نجاح القاري لصحيح البخاري

{الم غلبت الروم}

          ░░░30▒▒▒ (سُوْرَةُ الرُّومِ) وهي مكيَّة، وفيها اختلاف في آيتين، وقيل: هي مكيَّة إلَّا قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17-18]، وقال السَّخاوي: نزلت بعد: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] وقبل العنكبوت، وهي ستون أو تسع وخمسون آية، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفًا.
          والرُّوم اثنان الأوَّل من ولد يافث بن نوح ◙، وهو رومي بن لنطي بن يونان بن يافث، والثَّاني الذي رجعَ إليهم الملك من ولد رومي بن لنطِي من ولد عيص بن إسحاق ◙ غلبوا على اليونانيين فبطلَ ذكر الأوَّلين، وغلبَ هؤلاء على الملك.
          وروى الواحدي من حديث الأعمش عن عطيَّة، عن أبي سعيد الخدري ☺ قال: لمَّا كان يوم بدر ظهرتِ الرُّوم على فارس فأعجبَ بذلك المؤمنون، فنزلت: {الم. غُلِبَتِ الرُّومِ} إلى قوله: {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1-5].
          (╖) لم تثبت البسملة ولفظ ((سورة)) إلا في رواية لأبي ذرٍّ (قَالَ مُجَاهِدٌ: {يُحْبَرُونَ}: يُنَعَّمُونَ) أشار به إلى قوله تعالى: / {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] وفسَّر: {يُحْبَرونَ} بقوله: «يُنَعَّمون»، رواه الحنظلي عن حجَّاج:حدثنا شبابة:حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ولابن أبي حاتم والطَّبري من طريق يحيى بن أبي كثير قال: لذة السَّماع في الجنَّة، ومن طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: يكرمون.
          ({فَلاَ يَرْبُو}: مَنْ أَعْطَى يَبْتَغِي أَفْضَلَ) أي: من الذي أعطاه؛ أي: أكثر من عطيَّته (فَلاَ أَجْرَ لَهُ فِيهَا) أي: في هذه العطيَّة ولا وزر عليه، وفي رواية أبي ذرٍّ والأصيلي: <{فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} من أعطى عطيَّة يبتغي أفضل منه> أي: ممَّا أعطى فلا أجرَ له فيها، أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] وصله الطَّبري من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} الآية قال: يُعطي ماله يبتغِي أفضلَ منه.
          واختلف في معناه فقال سعيد بن جُبير ومجاهد وطاوس وقتادة والضَّحاك: هو الرَّجل يُعطي الرَّجل العطيَّة ويهدِي إليه الهديَّة ليأخذَ أكثر منها، فهذا ربًا حلال ليس فيه أجر ولا وزر، وهذا للنَّاس عامَّة، وفي حقِّ النَّبي صلعم حرامٌ عليه أن يُعطي شيئًا فيأخذ أكثر منه لقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].
          قال عبد الرَّزَّاق: عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن الضَّحاك في هذه الآية قال: هذا هو الرِّبا الحلال يهدي الشَّيء ليُثاب أفضل منه ذاك لا له ولا عليه. وأخرجه ابنُ أبي حاتم عن عبد العزيز وزاد: ونهى النَّبي صلعم عنه خاصَّة، ومن طريق إسماعيل بن أبي خالد عن إبراهيم قال: هذا في الجاهليَّة، كان يُعطي الرَّجل قرابته المال يُكثر به ماله، ومن طريق محمَّد بن كعب القرظي، قال: هو الرَّجل يُعطي الآخر الشيءَ ليكافئه به، ويُزاد عليه فلا يربو عند الله.
          ومن طريق الشَّعبي قال: هو الرَّجل يلتزقُ بالرَّجل فيحمله ويخدمه ويسافر معه، فيجعل له ربح بعض ما يتَّجر فيه، وإنَّما أعطاه التماس عونه ولم يرد به وجه الله. وعن ابن عبَّاس ☻ : / الرِّبا اثنان فربًا لا يفلح، وربًا لا بأس به، وهو هدية الرَّجل يريد أضعافها، ثمَّ تلا هذه الآية.
          ({يَمْهَدُونَ} يُسَوُّونَ الْمَضَاجِعَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] وفسَّر: {يَمْهَدونَ} بقوله: «يسوَّون المضاجع»، وكذا رواه الفريابي من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهد أي: يوطؤن مقار أنفسهم في القبور أو في الجنَّة. ({الْوَدْقَ}: الْمـَطَرَ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} وفسَّر: {الوَدْقَ} بالمطر، وكذا فسَّره مجاهد فيما روى عنه ابن أبي نجيح، وصله الفريابي.
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : ({هَلْ لَكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فِي الآلِهَةِ، وَفِيهِ {تَخَافُونَهُمْ}: أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) أي: قال ابنُ عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ} [الروم:28] نزلت في الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله «وفيه» تعالى، والمعنى على سبيل المثل هل ترضون لأنفسكم أن يشارككم بعضَ عبيدكُم فيما رزقناكُم تكونون أنتم وهم فيه سواء من غير تفرقة بينكم وبين عبيدكُم تخافونهم أن يرث بعضُكم بعضًا، أو أن يستبدوا بتصرف دونكم كما يخافُ بعض الأحرار بعضًا، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لربِّ الأرباب أن تجعلوا بعضَ عبيده شركاء له.
          والحاصل: أنَّ المثلَ لله وللأصنام، فالله المالك، والأصنام المملوكة، والمملوك لايساوي المالك، والمراد نفي الثلاثة الشركة والاستواء وخوفهم إيَّاهم يعني: فإن لم يجز أن يكون مماليككم شركاء مع جوازِ صَيرورتهم مثلكم من جميع الوجوه، فكيف يجوز أن تشركوا مع الله غيره.
          ولابن أبي حاتم من طريق سعيد عن قتادة قال: مثلٌ ضربه الله لمن عدلَ به شيئًا من خلقه، يقول: أكان أحد منكم مشاركًا مملوكَه في فراشهِ وزوجتهِ، / وكذلك لا يرضى الله أن يعدلَ به أحد من خلقه.
          ({يَصَّدَّعُونَ}: يَتَفَرَّقُونَ. {فَاصْدَعْ} [الحجر:94]) أشار به إلى قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43] وفسَّره بقوله: «يتفرقون»، وكذا فسَّره أبو عبيدة، وقيل: هو بمعنى قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة:6]، وقيل: هو تفاوت المنازل، وفي التفسير: {يَصَّدَّعُونَ} يتفرقون فريق في الجنَّة، وفريق في السَّعير، وأصل يصدَّعون: يتصدعون، قلبت التاء صادًا، وأدغمت الصاد في الصاد، وأمَّا قوله: {فَاصْدَعْ} فإشارة إلى قوله ╡: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94]. قال أبو عبيدة في قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي: فرق وامضه، وأصل الصَّدع: الشَّق في الشَّيء، وخصَّه الرَّاغب بالشَّيء الصُّلب كالحديد، تقول: صدعته فانصدع، بالتخفيف، وصَدّعته فتصدَّع في التَّثقيل، ومنه صُداع الرَّأس لتوهم الانشقاق فيه، والمراد بقوله: اصدع؛ أي: فرِّق بين الحقِّ والباطل بدعائك إلى الله وافصل بينهما.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ({ضُعْفٍ} وَ{ضَعْفٍ} لُغَتَانِ) أشار به إلى قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] وإلى أن فتح الضاد وضمها لغتان، وهو قول الأكثر، وقرئ بهما، فالجمهورُ بالضم، وقرأ عاصم وحمزة: بالفتح في الألفاظ الثَّلاثة في الآية، وقيل: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم، وقال الخليل: الضُّعف بالضم: في الجسد، وبالفتح: في العقل؛ أي: خلقكم من ماء ذي ضعف وهو النُّطفة {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} الطُّفولية والشَّبيبة {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} أي: هرمًا {وَشَيْبَةً} والشيبة تمام الضعف.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {السُّوأَى}: الإِسَاءَةُ جَزَاءُ الْمُسِيئِينَ) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} [الروم:10] وفسَّر: {السُّوأَى} بالإساءة، وصله الفريابي، واختُلف في ضبط الإساءة فقيل: بكسر الهمزة والمد، وجوَّز ابن التِّين فتح أوله ممدودًا ومقصورًا وهو من آسى؛ أي: أحزن.
          وللطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ / في قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤوا السُّوأَى} الذين كفروا جزاؤهم العذاب.