نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب أخبار الآحاد

          ░░95▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، باب مَا جَاءَ فِي إِجَازَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوقِ) أي: الإنفاذ والعمل به، والقول بحجيَّته (فِي) دخول وقت (الأَذَانِ) فجازت صلاة ذلك الوقت (وَالصَّلاَةِ) أي: الإعلام بجهة القبلة لأجل الصَّلاة (وَالصَّوْمِ) أي: الإعلام بطلوع الفجر، وغروب الشَّمس في الصَّوم. (وَالْفَرَائِضِ) من عطف العام على الخاص (وَالأَحْكَامِ) جمع حكم، وهو خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلفين من حيث إنَّهم مكلَّفون بالاقتضاء أو التَّخيير، وهو من عطف العام على عام أخصَّ منه؛ لأنَّ الفرائض فردٌ من الأحكام، والمراد بالواحد هنا حقيقة الوحدة. وعند الأصوليين: ما لم يتواتر، والتَّقييد بالصِّدق لا بدَّ منه، والصدوق بناء المبالغة.
          والمراد: أن يكون له مَلَكة الصِّدق؛ يعني: أن يكون عدلاً، وهو من باب إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، ولا يحتج بالكذوب اتفاقاً. أمَّا من لم يُعرف حاله فيجوز إن اعتضد، وقد سقطت البسملة في رواية أبي ذرٍّ والقابسي والجرجاني، وثبتت هنا قبل الباب في رواية كريمة والأَصيلي، ويحتمل أن يكون هذا من جملة أبواب الاعتصام، فإنَّه من جملة متعلَّقاته، فلعلَّه بعض من بيَّض الكتاب قدَّمه عليه. /
          ووقع في بعض النُّسخ: <كتاب أخبار الآحاد>، ثمَّ قال: <باب ما جاء إلى آخره>.
          والمقصود من التَّرجمة: الرَّد على من يقول: إنَّ الخبر لا يحتجُّ به، إلَّا إذا رواه أكثر من شخصٍ واحدٍ، حتَّى يصيرَ كالشَّهادة، ويلزم منه الرَّد على من شرط أربعةً أو أكثر. فقد نقل الأستاذ أبو منصور البغدادي: أنَّ بعضَهم اشترط في قبول خبر الواحد أن يرويه ثلاثةٌ عن ثلاثةٍ إلى منتهاه، واشترط بعضهم أربعة عن أربعةٍ، وبعضهم خمسة عن خمسةٍ، وبعضُهم سبعة عن سبعةٍ. انتهى.
          قال الحافظ العَسقلاني: وكأنَّ كلَّ قائلٍ منهم يرى أنَّ العدد المذكور يفيد التَّواتر، أو يرى تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد ومتوسط بينهما.
          وفات الأستاذ ذكر من اشترط اثنين عن اثنين كالشَّهادة على الشَّهادة، وهو منقولٌ عن بعض المعتزلة، ونقله المازريُّ وغيره عن أبي علي الجياني، ونسب إلى الحاكم أبي عبد الله، وأنَّه ادَّعى أنَّه شرط الشَّيخين، ولكنَّه غلطَ على الحاكم، كما أوضحته في الكلام على «علوم الحديث». انتهى.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على السَّابق، وسقطت الواو في غير رواية أبي ذرٍّ، فـ((قول)) رفع. وسبب نزول هذه الآية: أنَّ الله تعالى لمَّا أنزلَ في حقِّ المنافقين ما أنزل بسبب تخلُّفهم عن الغزاة مع رسول الله صلعم ، قال المؤمنون: والله لا نتخلَّف عن غزوةٍ يغزوها رسول الله صلعم ، ولا سريةٍ أبداً.
          فلمَّا أرسل السَّرايا بعد تبوك نفرَ المؤمنون جميعاً، وتركوه صلعم وحدَه، فنزلت هذه الآية، ولفظها لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، والمعنى: ما كان لهم أن ينفروا جميعاً، بل ينفرُ بعضهم، ويبقى مع النَّبي صلعم بعض.
          وساق الآية الكريمة كلَّها في رواية كريمة، وفي رواية غيرها: <وقول الله تعالى: { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية>، وأوَّل الآية قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122].
          ({فَلَوْلاَ}) أي: فهلَّا ({نَفَرَ}) أي: فحين لم يكن نفيرُ الكافةِ [ولم يكن] مصلحةٌ فهلَّا نفر ({مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}) قال الزمخشري: أي: من كلِّ جماعةٍ كثيرةٍ جماعةٌ قليلة منهم يكفونهم النَّفير ({لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}) أي: ليتكلَّفوا الفقاهة فيه، ويتجشَّموا المشاقَّ في تحصيلها ({وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ}) وليجعلوا مرمى همَّتهم إلى التفقه إنذار قومهم وإرشادهم ({إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}) دون الأعراض الخسيسة من التَّصدر والتَّرؤس، والتَّشبه بالظُّلمة في المراكب والملابس ({لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]) ما يجب اجتنابه؛ أي: إرادة / أن يحذروا الله، فيعملوا عملاً صالحاً.
          ومراد البخاري: أنَّ لفظ ((طائفة)) يتناولُ الواحد فما فوقه، ولا يختصُّ بعددٍ معيَّن، وهو منقولٌ عن ابن عبَّاس ☻ والنَّخعي ومجاهد وعطاء وعكرمة، وعن ابن عبَّاس ☻ أيضاً: من أربعةٍ إلى أربعين، وعن الزُّهري: ثلاثة، وعن الحسن: عشرة، وعن مالكٍ: أقل الطَّائفة أربعة، وعن عطاء: اثنان فصاعداً، وقال الرَّاغب: لفظ ((طائفةٍ)) يراد بها: الجمع، والواحد: طائفٌ، ويُراد بها: الواحد.
          وقد استدلَّ بهذه الآية على وجهٍ آخر، فقيل: لمَّا قال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة:122]، وكان أقلُّ الفرقة ثلاثةٌ، وقد علق النَّفر بطائفةٍ منهم، فأقل من ينفر واحدٌ، ويبقى اثنان، وبالعكس.
          (وَيُسَمَّى الرَّجُلُ) الواحد (طَائِفَةً) لو قال: ويسمَّى الواحد أو الشَّخص لكان أولى (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فَلَوِ اقْتَتَلَ رَجُلاَنِ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <الرَّجلان> (دَخَلَ) ويروى: <دخلا>، وقيل: وهو الصَّواب (فِي مَعْنَى الآيَةِ) استدلَّ بهذه الآية: أنَّ الواحد يسمَّى طائفةً، فلو اقتتل رجلان دخل في معنى الآية؛ لإطلاق الطَّائفة على الواحد. وعن مجاهدٍ في الآية المذكورة: أنَّهما كانا رجلين.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6]) أي: بخبرٍ، وتنكير الفاسق والنَّبأ: للتَّعميم، كأنَّه قال: أي فاسقٍ جاءكم بأيِّ خبرٍ ({فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]) أي: فتوقَّفوا فيه، وتطلبوا بيان الخبر، وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق؛ لأنَّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الَّذي هو نوعٌ منه، وقرأ حمزة والكسائي: {فتثبتوا} [الحجرات:6] من الثَّبات. وفي الآية دليلٌ على إجازة خبر الواحد العدل؛ لأنَّا لو توقَّفنا في خبره لسوّينا بينه وبين الفاسق، ولخلا التَّخصيص به عن الفائدة.
          وهذا توضيح ما قاله الحافظ العَسقلاني: من أنَّ وجه الدَّلالة يؤخذ من مفهومي الشَّرط والصِّفة، فإنَّهما يقتضيان قبول خبر الواحد العدل. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه بعيدٌ جدًّا؛ لأنَّ الخصم لا يقول بالمفهوم. والَّذي يظهر أنَّه إنَّما ذكر هذه الآية؛ لقوله في التَّرجمة: ((خبر الواحد الصدوق))، واحتجَّ بها على أنَّ خبر الواحد الفاسق لا يُقبل، فافهم.
          وقال ابنُ كثير: ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول خبر مجهول الحال؛ لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبله آخرون؛ لأنَّا إنَّما أمرنا بالتَّثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقّق الفسق؛ لأنَّه مجهول الحال.
          (وَكَيْفَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم أُمَرَاءَهُ) جمع أمير، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <أمراء> بحذف الضَّمير؛ أي: إلى الجهات / (وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ) استدلَّ بهذا أيضاً على إجازة خبر الواحد الصَّادق، فإنَّ النَّبي صلعم كان يبعثُ أمراءه إلى الجهات واحداً بعد واحدٍ، فلو لم يكن خبر الواحد مقبولاً؛ لَمَا كان في إرساله معنى. وقال الكرماني: إذا كان خبر الواحد مقبولاً، فما فائدة بعث الآخر بعد الأول؟ وأجاب: بأنَّه لردَّه إلى الحقِّ عند سهوه.
          وهذا معنى قوله: (فَإِنْ سَهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ) أي: من الأمراء المبعوثين (رُدَّ) على البناء للمفعول (إِلَى السُّنَّةِ) أي: الطَّريقة المحمديَّة، والمنهج الصَّواب، وقال الكرماني: والسُّنة: هي الطَّريقة المحمَّدية؛ يعني: شريعته الشَّاملة للواجب والمندوب وغيرهما.