نجاح القاري لصحيح البخاري

{حم} السجدة

          ░░░41▒▒▒ (سُورَةُ حم السَّجْدَةِ) وسقط لفظ: <سورة> في رواية غير أبي ذرٍّ، وهي مكيَّة بلا خلاف نزلت بعد سورة المؤمن وقبل سورة الشورى، وهي ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفًا، وسبعمائة وست وسبعون كلمة، وأربع أو ثلاث أو اثنتان وخمسون آية.
          (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ (وَقَالَ طَاوُسٌ) وفي رواية: <باب وقال طاوس> بزيادة لفظ: باب، وليس في كثير من النُّسخ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ ({ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}) وسقط: <أو كرهًا> في رواية غير أبي ذرٍّ والأصيلي (أَعْطِيَا) بكسر الطاء ({قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}: أَعْطَيْنَا) أي: قال طاوس عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] أعطيا؛ أي: فسَّر قوله: {ائتيا} بقوله: «أعطيا»، بصيغة الأمر للتَّثنية من الإعطاء، وفي قوله تعالى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أعطينا؛ أي: فسَّر قوله: {أتينا} بقوله: أعطينا، بصيغة نفس المتكلِّم مع الغير من الماضي، وصله الطَّبري وابن أبي حاتم بإسنادٍ على شرط البخاري، ورواه أيضًا أبو محمَّد الحنظلي (1)، عن عليِّ بن المدرك كتابة، قال:حدثنا زيد بن المبارك:حدثنا ابن ثور، عن ابن جُريج، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عبَّاس ☻ .
          وقال ابنُ التِّين: ليس «أتينا» في كلامهم بمعنى: «أعطينا» إلَّا أن يكون ابن عبَّاس ☻ قرأَ بالمد؛ لأنَّ أتى مقصورًا معناه: جاء، وممدودًا رباعيًا معناه: أعطى، ونُقِل عن سعيد بن جُبير أنَّه قرأ ((آتيا)) بالمدِّ على معنى: أعطيا الطَّاعة، وأنَّ ابن عبَّاس ☻ قرأ: (▬آتينا↨) بالمدِّ أيضًا على المعنى المذكور صرَّح أهل العلمِ بالقراآت أنَّها قراءته، وبها قرأَ صاحباه مجاهد وسعيد بن جُبير، وقال القاضي عياض: ليس «أتى» هاهنا بمعنى: أعطى، وإنَّما هو من الإتيان، وهو المجيءُ، وبهذا فسَّره المفسِّرون.
          قال العيني: في «تفسير الثَّعلبي»: طوعًا؛ / أي: جيئًا بما خلقت فيكما من المنافع وأخرجاها وأظهرَ الخلقي، وقد روى الطَّبري من طريق مجاهد عن ابن عبَّاس ☻ قال: قال الله ╡ للسَّموات: أطلعي شمسَك وقمَرَك ونجومَك، وقال للأرض: شقِّقي أنهارك وأخرجِي ثمارِك، وقيل: إنَّهما لما أُمرتا بإخراجِ ما فيها من شمس وقمر ونهرٍ ونبات وغير ذلك، وأجابنا إلى ذلك كانتا كالمأمورين بإعطاء ما أودعتاهُ، فإذا كان موجَّهًا، وثبتت به الرِّواية فأيُّ معنى لإنكاره عن ابن عبَّاس ☻ ، وكأنَّه لما رأى عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه فسَّره بمعنى المجيء نفى أن يثبتَ عنه أنَّه فسَّره بالمعنى الآخر، وهذا عجيبٌ، فما المانع أن يكون له في الشَّيء قولان بل أكثر.
          وقال السُّهيلي في «أماليه»: قيل: إنَّ البخاري وقع له في آي من القرآن وهم، فإن كان هذا منها وإلَّا فهي قراءة بلغته، ووجهه: أعطنا الطَّاعة، كما يُقال: فلانٌ يعطي الطَّاعة لفلان، قال: وقد قُرِئَ: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا} [الأحزاب:14] بالمدِّ والقصر، والفتنة ضدُّ الطَّاعة، وإذا جاز في إحداهما جازَ في الأخرى، انتهى.
          وجوز بعض المفسِّرين أن «آتيا» بالمدِّ من المؤاتاة بمعنى: الموافقة، وبه جزم الزَّمخشري، وإليه ذهبَ الرَّازي، فعلى هذا يكون المحذوف مفعولًا واحدًا، والتَّقدير ليوافق كلٌّ منكما الأخرى قالتا: توافقنا، فَوَزْنُ «آتيا»: فاعلا كقاتلا، وآتينا فاعلنا كقاتلنا، وأمَّا إذا كان من الإيتاء بمعنى: الإعطاء، فيكون المحذوف مفعولين، والتَّقدير: أعطيا من أمركما الطَّاعة من أنفسكما قالتا: أعطيناهُ الطَّاعة، فوزن آتيا: افعلا كأكرما، ووزن آتينا أفعلنا كأكرمنَا، وهذا أرجحُ لثبوته صريحًا عن ترجمان القرآن، وما قاله ابن عطيَّة من أنَّه أرادَ الفرقتين المذكورتين حيث جعل السَّموات سماءَ والأرضين أرضًا، ثمَّ ذكر لذلك شاهدًا فغفلةٌ منه، فإنَّه لم يتقدَّم قبل ذلك إلَّا لفظ «سماء» مفرد، ولفظ «أرض» مفرد.
          نعم قوله: «طائعين»، عبَّر بالجمع بالنَّظر إلى تعدُّد كلٌّ منهما، وعبَّر بلفظ جمع المذكَّر / من العقلاء لكونهم عُوملوا معاملةَ العُقلاء في الإخبار عنهم، كما في قوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] أو المراد بـ«اتيا» من فيهما من العقلاءِ وغيرهم، فغلبَ العقلاءُ على غيرهم، ثمَّ إنَّ هذه المحاورة هل هي حقيقة أو مجاز وهل هي تخييلٌ وتمثيل فيه خلافٌ، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ الْمِنْهَالُ) بكسر الميم وسكون النون، هو: ابنُ عَمرو الأسدي مولاهم الكوفي، صدوقٌ من طبقة الأعمش، وثَّقه ابنُ معين والنَّسائي والعجلي وغيرهم، وتركه شعبة لأمر لا يُوجب فيه قدحًا، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر تقدَّم في قصَّة إبراهيم ◙ [خ¦3371] (عَنْ سَعِيدٍ) وفي رواية الأَصيلي والنَّسفي: <عن سعيد بن جُبير> أنَّه (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ) الظَّاهر أنَّه نافع بن الأزرق الذي صارَ بعد ذلك رأس الأزارقةِ من الخوارج، وكان يجالسُ ابن عبَّاس ☻ بمكَّة ويسأله ويعارضُه، ومن جملة ما وقعَ سؤاله عنه صريحًا ما أخرجَه الحاكم في «المستدرك» من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة قال: سألَ نافع بن الأزرق ابن عبَّاس ☻ عن قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات:35] {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] الحديث بهذه القصَّة حسب، وهي إحدى القصص المسؤول عنها في حديث الباب.
          وروى الطَّبراني من طريق الضَّحاك بن مُزاحم قال: قدم نافعٌ بن الأزرق، ونجدة بن عويمر في نفرٍ من رؤوس الخوارجِ مكَّة، فإذا هم بابن عبَّاس ☻ قاعداً قريبًا من زمزم، والنَّاس يسألونه، فقال له نافع بن الأزرق: أتيتك لأسألك، فسأله عن أشياءَ كثيرة من التَّفسير ساقها في ورقتين، وأخرج الطَّبري من هذا الوجه بعض القصَّة ولفظه: أنَّ نافعَ بن الأزرق أتى ابن عبَّاس ☻ فقال قول الله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فقال: إنِّي أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت لهم: آتي ابن عبَّاس / أُلقي عليه متشابه القرآن، فأخبرهم أنَّ الله تعالى إذا جمع النَّاس يوم القيامة، قال المشركون: إنَّ الله لا يقبلُ إلا ممَّن وحَّدَه، فيسألهم فيقولون: والله ربنا ما كنَّا مشركين، قال: فيتحتَّم على أفواهِهِم وتستنطق جوارحُهُم، انتهى.
          وهذه القصِّة إحدى ما ورد في حديث الباب، فالظَّاهر أنَّه المبهم فيه.
          (لاِبْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ) أي: تُشكلُ وتضطربُ عليَّ لما بين ظواهرها من التَّدافع، زاد عبد الرَّزَّاق في روايته عن مَعمر عن رجل من المنهال بسندِهِ، فقال ابنُ عبَّاس ☻ : ما هو؟ أشكٌّ في القرآن؟! قال: ليس بشكٍّ، ولكنَّه اختلاف، فقال: هات ما اختلَفَ عليك من ذلك، قال: أسمع الله يقول... وحاصل ما وقع السُّؤال في حديث الباب أربعة مواضع:
          الأوَّل: نفي المسألة يوم القيامة، وإثباتها وهو المراد بقوله: (قَالَ: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101]) وقال تعالى ({وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]) فإن بين قوله: {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} وبين قوله: {يَتَسَاءَلُونَ} تدافعًا ظاهرًا.
          الثَّاني: كتمان المشركين حالهم وإفشاؤها، وهو المراد بقوله: ({وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] {رَبِّنَا}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <{والله ربنا}> ({مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ) أي: كونهم من المشركين، وعُلِمَ من الأولى أنَّهم لا يكتمون الله حديثًا، فبينهما تدافع ظاهرًا.
          الثَّالث: خلق الأرض قبل السَّماء، وخلق السَّماء قبل الأرض، وهو المرادُ بقوله: (وَقَالَ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {دَحَاهَا} فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ) أي: في هذه الآية التي في سورة النَّازعات، وفي بعض النُّسخ <فذكر في هذه خلق السَّماء فإن فيها {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:27-29] > وفي رواية أبي ذرٍّ: <{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5]> وليس بذاك (ثُمَّ قَالَ) أي: في سورة حم السَّجدة ({أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9] إِلَى: {طَائِعِينَ}) وفي رواية الأَصيلي وابن عساكر: <إلى قوله: {طائعين} > / (فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ) وفي رواية الأَصيلي <قبل خلق السَّماء> فإن فيها: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] وهذا يدلُّ ظاهراً على أنَّ خلق الأرض قبل خلق السَّماء، والتَّدافعٌ ظاهر.
          الرابع: الإتيان بحرف «كان» الدَّال على الماضي مع أنَّ الصِّفة لازمة، وهو المراد بقوله: (وَقَالَ) تعالى ({وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]) وكان الله ({عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]) وكان الله ({سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]: فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى) أي: فكأنَّه كان تعالى موصوفًا بهذه الصِّفات في الزَّمان الماضي، ثم تغيَّر عن ذلك (فَقَالَ) أي: ابن عبَّاس ☻ مجيبًا عن ذلك، أمَّا قوله تعالى: ({فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:101] فِي النَّفْخَةِ الأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ) تنفعهم لزوال التَّعاطف والتَّراحم من فرطِ الحيرة، واستيلاء الدَّهشة بحيث يفرُّ المرء من أخيه وأمِّه وأبيه وصاحبته وبنيه قال:
لَا نَسَبَ الْيَوْمَ وَلَا خُلَّةْ                     اتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعْ
          وليس المراد قطع النَّسب.
          (وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ) لاشتغال كل بنفسهِ (ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الآخِرَةِ: {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]) فلا تدافعَ، وعن السُّدِّي أنَّ نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصَّعق والمحاسبة، والجوازِ على الصِّراط، وإثباتها فيما عدا ذلك، والحاصل أنَّ للقيامة أحوالًا ومواطن، ففي موطنٍ يشتدُّ عليهم الخوف فيشغلُهم عن التَّساؤل، وفي موطنٍ يفيقون فيتساءلون، وقد تأوَّل ابن مسعود ☺ نفي المساءلة على معنى آخر، وهو طلبُ بعضهم من بعض، فأخرج الطَّبري من طريق زاذان قال: أتيتُ ابن مسعود ☺ فقال: يُؤخذُ بيد العبد يوم القيامة فينادي: ألا إنَّ هذا فلان بن فلان، فمن كان له حقٌّ قبله فليأتِ، قال: فتودُّ المرأة أن يثبتَ لها حق على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها، فلا أنسابَ / بينهم ولا يتساءلون، ومن طريق أخرى قال: لا يسأل أحدٌ يومئذٍ بنسبٍ شيئًا، ولا يتساءلون به، ولا يمتُّ برجم.
          (وَأَمَّا قَوْلُهُ) تعالى: ({مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]) وقوله تعالى: ({وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيْثًا} [النساء:42] فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لأَهْلِ الإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <فقال المشركون> بالفاء بدل الواو (تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَخُتِمَ) بضم الخاء المعجمة على البناء للمفعول، وفي رواية أبي ذرٍّ: <فَخَتَم> بفتحات على البناء للفاعل، وفي نسخة: <فيُخْتم> على البناء للمفعول من المضارع (عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ) أي: عند نطقِ أيديهم (عُرِفَ) بضم العين على البناء للمفعول، وفي رواية الأَصيلي: <عرفوا> بفتحها على الجمع (أَنَّ اللَّهَ لاَ يُكْتَمُ) بضم أوله وفتح ثالثه على البناء للمفعول (حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}. الآيَةَ) أي: وعند علمهم أنَّ الله لا يكتمُ حديثًا {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء:42] أي: لو تسوَّت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئًا واحدًا، وأنَّهم لم يكتموا أمر محمَّد صلعم ولا نعته؛ لأنَّ ما عملوه لا يخفى على الله تعالى فلا يقدرون كتمانَه؛ لأنَّ جوارحهم تشهدُ عليهم.
          والحاصل: أنَّ الكتمانَ قبل إنطاقِ الجوارح وعدمَهُ بعده، وقد وردَ ما يؤيِّده من حديث أبي هريرة ☺ أخرجه مسلم في أثناءِ حديث، وفيه: «ثمَّ يلقى الثَّالث، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك ورسولك ويثني ما استطاع، فيقول: الآن ينبعثُ شاهدنا عليك، فيفكر في نفسه من ذا الذي يشهدُ عليَّ فيختُم على فِيْهِ، وتنطقُ جوارحه»، ثمَّ أجاب عن السُّؤال الثَّالث بقوله: (وَخَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي: في مقدارِ يومين غير مدحورة (ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ) بعد ذلك في يومين (وَدَحْوُهَا) يقال: دحوت الشَّيء دحوًا؛ أي: بسطتُه بسطًا، وفي رواية الأَصيلي وابن عساكرَ: <ودحيها> بالمثناة التحتية بدل الواو، وفي رواية / أبي ذرٍّ: <دحاها> (أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ) بكسر الجيم، وفي رواية الأَصيلي ضبط بفتح الجيم.
          (وَالآكَامَ) بفتح الهمزة، جمع: أَكَمة _بفتحتين_ وهي ما ارتفعَ من الأرض، كالتَّل والرَّابية (وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ) تعالى: ({دَحَاهَا} [النازعات:30] وَقَوْلُهُ: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}. فَجُعِلَتِ الأَرْضُ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكشميهني: <فخلقت الأرض> (وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ) والحاصل: أنَّ خلقَ نفس الأرض قبل السَّماء ودحوها بعده، وقد أُجيب عنه بأجوبةٍ أخر منها أنَّ «ثم» بمعنى: الواو فلا إيراد، وقيل: المرادُ: ترتيب الخبر لا المخبَر به، كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد:17] الآية، وقيل: على بابها لكَّنها لتفاوتِ ما بين الخَلْقين لا للتَّراخي في الزَّمان، وقيل: خلق بمعنى: قدَّر.
          ثمَّ أجاب عن السُّؤال الرابع بقوله: ({وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} [النساء:96]) زاد أبو ذرٍّ والأَصيلي: <{رحيمًا}> (سَمَّى نَفْسَهُ) أي: ذاته (ذَلِكَ) أي: غفورًا رحيمًا (وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَيْ: لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلاَّ أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ) يعني أنَّه تعالى سمَّى نفسه غفورًا رحيمًا، وهذه التَّسمية مضت؛ لأنَّ التَّعلق انقضى، وأمَّا ذلك؛ أي: ما قال من الغفوريَّة والرَّحيمية، فمعناه أنَّه لا يزال كذلك لا ينقطعُ، فإنَّ الله تعالى إذا أرادَ المغفرة أو الرَّحمة أو غيرهما من الأشياء في الحال أو الاستقبال، فلا بدَّ من وقوعِ مراده قطعًا، كذا قال الكرمانيُّ.
          قال: ويحتمل أن يكون ابن عبَّاس ☻ أجاب بجوابين: أحدهما أنَّ التَّسمية هي التي كانت ثمَّ مضتْ وانتهت، وأمَّا الغفوريَّة فلا انقطاع لها، والآخر: أنَّ معنى «كان» الدَّوام وعدم الانقطاع، فإنَّه لا يزال كذلك فإن ما شاء الله كان، ويحتمل أن يحمل السُّؤال على مسلكين، والجواب على وفقهما بأن يُقال: إنَّه مشعر بأنَّه في الزَّمان الماضي كان غفورًا، / ولم يكن في الأزلِ ما يغفرُ له، ومن يغفر له، وبأنَّه ليس في الحال غفورًا، وأجاب عن الأوَّل بأنَّه كان في الماضي سُمِّي به، وعن الثَّاني بأنَّ معنى «كان» الدَّوام، وقد قال النُّحاة: إن «كان» لثبوت خبرها دائمًا أو منقطعًا، والله تعالى أعلم.
          (فَلاَ يَخْتَلِفْ) بالجزمِ على النَّهي؛ أي: قال ابنُ عبَّاس ☻ للسَّائل المذكور: فلا يختلف (عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ولا اختلاف قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وعند ابنِ أبي حاتم من طريق مطرِّف عن المنهال بن عَمرو في آخره قال: فقال له ابن عبَّاس ☻ هل بقي في قلبك شيءٌ إنَّه ليس في القرآن شيء إلَّا نزل فيه شيءٌ، ولكن لا تعلمون وجهه.
          (حَدَّثَنِيهِ يُوسُف بن عدي) أي: الحديث السَّابق، وفي رواية أبي الوقت: <قال أبو عبد الله؛ أي: البخاري حدَّثنيه> ويروى: <حدَّثني> (يُوسُف بن عدي) هو: ابن زُريق التَّيمي الكوفي نزيل مصر، وهو أخو زكريا بن عدي بن زريق، مات سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، وليس له في البخاري إلَّا هذا الحديث، وسقط قوله: <حدَّثنيه...> إلى آخره من رواية النَّسفي، وكذا من رواية أبي نُعيم عن الجرجاني عن الفِرَبري، وثبتَ ذلك عن جمهور الرُّواة عن الفِرَبري.
          (حَدثنَا عُبَيْدُ الله بنُ عَمْروٍ) بضم العين في الأوَّل مصغرًا، وفتحها في الثاني (عَنْ زَيْدِ بنِ أنَيْسَةَ) بضم الهمزة مصغرًا أنسة _بالنون والسين المهملة_، الجزيري سكن الرها، قيل: اسم أبي أُنيسة: زيد، ومات زيد الراوي / سنة خمس وعشرون ومائة (عَنِ المِنْهالِ) بن عَمرو الأسدي المذكور (بِهَذَا) أي: الحديث السَّابق قيل: وإنَّما غيَّر البخاري سياق الإسناد عن ترتيبه المعهود بأن علَّقه أولًا، ثمَّ أسندَه إشارة إلى أنَّه ليس على شرطه، وإن صارت صورتُه صورة الموصول، ويؤيِّده كلام البرقاني حيث قال: ولم يخرِّج البخاري ليوسف بن عدي ولا لعبيد الله بن عَمرو ولا لزيد بن أبي أنيسة مسنَدًا سواهُ.
          وقد صرَّح ابن خُزيمة في «صحيحه» بهذا الاصطلاح، وأنَّ ما يورده بهذه الكيفية ليس على شرط «صحيحه»، وقال الكرماني: لعلَّه سمع أولًا مرسلًا وآخرًا مسنَدًا، فنقله كما سمعَه، وفيه إشارة إلى أنَّ الإسناد ليس على شرطه، انتهى.
          وقال الحافظُ العسقلاني: وهذا بعيد جدًا، وتعقَّبه العيني حيث قال: ليتَ شعري ما وجهُ بعده وما برهانُه على ذلك، بل الظَّاهر هو الذي ذكره.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25] مَحْسُوبٍ) كذا في رواية أبي ذرٍّ والأَصيلي، وفي رواية غيرهما: <{ممنون} محسوب> وصله الفريابي من طريق مجاهد به، وروى الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {غير ممنون} قال: غير منقوص، وهو بمعنى قول مجاهد: محسوب، والمراد أنَّه يحسب فيحصى ولا ينقصُ منه شيئًا، وقيل: غير ممنونٍ به عليهم ({أَقْوَاتَهَا}: أَرْزَاقَهَا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10] الآية، وفسَّر أقواتها بقوله: أرزاقها أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن الحسن بلفظه قال: وقال قتادة: جبالها ودوابها وأنهارها وثمارها، ووصله الفريابيُّ من طريق مجاهد بلفظ: {وقدَّر فيها أقواتها} قال: من المطر، فعلى هذا فالأقوات للأرض لاللسكان؛ أي: قدر لكلِّ أرض حظها من المطر، وقيل: أقواتًا تنشأُ منها بأن خصَّ حدوث كلِّ قوتٍ بقطر من أقطارها، وقيل: أرزاق أهلها، وقال محمَّد بن كعب: قدَّر أقوات الأبدان قبل أن يخلقَ الأبدان، وقال أبو عبيدة: أقواتها، واحدها قوتٌ وهي الأرزاقُ.
          ({فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}: مِمَّا أَمَرَ بِهِ) أشار به / إلى قوله تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12] وفسَّره بقوله: ممَّا أَمَر به _بفتح الهمزة والميم_ وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: ممَّا أمر به، وزاد من خلق النَّيِّرين والرُّجوم وغير ذلك، وعن قتادة: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وخلقَ في كلِّ سماء من الملائكة، والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلمه إلَّا الله ({نَحِسَاتٍ}) بكسر الحاء المهملة، وهي قراءةُ ابن عامر والكوفيين، وقرأ الباقون بإسكانها، (مَشَائِيمَ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] وفسَّرها بقوله: مشائيم، جمع: مشؤمة من الشُّؤم، وصله الفريابيُّ من طريق مجاهد به، وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة: {ريحًا صرصرًا} باردة، {نحساتٍ} مشؤمات، وقال أبو عبيدة: الصَّرصر هي: الشَّديدة الصَّوت العاصفة {نحسات} ذوات نحوس؛ أي: مشائيم، و{نحسات} نعت لأيَّام، والجمع بالألف والتاء مطَّرد في صفة ما لا يعقل كـ{أيَّام معدودات}، وقيل: كنَّ آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، وما عذِّب قوم إلَّا في يوم الأربعاء.
          ({وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت:25] {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ} [فصلت:30] عِنْدَ الْمَوْتِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ والنَّسفي وجماعة وعند الأَصيلي: <{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} قَرَنَّاهم بهم> بفتح القاف والراء والنون المشددة، <{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} عند الموت>، وهذا هو وجه الكلام وصوابه: إذ ليس لقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ} إلى آخره تعلُّق به بطريق التَّفسير ولا بغيرهِ، وفي التَّفسير: {قَيَّضْنَا لَهُمْ} سلَّطنا وبعثنا لهم قرناء، وقيل: قدَّرنا للكفرةِ قرناء؛ يعني: نظراء من الشَّياطين يستولون عليهم استيلاء القبض على البيض، وهو القشر حتَّى أضلوهم.
          وقال الزَّجَّاج: سيبنا لهم، / وقد أخرجه الفريابي من طريق مجاهد بلفظ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} شياطين. وفي قوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} قال: عند الموت، وكذلك أخرجه الطَّبري مفرقًا في موضعيه، ومن طريق السُّدي قال: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} عند الموت. ومن طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} وذلك في الآخرة. ويمكن الجمع بين التَّأويلين، فإنَّ حال الموت أول أحوال الآخرة في حقِّ الميِّت، والحاصل من التَّأويلين أنَّه ليس المراد تتنزل عليهم في حال تصرُّفهم في الدُّنيا.
          ({اهْتَزَّتْ} بِالنَّبَاتِ {وَرَبَتْ}: ارْتَفَعَتْ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] وفسَّر: {اهْتَزَّتْ} بقوله: بالنَّبات {وَرَبَتْ} بقوله: ارتفعتْ، وصله الفريابيُّ من طريق مجاهد إلى قوله: ارتفعتْ، وزاد: قبل أن تنبت وذلك لأنَّ النبت إذا قرب أن يظهرَ تحرَّكت له الأرض وانتفختْ، ثمَّ تصدَّعت عن النَّبات.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير مجاهد في معنى: ربت ارتفعتْ ({مِنْ أَكْمَامِهَا}) بفتح الهمزة، جمع: كم _بالكسر_ وهو وعاءُ الطَّلع (حِينَ تَطْلُعُ) بسكون الطاء المهملة وضم اللام، وفي رواية أبي ذرٍّ والنَّسفي: <{اهْتَزَّتْ} بالنَّبات، {وَرَبَتْ} ارتفعت من أكمامها حين تطلع> بحذف قوله: «وقال غيره» والصَّواب إثباته؛ لأنَّ قوله: ((من أكمامها حين تطلع)) ليس من كلام مجاهد ({لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}: أَيْ بِعَمَلِي) بتقديم الميم على اللام، ويروى: <بعلمي> والأوَّل أشبه (أَنَا مَحْقُوقٌ بِهَذَا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50] وفسَّره بقوله؛ أي: بعملي إلى آخره، ومعنى قوله: أنا محقوق؛ أي: مستحقٌّ له بعلمي وعملي وما علم الأبله أنَّ أحدًا لا يستحقُّ على الله بشيء؛ لأنَّه كان عاريًا من الفضائل، فكلامه ظاهرُ الفساد، وإن كان موصوفًا بشيءٍ من الفضائل، فهي إنَّما حصلتْ له بفضلِ الله وإحسانهِ، وقال النَّسفي: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}؛ أي: هذا حقِّي لأني استوجبتُه بما عندي من خيرٍ / وفضلٍ وأعمال برٍّ، وقيل: هذا لي لا يزول عنِّي.
          وصله الطَّبري من طريق ابنِ أبي نَجيح عن مجاهد، ثمَّ إنَّ اللام في «ليقولنَّ» جواب القسم لسبقه الشَّرط، وجواب الشَّرط محذوف، وأَبْعدَ من قال: اللَّام جواب الشَّرط والفاء محذوفة منه؛ لأن ذلك شاذٌّ مختلف في جوازه في الشِّعر حتِّى إن المبرِّد يمنعه فيه، وقال في قوله:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهُا
          إنَّ الرواية: من يفعل الخير فالرَّحمن يشكره.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير مجاهد ({سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}: قَدَّرَهَا سَوَاءً) كذا في رواية أبي ذرٍّ والأَصيلي، وسقط قوله: <وقال غيره> في رواية غيرهما والأوَّل أشبه؛ أي: قال غير مجاهد في قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] وقوله: {فِيهَا}؛ أي: في الأرض أقواتها؛ أي: أرزاق أهلها ومعائشهم وما يصلحهم، وقوله: {فِيْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} يعني: هذا مع قوله: خلق الأرض في يومين أربعة أيام، وأريد باليوم يوم الأحد والاثنين، وقوله: {سَوَاءً}؛ أي: سواء للسَّائلين عن ذلك، قال أبو عبيد والثَّعلبي: «سواءً» بالنصب على المصدرية؛ أي: استوتْ سواه، وقيل: على الحال.
          وقال الطَّبري: قرأ الجمهور: {سواءً} بالنصب وأبو جعفر ويعقوب بالجرِّ، فالنَّصب على المصدرِ أو على نعت الأقوات، والرَّفع على القطعِ؛ أي: هو سواء، والجرُّ على نعت الأيَّام أو الأربعة هذا، وقال السُّدِّي وقتادة: المعنى: سواء لمن سأل عن الأمر واستفهمَ عن حقيقةِ وقوعهِ، وأراد العبرة فيه فإنَّه يجدُه، وقيل: معنى للسَّائلين؛ أي: للسَّائلين الله حوائجهم، وعن ابن زيد: قدَّر ذلك على قدر مسائلهم، وقيل: معناه للسَّائلين وغير السَّائلين؛ يعني: أنَّه بين أمر الخلقِ، خلق الأرض وما فيها للسَّائلين وغير السائلين، ويعطي لمن سأل ومن لا يسأل.
          ({فَهَدَيْنَاهُمْ}: دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَقَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}. وَكَقَوْلِهِ: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}) أشار بقوله: {فَهَدَيْنَاهُمْ} إلى قوله تعالى: / {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] وفسَّر: {فهديناهم} بقوله: دللناهُم على الخير والشَّر، أراد أن الهدايةَ هنا بمعنى الدَّلالة المطلقة فيه وفي أمثاله؛ كقوله تعالى في سورة البلد: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}؛ أي: طريق الخير والشَّر، قال أكثرُ المفسِّرين: بيَّنا له طريق الخير والشَّر والحقِّ والباطل والهدى والضَّلال، وقال سعيد بن المسيَّب والضَّحاك: أي: دللناهُ الثَّديين، والنَّجد طريق في الارتفاع، وكذلك الهداية بمعنى الدَّلالة في قوله تعالى: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3].
          (وَالْهُدَى الَّذِي هُوَ الإِرْشَادُ بِمَنْزِلَةِ أَسْعَدْنَاهُ) أي: وأما الهُدى الذي هو الدَّلالة الموصلة إلى البغية، وعبَّر عنه المؤلِّف بالإرشاد، فهو بمعنى: أسعدناه _بالسين المهملة_ (مِنْ ذَلِكَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <ومن ذلك> أي: من الهداية التي بمعنى الدَّلالة الموصلة إلى البغية التي عبَّر عنها المؤلِّف بالإرشاد والإسعاد (قَوْلُهُ) تعالى ({أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]) أي: ونحوه ممَّا هو كثير في القرآن، وقوله: أسعدناه _بالسين المهملة_، كذا في رواية أبي ذرٍّ وأبي الوقت والأَصيلي، وفي رواية غيرهم: <أصعدناه> بالصاد المهملة، قال السُّهيلي فيما نقله عنه الزَّركشي والبرماوي والحافظ العسقلاني: هو بالصاد أقرب إلى تفسير «أرشدناهُ» من «أسعدناه» بالسين المهملة؛ لأنَّه إذا كان بالسين كان من السَّعد والسَّعادة ضدُّ الشَّقاوة، وأرشدت الرَّجل إلى الطَّريق وهديتُه السَّبيل بعيد من هذا التَّفسير، فإذا قلت: أصعدناهُم _بالصاد_ خرجَ اللَّفظ إلى معنى الصُّعُدات في قوله: ((إيَّاكم والقعود على الصُّعُدات)) وهي الطُّرق، وكذلك أصعد في الأرض: إذا سار فيها على قصد، فإن كان البخاري قصد هذا وكتبها في نسخته بالصاد التفاتًا إلى حديث الصُّعُدات فليس بمنكر، انتهى.
          قال الشَّيخ بدر الدِّين الدَّماميني: لا أدري ما الذي أبعد هذا التَّفسير مع قربِ ظهوره، فإنَّ الهداية إلى السَّبيل والإرشاد إلى الطَّريق إسعاد لذلك الشَّخص المهدي، إذ سلوكُه في الطَّريق مفضٍ إلى السَّعادة ومجانبته ممَّا يؤدِي إلى ضلالهِ وهلاكِهِ، وأمَّا قوله: فإذا قلت أصعدنا بالصاد... إلى آخره ففيه تكلُّف لا داعي له، وما في النُّسخ صحيحٌ بدونه، انتهى.
          وقال الحافظُ العسقلاني: والذي عند البخاري إنما هو بالسين، / كما وقع عند أكثر الرُّواة عنه، وهو منقول من «معاني الفرَّاء»، قال في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] يقول: دللناهم على مذهب الخير ومذهب الشَّر؛ لقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ثمَّ ساق عن عليِّ ☺ في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قال: الخير والشَّر، قال: وكذا قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} قال: والهدى على وجه آخر، وهو الإرشادُ ومثله قولك: أسعدناهُ، ومن ذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] في كثير من القرآن، والغرض أن الهداية في بعض الآيات بمعنى الدَّلالة الموصلة إلى المقصود، وهل هو مشترك فيهما أو مجاز أو حقيقة، ومجاز فيه خلاف.
          ({يُوزَعُونَ}: يُكَفَّوْنَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] وفسَّره بقوله: يُكَفَّون _بضم الياء وفتح الكاف_؛ أي: يوقف سوابقهم حتَّى يصلَ إليهم مواليهم، وعن أبي عُبيدة: يدفعون، من وَزَعْتُ إذا كففتَ ومنعتَ، وأخرج الطَّبري من طريق السُّدي في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال: عليهم وزعة تُردُّ أولاهُم على أُخرهم؛ أي: يحبسُ أولهم إلى آخرهم؛ ليتلاحقوا، وقيل: معناه يُساقون ويدفعون إلى النَّار ({مِنْ أَكْمَامِهَا}: قِشْرُ الْكُفُرَّى هِيَ الْكُمُّ) كذا في رواية غير أبي ذرٍّ، وفي روايته سقط لفظ: «هي»، وفي رواية الأَصيلي: <الكم واحدها> يعني: الكم واحد الأكمام، وهو قول الفراء بلفظه، أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت:47] بقوله: قشر الكُفُرَّى _بضم الكاف وفتح الفاء وضمها أيضًا وتشديد الراء مقصورًا_، وفسَّره بقوله: هي الكِم _بكسر الكاف_، وقال الحافظُ العسقلاني: كاف الكم مضمومة ككم القميص، وعليه يدلُّ كلام أبي عبيدة، وبه جزم الرَّاغب.
          ووقع في «الكشاف»: بكسر الكاف، فإن ثبتَ فلعلَّها لغة فيه دون كُمِّ القميص، وتعقَّبه العيني: بأنَّه لا اعتبار لأحدٍ في هذا الباب مع الزَّمخشري، فإنَّه فرَّق بين كُم القميص وكِم الثَّمرة، بالضم في الأوَّل، والكسر في الثاني، وكذلك فرَّق بينهما الجوهري وغيره، وعن أبي عبيدة: {مِنْ أَكْمَامِهَا} أوعيتها، واحدها: كمة، وهي ما كانت فيه وكم وكمة واحد، والجمع: أكمام وأكمة.
          وقال الثَّعلبي: {أَكْمَامِهَا}: أوعيتها، واحدها: كمة، وهي كل ظرف لمال وغيره، ولذلك سُمِّي قشر الطَّلع؛ أي: الكفرى التي تنشقُّ عن الثَّمرة كمة، وعن ابن عبَّاس ☻ / يعني: الكفرى، قبل أن تنشقَ فإذا انشقَّت فليست بأكمام.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) وسقط في بعض النسخ لفظ: «وقال غيره» (ويُقالُ للعِنَبِ أيضًا) وفي بعض النسخ سقط لفظ «أيضًا» (إذا خَرَجَ كافُورٌ وكُفُرَّى) قاله الأصمعي، وقال غيره: وعاء كلِّ شيءٍ كافوره، وقال الخطَّابي: قول الأكثرين: الكفرى: الطَّلع بما فيه، وعن الخليل: أنَّه الطَّلع، ولم يثبت قوله: «ويقال إلى آخره» إلا في رواية المستملي.
          ({وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قَرِيبُ) كذا في رواية الأَصيلي، وفي رواية الأكثرين: <القريب> أشار به إلى قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] وفسَّر: {الحميم} بقوله: قريب، وعند النَّسفي: <وقال معمر> فذكره، ومَعمر هو: ابن المثنَّى أبو عبيدة، وهذا كلامه قال في قوله: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} الحميم: القريب، وقال عبد الرَّزَّاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قال: ولي قريب ({مِنْ مَحِيصٍ}: حَاصَ حَادَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <حاص عنه حاد> بزيادة: <عنه> أشار به إلى قوله تعالى: {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} وفسَّره بفعله، وهو حاص يحيصُ، وفسَّر حاص بقوله: حاد، ويروى: حاص عنه: حاد عنه.
          وقال أبو عبيدة في قوله: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:48] يقال: حاص عنه؛ أي: عدل وحاد، وقال في موضع آخر: من محيص؛ أي: معدل، وحاصل المعنى: ما لهم من مهرب، وكلمة {ما} حرف وليست باسم فلذلك لم يعمل فيه قوله: «وظنَّوا»، وجعل الفعل ملغىً.
          ({مِرْيَةٍ}: وَمُرْيَةٍ وَاحِدٌ؛ أَيِ: امْتِرَاءٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} [فصلت:54] وقال: مِرية _بكسر الميم_، ومُرية _بضمها_ واحد، ومعناها: الامتراء، وقراءة الجمهور بالكسر، وقرأ الحسنُ البصري بالضم، وهو قول أبي عبيدة أيضًا (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}: الْوَعِيدُ) وفي رواية الأَصيلي: هي وعيدٌ أشار به إلى قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]، ونقل عن مجاهد أنَّ هذا القول وعيد؛ يعني: أنَّ الأمر هنا ليس على حقيقته، بل هو أمر تهديدٍ وتوعيدٍ وتوبيخ، وقد وصله عبد بن حُميد من طريق سفيان، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} قال: هذا وعيد، وأخرجه عبد الرَّزَّاق / من وجهين آخرين عن مجاهد، وقال أبو عبيدة: لم يأمرهُم بعمل الكفرِ، وإنَّما هو توعُّد.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وهو موافق للتلاوة؛ أي: بالخصلة التي هي أحسنُ (الصَّبْرُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوهُ) وفي نسخة: <فإذا فعلوا> بدون الضمير؛ أي: الصَّبر والعفو (عَصَمَهُمُ اللَّهُ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ) وصار الذي بينهم وبينه عداوة ({كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}) وزيد في رواية: <قريب>، وقد وصله الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: أمر الله المؤمنين بالصَّبر عند الغضب والعفو عند الإساءة إلى آخره، ومن طريق عبد الكريم الجزري عن مجاهد: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] السَّلام.


[1] هو ابن أبي حاتم