نجاح القاري لصحيح البخاري

{فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون}

          ░4▒ (باب قَوْلِهِ) سقط لفظ: <باب> في رواية غير أبي ذرٍّ، ولفظ: <قوله> في رواية الكُشميهني والحمويي ({فَاذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ}) عطفٌ على المستتر في «اذهبْ» وجاز ذلك للتَّأكيد بالضَّمير، يُقال: الظَّاهر أنَّهم أرادوا حقيقة الذَّهاب كُفرًا واستهانةً بالله ورسوله، وعدم مبالاةٍ بهما على أنَّ مذهبَ اليهود التَّجسيم، كما قاله القسطلاني، ويؤيِّد كونهم أرادوا حقيقة الذَّهاب مقابلته بالقعود في قولهم ({فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}) وقال الزَّمخشري: ويحتمل أن يعبَّر بالذَّهاب هنا عن القصد والإرادة، كما تقول: كلمته فذهب يجيبني؛ أي: قصد إجابتي، وقال الدَّاودي: المراد بقوله: {وَرَبُّكَ} هارون ◙؛ لأنَّه كان أكبر سنًا من موسى ◙. وردَّ عليه ابن التين بقوله: هذا خلاف قول أهل التَّفسير، وما أرادوا إلَّا الرَّبَّ ╡ لأجل هذا عوقبوا.
          وأصل هذا أنَّ موسى ◙ [أمر قومه أن يجاهدوا ويدخلوا بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمن أبيهم يعقوب ◙] كما أخبر الله ╡ عن ذلك قبل هذه الآية بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] الآية، فكان جوابهم: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة:22] الآية {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة:24] الآية أُمِر أن يدخل / مدينة الجبَّارين، وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عينًا، من كلِّ سبطٍ منهم عينًا ليأتوه بخبر القوم، فلمَّا دخلوها رأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وعظمتهم فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثَّمار من حائطه، فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلَّما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمِّه مع الفاكهة حتَّى التقطهم كلُّهم فجعلهم في كمِّه مع الفاكهة، وذهبَ إلى ملكهم فنثرهُم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا، فاذهبوا فأخبروا صاحبكم. رواه ابن جرير عن عبد الكريم بن الهيثم: حدَّثنا إبراهيم بن بشار: حدَّثنا سفيان عن أبي سعيدٍ عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ . قال ابنُ كثير: وفي هذا الإسناد نظرٌ.
          وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي قال: حدَّثنا أبو صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: لمَّا نزل موسى ◙ وقومه الأرض المقدَّسة وجدوا فيها مدينةً فيها قومٌ جبَّارون خلقهم خَلْق منكر، بعث اثني عشر رجلًا وهم النُّقباء الذين ذكرهم الله تعالى ليأتوا بخبرهم، فلقيهم رجلٌ من الجبَّارين فجعلهم في كسائهِ وحملهم حتَّى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، ثمَّ قالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فأخبروهم بما رأيتُم، فقال لهم موسى ◙: اكتموا هذا، فلم يكتم إلَّا رجلان يوشع وكالب وهما المذكوران في قوله ╡: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة:23] الآية قيل: اسم هذه المدينة أريحا. وقال البكري: يُقال لها أيضًا: أريح.
          وفي حديث عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ : دخل منهم رجلان حائطًا لرجلٍ من الجبَّارين فأخذهما فجعلهما في كمِّه.
          وفي «تفسير مقاتل»: كان في أريحا ألف قريةٍ في كلِّ قريةٍ ألف بستان، فلمَّا دخلها النُّقباء خرج إليهم عوج بن عناق فاحتملهم ومتاعهم بيده حتَّى وضعهم بين يدي ملكهم، واسمه: مانوس بن ششورث، فلمَّا نظر إليهم أمر بقتلهم، فقالت امرأته: أنعم على هؤلاء المساكين / ودعهم فليرجعوا وليأخذوا طريقًا غير الَّذي جاؤوا منها، فأرسلهم لها فأخذوا عنقودًا من كرومهم فحملوه على عمودٍ بين رجلين فعجزوا عن حمله، وحملوا رمَّانتين على بعض دوابِّهم فعجزت الدَّابَّة عن حملها، فقدموا على موسى ◙ وذكروا حالهم، وأنَّ طول كلِّ رجلٍ منهم سبعة أذرعٍ في سبعة أذرع ونصف، وكانوا من بقايا قوم عادٍ يُقال لهم: العماليق.
          وعن مجاهد: كان لا يقلُّ عنقود عنبهم إلَّا خمسة رجالٍ أو أربعة، وفي رواية عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ : فأعطوهم حبَّة عنبٍ تكفي الرَّجل.
          وقال العيني: المراد بالأرض المقدَّسة المذكورة في الآية دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقال قَتَادة: هي الشَّام كلُّها، وقال السُّهيلي: الأرض المقدَّسة هي بيت المقدس وما حولها، يُقال لها: إيليا وتفسيرها بيت الله. وقال سفيان الثَّوري عن الأعمش عن مجاهدٍ عن ابن عبَّاس ☻ : الأرض المقدَّسة: هي الطُّور وما حوله، والله تعالى أعلم.
          قال ابن كثير: وقد ذكر كثيرٌ من المفسِّرين أخبارًا من وضع بني إسرائيل في عظمة خَلْق هؤلاء الجبَّارين، وأنَّه كان فيهم عوج بن عُنُق بنت آدم ◙، وأنَّه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعًا وثلث ذراع.
          وهذا شيءٌ يستعجب منه، ثمَّ هو مخالفٌ لما في الصَّحيح [خ¦3326]: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((إنَّ الله خلق آدم طوله ستون ذراعًا، ثمَّ لم يزل الخلق ينقص حتَّى الآن)) ثمَّ ذكروا أنَّ عوجًا كان كافرًا، وأنَّه امتنع من ركوب السَّفينة، وأنَّ الطَّوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذبٌ وافتراءٌ فإنَّ الله تعالى ذكر أنَّ نوحًا ◙ دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء:119-120] وقال تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43] وإذا كان ابن نوحٍ غرق فكيف يبقى / عوج بن عُنُق وهو كافرٌ، وهذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثمَّ في وجود رجلٍ يقال له: عوج بن عُنُق نظرٌ، انتهى.