نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب المكاتب

          ░░50▒▒ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، فِي المُكَاتَبِ) كذا وقع لأبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <كتاب المكاتب> وأثبتوا كلُّهم البسملة، و«المكاتَب» _ بفتح التاء_ هو: الرَّقيق الذي يكاتبه مَولاه على مالٍ يؤدِّيه إليه بحيث إنَّه إذا أدَّاه عَتَقَ، وإن عجز رُدَّ إلى الرِّق، وبكسر التاء هو مولاه الذي بينهما عقد الكتابة، وبعبارةٍ أُخرى: المكاتَب _بالفتح_: من يقع له الكتابة، وبالكسر: من تقع منه، وكاف «الكِتَابة» تكسر وتفتح كعين: العتاقة.
          والكتابة وكذا المكاتبة هي بيعُ الرَّقيق من نفسه بدين مؤجَّل يؤدِّيه بنجمين وأكثر، وقيل: هي عقدٌ بين المولى وعبده بلفظ الكتابة، أو ما يؤدِّى معناه من كلِّ وجهٍ يوجب التَّحرير يداً في الحال ورقبة في المآل. وقيل: هي تعليق عتق بصفة على معاوضةٍ مخصوصةٍ، وقيل: هي أن يقولَ الرَّجل لمملوكه كاتبتك على ألف درهمٍ مثلاً، ومعناه: كتبتُ لك على نفسي أن تعتقَ منِّي إذا وفيت المال، أو كتبتُ لي على نفسك أن تفيَ بذلك؛ أي: كتبتُ عليك وفاءَ المال، وكتبتُ عليَّ العتقَ.
          قال الرَّاغب: واشتقاقها من «كتب» بمعنى: أوجبَ، ومنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]، أو بمعنى جمع وضم، يُقال: كتبتُ الكتاب، إذا جمعت بين الكلمات والحروف، فعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام، وعلى الثَّاني تكون مأخوذة من الكتابة بمعنى: الخطِّ؛ لوجوده عند عقدها غالباً.
          فإن قيل: سائرُ العقود يوجد فيها هذان المعنيان أيضاً فلِمَ لا يسمَّى بهذا الاسم؟
          فالجواب: أنَّ وجه التَّسمية لا يلزم أن يطَّرد، ألا ترى أنَّ القارورة سُمِّيت بهذا الاسم؛ لقرار المائع فيها ولم يسمَّ الكوز ونحوه به، وإن كان يوجد / فيه معنى القرار أيضاً.
          وقال الرُّوياني: الكتابة إسلاميةٌ ولم تكن تعرف في الجاهلية، وردَّ عليه بأنَّها كانت متعارفةً قبل الإسلام فأقرَّها النَّبي صلعم .
          وقال ابن خُزيمة في كلامه على حديث بَرِيرة: قيل: إنَّ بَرِيرة أوَّل مكاتبة في الإسلام، وقد كانوا يتكاتبون في الجاهليَّة بالمدينة.
          وفي «التوضيح»: واختلف في أوَّل من كوتب في الإسلام، فقيل: سلمان الفارسي ☺ كاتب أهله على مائة وديةٍ نجمَّها لهم فقال: صلعم : ((إذا غرستها فآذنِّي قال: فلمَّا غرستها آذَنته، فدعا فيها فلم يمت منها ودية واحدة)).
          وقيل: أوَّل من كوتب أبو المؤمِّل فقال: صلعم : ((أعينوه)) فقضى كتابته وفضلت عنده، فاستفتى رسول الله صلعم فقال: ((أنفقْها في سبيل الله)).
          وحكى ابن التِّين: أنَّ أوَّل من كُوتب من النِّساء بَريرة، كما سيأتي حديثها في هذه الأبواب [خ¦2560]، وأوَّل من كُوتب بعد النَّبي صلعم أبو أميَّة مولى عمر ☺، ثمَّ سيرين مولى أنس ☺.
          ثمَّ الكتابة خارجةٌ عن القياس عند من يقول إنَّ العبد لا يملك، وهي لازمةٌ من جهة السَّيد إلَّا إن عجز العبد، وجائزةٌ له على الرَّاجح من أقوال العلماء.