يُخالفه، فرجع إلى الله تعالى في ذلك، وهو كقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200].
          لكن قال بعضُهم: لا يجوز حمل الأمنية على تمنِّي القلب؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر بباله صلعم فتنة للكفَّار، وذلك يبطلُه قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:53] وأجيب: بأنَّه لا يبعد أنه إذا قوي التَّمني يشتغلُ الخاطر فيحصل السَّهو في الأحوال الظَّاهرة بسببه، فيصير ذلك فتنة لهم.
          وأحسن من ذلك كله ما تقدَّم في صدر الكلام من أنَّه صلعم كان يرتِّل القرآن فارتصده الشَّيطان في سكتة من السَّكتات، ونطقَ بتلك الكلمات محاكيًا نغمته بحيث / سمعه من دنا منه فظنَّها من قوله وأشاعها، ويؤيِّده تفسير ابن عبَّاس ☻ قوله: تمنَّى بتلا.
          وكذا استحسن ابن العربي هذا التَّأويل وقال: إن هذه الآية نصٌّ في مذهبنا في براءة النَّبي صلعم ممَّا نُسب إليه، قال: ومعنى قوله: {في أُمْنِيَّتِهِ} أي: في تلاوته، فأخبر تعالى في هذه الآية أنَّ سنته في رسله إذا قالوا قولًا زاد الشَّيطان في قولهم لا أنَّهم قالوه، انتهى.
          وهذا هو اللَّائق بجلالة قدر النَّبي صلعم ، فإنَّه قد قامت الحجَّة، واجتمعت الأمَّة على عصمتهِ صلعم ونزاهته عن مثل هذه الرَّذيلة، وحاشاه عن أن يجريَ على قلبه أو لسانه شيء من ذلك لا عمدًا ولا سهوًا، أو يكون للشَّيطان عليه سبيل أو أن يتقوَّل على الله ╡ لا عمدًا ولا سهوًا، والنَّظر والعرف أيضًا يحيلان ذلك، ولو وقع لارتدَّ كثير ممن أسلم ولم ينقل ذلك، ولا كان يخفى على من كان بحضرته من المسلمين، وقد سبقَ إلى ذلك الوجه الطَّبري لجلالة قدره، وسعة علمه وشدَّة ساعده في النَّظر، فصوَّبه وحَوَّم عليه، والله هو المستعان.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَشِيدٌ}: بِالْقَصَّةِ) وفي رواية أبي ذرٍّ زيادة قوله: <جِصٌّ> بكسر الجيم وفتحها وتشديد الصاد المهملة وبالرفع؛ أي: هي جص؛ أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] بالقصَّة، وصله الطَّبري من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهد: {مَشِيدٍ} قال بالقصة؛ يعني: الجص، والقَصَّة _بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة_ وهي الجِصّ، والمشيد معناه معمول بالشِّيْد _بكسر الشين المعجمة وسكون التحتية وبالدال المهملة_ وهو الجِص؛ أي: الكلس، وفي «المغرب»: الجص معرب كج.
          وقال الجوهري: شاده يشيده شيدًا جصَّصه، وقال قتادة والضَّحاك وربيع: {قَصْرٍ مَشِيدٍ} أي: طويل، وروى الطَّبري من طريق عكرمة قال: المشيد: المجصَّص قال: والجص في المدينة يُسمَّى المَشِيد، ومن طريق قتادة قال: كان أهله شيَّدوه وحصَّنوه، والمعنى: كم من قرية أهلكنا، وكم بئر عطَّلنا عن سقائها، وقصر مشيد مرفوع البنيان أخليناه عن ساكنيه، وجعلنا ذلك عبرة لمن اعتبر.
          وعن الضَّحاك: أن هذه البئر إنَّما كانت بحضرموت في بلدة يُقال لها: حاضوراء، وذلك أن أربعة آلاف نفر ممَّن آمن / بصالح ◙ لما نجوا من العذاب أتوا حضرموت ومعهم صالح ◙، فلمَّا حضروه مات صالح ◙ فسُمِّيت حضرموت؛ لأن صالحًا لما حضرها مات فبنوا حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، وأمَّروا عليهم رجلًا يقال له: جلِهس بن جلاس بن سويد، وجعلوا وزيره سخاريب بن سوادة فأقاموا دهرًا وتناسلوا حتَّى نموا وكثروا، ثم عبدوا الأصنام وكفروا بالله تعالى، فأرسل الله تعالى إليهم نبيًا يقال له: حنظلة بن صفوان كان حَمَّالًا فيهم، فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى، وعُطلت بئرهم، وخربت قصورهم.
          وذكر الإخباريُّون: أن القصر من بناء شداد بن عاد فصار معطلًا بعد العمران لا يستطيع أحد أن يدنو منه على أميال ممَّا يُسمع فيه من أصوات الجنِّ المنكرة.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير مجاهد ({يَسْطُونَ}: يَفْرُطُونَ، مِنَ السَّطْوَةِ، وَيُقَالُ: {يَسْطُونَ} يَبْطُشُونَ) أي: قال غير مجاهد في قوله تعالى: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا} [الحج:72] أنَّ معنى {يَسْطُونَ}: «يفرطون»، وكذا فسَّره أبو عبيدة، قال في قوله تعالى: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} أي: يَفْرُطون عليه من السَّطوة، وهو من باب فرط يفرط فرطًا من باب نصر ينصر؛ أي: قصر وضيع حتَّى فات وفرط عليه إذا عجل وعدا، وفرط إذا سبق، وقوله: «من السَّطوة»؛ أي: اشتقاقه من السَّطوة، يُقال: سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف والشدَّة؛ أي: يكادون يقعون بمحمَّد صلعم وأصحابه من شدَّة الغيظ والإنكار لما خوطبوا به، ويبسطون إليهم أيديهم بالسُّوء.
          وقوله: «ويُقال...إلى آخره»، هو قول الفرَّاء فإنَّه قال: كان مشركو قريش إذا سمعوا المسلم يتلو القرآن كادوا يبطشون به، وتقدَّم في تفسير طه، وكذا روى ابن المنذر من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: ((يسطون)) فقال: يبطشون.
          وقال عبد بن حميد: أخبرني شبابة عن ورقاء، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: ((يكادون))؛ أي: كفَّار قريش، ((يسطون))؛ أي: يبطشون ((بالذين يتلون)) القرآن، وقيل: ضمن ((يسطون)) معنى يبطشون فتعدَّى تعديته، وإلا فهو يتعدَّى بعلى.
          ({وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}: / أُلْهِمُوا إِلَى الْقُرْآنِ) سقط لفظ: <إلى القرآن> في رواية غير أبي ذرٍّ، قيل: ولا بدَّ منه لأنَّ ذكر شيء من القرآن من غير تفسيره لا طائلَ تحته، ووقع في رواية النَّسفي: <{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ}: أُلهموا> هذا في وصف الجنَّة، وفسَّر {الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}: «أُلهموا إلى القرآن»، هكذا فسَّره السُّدِّي. وعن ابن عبَّاس ☻ : ((الطيِّب من القول)) شهادة أن لا إله إلا الله، ويؤيِّده قوله تعالى: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:24] وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] وعنه في رواية عطاء عنه هو قول أهل الجنَّة: الحمدُ لله الذي صدقنا وعدَهُ. وقد أخرج الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} قال: أُلهموا، وقال ابنُ زيد: يريد لا إله إلا الله والحمد لله والله أكبر.
          ({وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}: الْإِسْلَامِ) أي: إلى الإسلام، وروى ابنُ المنذر من طريق سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله: {إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} قال: القرآن، وفي قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الإسلام، والحميدُ هو الله المحمود في أفعاله، وقد ثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي، وسقط في رواية غيره، وفي نسخة وقع بعد قوله: <يسطون>...إلى آخره.
          ({ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9]: مُسْتَكْبِرٌ) ثبت هذا في رواية النَّسفي، وسقط في رواية الباقين، وقد وصله ابنُ المنذر من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ .
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({بِسَبَب إِلَى السَّمَاء} بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ البَيْتِ) أي: قال ابنُ عبَّاس ☻ في تفسير قوله ╡: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [الحج:15] أي: بحبل إلى سقف البيت، رواه ابنُ المنذر عن عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن التَّميمي، عن ابن عبَّاس ☻ بلفظ: من كان يظنُّ أن لن ينصر الله محمَّدًا صلعم فليمددْ بسببٍ إلى سماء بيته فليختنقْ به.
          ورواه عبدُ بن حميد أيضًا من طريق أبي إسحاق عن التَّميمي، عن ابن عبَّاس ☻ كذلك، والمعنى: من كان يظنُّ أن لن ينصرَ الله نبيَّه صلعم في الدُّنيا بإعلاء كلمته، وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجتهِ / والانتقام من عدوِّه فليشدد بحبل في سقف بيته فليختنق به حتَّى يموت إن كان ذلك غائظه، فإنَّ الله تعالى ناصره لا محالة، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] الآية، وقال عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ}؛ أي: ليتوصَّل إلى بلوغ السَّماء، فإنَّ النَّصر إنما يأتي محمَّدًا صلعم من السَّماء، ثم ليقطع ذلك عنه إن قدرَ عليه، وهذا وإن كان أنسبَ لفظًا لكن قول ابن عبَّاس ☻ أظهر في المعنى، وأبلغ في آلهتكم، وعلى هذا القول الثَّاني فيه استعارة تمثيلية، والأمر للتَّعجيز، وعلى الأوَّل كناية عن شدَّة الغيظِ والأمر للإهانة.
          ({تَذْهَلُ}: تُشْغَلُ) أشار به إلى قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2] وفسَّر: {تَذْهَلُ} بقوله: «تُشغَل» _بضم أوله وفتح ثالثه_، قال الثَّعلبي: كذا فسَّره ابن عبَّاس ☻ . وروى ابنُ المنذر من طريق الضَّحاك قال في قوله تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي: تسلو من شدَّة خوف ذلك اليوم، وقال أبو عبيدة: أي: تسلو، قال الشَّاعر:
صَحَا قَلْبُهُ يا عَزَّ أوْ كَادَ يَذْهَل
          وقيل: الذُّهول: الاشتغال عن الشَّيء مع دهش. و((يوم)) نصب بتذهل وضمير ((ترونها)) للزلزلة، وتكون فيما قاله الحسن يوم القيامة أو عند طلوع الشَّمس من مغربها، كما قاله علقمة والشَّعبي، أو الضَّمير للساعة، وعبَّر بمرضعة دون مرضع؛ لأنَّ المرضعة التي هي في حالِ الإرضاع ملقمة ثديها الصَّبي، والمرضع التي من شأنها أن ترضعَ وإن لم تباشر الإرضاع، فقيل: مرضعة ليدلَّ على أنَّ ذلك الهول إذا فوجئت به، وقد ألقمت للرَّضيع ثديها تنزعه عن فيه لما يلحقها من الدَّهشة، ثمَّ إنَّ النُّسخ مختلفة في ترتيب هذه الألفاظ الشَّريفة.