نجاح القاري لصحيح البخاري

الحجرات

          ░░░49▒▒▒ (سُوْرَةُ الْحُجُرَاتِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ. وسقط لفظ: ((سورة)) في رواية غيره، قال أبو العبَّاس: مدنية كلها ما بلغنا فيها اختلاف. وقال السَّخاوي: نزلت بعد المجادلة وقبل التَّحريم.
          وهي ألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفًا، وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة، وثمان عشر آية. وقال الزَّجاج: يقرأ الحجرات بضم الجيم وفتحها، ويجوز في اللغة التَّسكين، ولا أعلم أحدًا قرأه، وهي جمع الحجر. والحجر جمع: حجرة، وهو جمع الجمع، والمراد بيوت أزواج النَّبي صلعم .
          (╖) ثبتت البسملة في رواية أبي ذرٍّ لا في رواية غيره (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لاَ تُقَدِّمُوا}) بضم أوله وكسر ثالثه (لاَ تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ) أي: قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] أي: لا تفتاتوا ولا تسبقوا من الافتيات، وهو افتعالٌ من الفوت وهو السَّبق إلى الشَّيء، دون ائتمار من يؤتمرُ، ومادته فاء وواو ومثناة فوقية، وقوله: «حتى يقضيَ الله على لسانه»؛ أي: ما شاء.
          وقد وصله عبدُ بن حميد من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد. قال الزَّركشي: الظَّاهر أنَّ هذا التَّفسير على قراءة ابن عبَّاس ☻ بفتح التاء والدال، وكذا قيَّده البَيَّاسي، وهي قراءة يعقوب الحضرمي، / والأصل: لا تتقدَّموا، فحذفت إحدى التائين. وقال به الحافظُ العسقلاني حيث قال: وهي التي ينطبق عليها التَّفسير.
          وقال في «المصابيح» متعقبًا لقول الزَّركشي: ليس هذا بصحيح؛ بل هذا التفسير متأتٍّ على القراءة المشهورة أيضًا، فإن قدم يجيء بمعنى تقدَّم قال الجوهريُّ: وقدم بين يديه؛ أي: تقدم، قال الله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} [الحجرات:1] انتهى. قال الإمام فخر الدِّين: والأصحُّ أنَّه إرشادٌ عامٌّ يشمل الكلَّ، ومنعٌ مطلق يدخل فيه كلُّ افتياتٍ وتقدُّمٍ واستبداد بالأمر، وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورةٍ، انتهى.
          وقد فصل بعضُ المفسِّرين الأقوال الواردة فيه. فعن ابن عبَّاس ☻ : لا تقولوا خلاف الكتاب والسُّنَّة، وعنه: لا تتكلَّموا بين يدي كلامه. وعن جابر والحسن: لا تذبحوا قبل أن يذبحَ النَّبي صلعم ، فأمرهم أن يعيدوا الذَّبح. وقد روى الطَّبري من طريق سعيد عن قتادة قال: ذُكر لنا أنَّ أناسًا كانوا يقولون: لو أُنزل في كذا فأنزلها الله. قال: وقال الحسنُ: هم أناسٌ من المسلمين ذبحوا قبل الصَّلاة يوم النَّحر، فأمرهم النَّبي صلعم بالإعادة. وعن عائشة ♦: لا تصوموا قبل أن يصومَ نبيِّكم.
          وعن عبد الله بن الزُّبير قال: قدم وفد من بني تميم على النَّبي صلعم فقال أبو بكر ☺: أمِّر القعقاع بن معبد بن زُرارة. وقال عمر ☺: أمر الأقرع بن حابس، وقال أبو بكر ☺: ما أردت إلَّا خلافي. وقال عمر ☺: ما أردتُ خلافك، فارتفعت أصواتهما، فأنزل الله ╡: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات:1].
          وعن الضَّحَّاك: يعني: في القتال وشرائع الدِّين يقول: لا تقضوا أمرًا دون رسول الله صلعم . وعن الكلبي: لا تسبقوا رسول الله صلعم بقولٍ ولا فعلٍ حتى يكون هو يأمركم. وعن ابن زيد: لا تقطعوا أمرًا دون الله ورسوله، ولا تمشوا بين يدي النَّبي صلعم .
          تنبيه: قوله: {لا تُقدِّموا} بضم التاء وتشديد الدال المكسورة. قال الزَّمخشري: قدمه وأقدمه منقولان بتثقيلِ الحشو والهمزة، من قدمه إذا تقدَّمه، وحذف مفعوله ليتناول كلَّ ما يقعُ في النَّفس مما يقدّم. وعن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قرأ بفتح التاء والدال. /
          وقرأ: ((لا تَقدَّمُوا)) بفتح التاء وتشديد الدال بحذف إحدى التاءين، من تتقدموا.
          ({امْتَحَنَ}: أَخْلَصَ) ويُروى: <{امْتَحَنَ اللَّهُ} أخلص الله> أشار به إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] وفسَّره بقوله: «أخلص». وصله الفريابيُّ من طريق ابن أبي نجيح عنه بلفظه، وكذا قال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة قال: أخلص الله قلوبهم فيما أحبَّ، وهو من امتحن الذَّهب: إذا أذابه وميَّز إبريزه من خبيه.
          ({تَنَابَزُوا}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <{ولا تنابزوا}> بزيادة: ((ولا)) وقد زاد أيضًا قبل قوله: {ولا تنابزوا} لفظ: <باب> (يُدْعَى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] وفسَّر: {تَنَابَزُوا} بقوله: «يدَّعى بالكفر بعد الإسلام» وهو حاصل مصدره وهو التَّنابز. وقد وصله الفريابيُّ عن مجاهدٍ بلفظ: ((لا تدعو الرجل بالكفر وهو مسلم)). وقال عبد الرَّزاق عن مَعمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11] قال: لا يطعنُ بعضُكم على بعضٍ {ولا تنابزوا بالألقابِ}، قال: لا تقلْ لأخيك المسلم يا فاسقُ يا منافقُ. وعن عكرمة هو قولُ الرَّجل للرَّجل: يا فاسقُ يا منافق يا كافر. وعن الحسن قال: كان اليهوديُّ والنَّصراني يسلم فيقال له بعد إسلامه: يا يهوديُّ يا نصرانيُّ فنهوا عن ذلك. وروى الطَّبري من طريق عكرمة نحوه. وروى أحمد وأبو داود من طريق الشَّعبي: حدَّثني أبو جبيرة بن الضَّحَّاك قال: فينا نزلت هذه الآية: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}في بني سلمة قدم رسول الله صلعم المدينة وليس فينا رجلٌ إلَّا وله لقبان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدًا منهم بلقبٍ من تلك الألقاب، قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا، فنزلت هذه الآية.
          ({يَلِتْكُمْ}: يَنْقُصْكُمْ. أَلَتْنَا: نَقَصْنَا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14] وفسَّر: {يَلِتْكُمْ} بقوله: «ينقصُكم»؛ أي: من أجوركُم، وصله الفريابيُّ عن مجاهد بلفظه، وفي قوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] قال: ما نقصنا، وهذا الثاني من سورة الطُّور [خ¦21] ذكره هنا استطرادًا، وإنما يتناسبُ ألتنا مع الآية الأخرى على قراءة أبي عَمرو هنا، فإنَّه قرأ: ((لا يألتكم)) بزيادة / همزة، والباقون بحذفها، وهو من: لات يليت ليتًا، وقال أبو عبيدة: قال رؤبة:
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ                     وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ
          وقال الجوهريُّ: لاته عن وجهه يَلِيته ويَلُوته لَيْتًا؛ أي: حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، وتقول العرب: ألاتني حقِّي، وألاتني عن حاجتي؛ أي: صرفني.