نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الجنائز

          ░░23▒▒ (بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتَابُ الْجَنَائِزِ) وفي رواية بتقديم «كتاب الجنائز» على البسملة على قياس مفتتح سور القرآن، وفي أخرى: <باب ما جاء في الجنائز>، وفي أخرى: <بابٌ في الجنائز> بالتنوين في «باب».
          والجنائز: جمع: جَنازة وهي _بفتح الجيم_ اسم للميِّت المحمول، وبكسرها اسم للنعش الذي يُحمَل عليه الميت، ويقال: بعكسه، حكاه صاحب «المطالع» وقيل: هما لغتان فيهما.
          وقال الأزهريُّ: لا يسمَّى السَّرير جنازة حتَّى يشدَّ الميت عليه مكفَّناً، فإذا لم يكن عليه ميِّت فهو سريرٌ ونعش، وقيل: لا يقال نعشٌ أيضاً إلَّا إذا كان عليه ميت، ذكره الحافظ العسقلاني.
          واشتقاقُه من جَنَزه يَجْنِزه من باب ضرب، إذا ستره، ذكره ابن فارس.
          وقال الحافظ العسقلاني: أورد المؤلِّف كتاب الجنائز بين الصَّلاة والزَّكاة لتعلُّقها بهما؛ لأنَّ الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك أهمُّه الصَّلاة عليه لما فيها من الدُّعاء له بالنَّجاة من العذاب، ولاسيَّما / عذاب القبر الذي سيدفن فيه.
          وقال العيني: للإنسان حالتان: حالة الحياة، وحالة الممات، ويتعلَّق بكلٍّ منهما أحكام العبادات وأحكام المعاملات، فمن العبادات الصَّلاة المتعلِّقة بالأحياء، ولمَّا فرغ عن بيان ذلك شرع في بيان الصَّلاة المتعلِّقة بالموتى.
          (وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ) عند خروجه من الدُّنيا (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) ولفظ «آخرُ» بالرفع اسم «كان»، وخبرها قوله: «لا إله إلا الله»، ويروى بنصب «آخرَ» على أنَّه خبر «كان» المقدَّم، وساغ كون كلمة «لا إله إلا الله» مسنداً إليه؛ لأنَّ المراد بها لفظها، فهي في حكم المفرد، ولم يذكر جواب «من»، وهو في الحديث المذكور وهو قوله: «دخل الجنة».
          وقد رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن مرَّة الحضرمي، عن معاذ بن جبل ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنَّة)). وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
          وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أنس بن مالك ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((اعلم أنَّه من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنَّة)).
          وفي «مسند مسدَّد» عن معاذ ☺: أنَّ النَّبي صلعم قال: يا معاذ قال: لبَّيك يا رسول الله قالها ثلاثاً قال: ((بشِّر النَّاس أنَّه من قال: لا إله إلا الله دخل الجنَّة)).
          وروى أبو يَعلى في «مسنده» عن أبي حرب، عن زيد بن خالدٍ الجهني قال: أشهدُ على أبي قال: «أمرني رسول الله صلعم أن أنادي أنَّه مَن شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنَّة»، وكأنَّه لم يثبتْ عند البُخاري حديث على شرطه في هذا الباب فاكتفى بما يدلُّ عليه.
          وقال الكرماني: قوله: «لا إله إلا الله»؛ أي: هذه الكلمة، والمراد هي وضميمتها محمَّد رسول الله.
          وقال العينيُّ: ظاهر الحديث أنَّه في حقِّ المشرك، فإنَّه إذا قال: «لا إله إلا الله» يحكم بإسلامه، فإذا استمرَّ على ذلك إلى أن مات دخل الجنة، وأمَّا الذين ينكرون نبوَّة سيدنا محمَّد صلعم ويدعون أنَّه مبعوث للعرب خاصَّة، فإنَّه لا يحكم بإسلامهم بمجرَّد قولهم: لا إله إلا الله، فلا بدَّ من ضميمة محمَّد رسول الله.
          وجمهور العلماء شرطوا في صحة إسلامهم بعد التلفُّظ بالشَّهادتين أن يقول: تبرَّأت عن كلِّ دين سوى دين الإسلام. ومراد البخاري من هذه التَّرجمة أنَّ من قال: لا إله إلا الله من أهل الشرك، ومات لا يشرك بالله شيئاً، فإنَّه يدخل الجنَّة كما يدلُّ عليه حديث الباب، وقال بعض العلماء: إنَّه كان قبل نزول الفرائض والأوامر والنَّواهي.
          وقال ابن رُشَيد: يحتمل أن يكون مراد البخاري الإشارة إلى أنَّ من قال: لا إله إلا الله عند الموت مخلصاً كان ذلك مُسقِطاً لما تقدَّم له، والإخلاص يستلزم التَّوبة والنَّدم، ويكون النُّطق عَلَماً على ذلك.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه يلزم ممَّا قاله أن من قال: لا إله إلا الله، واستمرَّ عليه، ولكنَّه لم يذكره / عند الموت لم يدخل تحت هذا الوعد الصَّادق، انتهى.
          وأنت خبير بأنَّ ما قاله ابن رُشَيد أهون ممَّا قاله العيني من أنَّه في حقِّ المشرك.
          قال الزِّين ابن المُنيِّر: هذا الخبر يتناول بلفظه من قالها فبغته الموت، أو طالت حياته لكنَّه لم يتكلَّم بشيء غيرها، ويخرج بمفهومه من تكلَّم، لكنَّه استصحب حكمها من غير تجديد نطق بها، فإن عمل أعمالاً سيئة كان في المشيئة، وإن عمل عملاً صالحاً ففي سعة رحمة الله تعالى، إذ لا فرق بين الإسلام النُّطقي وبين الحُكمي المستصحب، انتهى.
          وحكى التِّرمذي عن عبد الله بن المبارك أنَّه لُقِّن عند الموت فأُكِثر عليه، فقال: إذا قلت مرَّة: فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يرى التَّفرقة في هذا المقام، وروى ابن أبي حاتم في ترجمة أبي زُرعة أنَّه لما احتُضِر أرادوا تلقينه فتذاكروا حديث معاذ ☺، فحدَّثهم به أبو زُرعة بإسناده وخرجت روحه في آخر قوله: لا إله إلا الله، ☼ .
          فإن قيل: لم حذف البخاري جواب «مَن»، من التَّرجمة مع أنَّ لفظ الحديث: ((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنَّة)).
          فالجواب: أنَّه قد قيل مراعاة لتأويل وهبِ بن منبِّه؛ لأنَّه لمَّا قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنَّة؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلَّا له أسنان إلى آخره، فكأنَّه أشار بهذا إلى أنَّه لا بدَّ من الطَّاعات، وأنَّه بمجرد القول به بدون الطَّاعات لا يدخل الجنَّة، فظنَّ هذا القائل أنَّ رأي البخاري في هذا مثل رأي وهب بن منبِّه، فلذلك حذف لفظ: «دخل الجنَّة»، الذي هو جواب «من».
          والذي يظهر أنَّ حذفه إنَّما كان اكتفاء بما ذكر في حديث الباب، فإنَّه صرَّح بأنَّ من مات ولم يشرك بالله شيئاً فإنَّه دخل الجنَّة، وإن ارتكب الذَّنبين العظيمين المذكورين فيه.
          مع أنَّ الدَّاودي قال: قول وهب محمولٌ على التَّشديد، أو لعلَّه لم يبلغْه حديث أبي ذرٍّ ☺، وهو حديث الباب [خ¦1237]، ثمَّ الظَّاهر من حديث معاذ المذكور، ومن حديث أبي هريرة ☺ الذي في «صحيح مسلم»: ((لقِّنوا موتاكُم لا إله إلا الله)) الحديث.
          أي: من قَرُبَ موته، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36] أنَّه يذكر عند المحتضر قول: لا إله إلا الله؛ ليتذكَّر بلا زيادة عليه، فلا تسنُّ زيادة محمَّد رسول الله لظاهر الأخبار، وقيل: تسنُّ زيادته.
          وقال الأسنويُّ: لو كان المحتضر كافراً لقِّن الشَّهادتين، وأمر بهما، والله أعلم.
          (وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ) بكسر الموحدة، وقد مرَّ في كتاب «العلم» [خ¦113] (أَلَيْسَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) يعني كلمتي الشَّهادة، قال الزِّين ابن المُنيِّر: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النُّطق بالشَّهادتين شرعاً.
          (مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ) يجوز نصب «مفتاح» على أنَّه خبرُ «ليس»، ويجوز رفعه على أنَّه اسم «ليس» وخبره مقدَّم عليه (قَالَ) أي: وهب (بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلاَّ لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ) جياد فهو من باب حذف النَّعت، إذ دلَّ السِّياق عليه؛ لأنَّ مسمَّى المفتاح لا يعقلُ إلَّا بأسنان.
          (فُتِحَ لَكَ، وَإِلاَّ) بأن جئتَ مفتاح ليس له ذلك (لَمْ يُفْتَحْ لَكَ) وذكر أبو نُعيم الأصفهاني في كتابه «أحوال الموحِّدين»: أنَّ أسنان هذا المفتاح هي الطَّاعات الواجبة المنضمَّة إلى كلمة التَّوحيد من القيام بطاعة الله تعالى، وتأديتهَا والمفارقة لمعاصي الله تعالى، / ومجانبتها وشبهها بأسنان المفتاح من حيث الاستعانة بها في فتحِ المغلقَات، وتيسيرِ المستصعبات.
          وقال الزَّركشيُّ: أراد بها القواعد التي بنى الإسلام عليها، وتعقَّبه صاحب «المصابيح»: بأنَّ من جملة القواعد كلمتي الشَّهادة التي عبَّر عنها بالمفتاح، فكيف تعدُّ بعدَ ذلك في الأسنان.
          ثمَّ إنَّ قوله: «وإلَّا لم تفتح لك» معناه؛ أي: فتحاً تامًّا أو لم تفتح في أوَّل الأمر، وهذا بالنِّسبة إلى الغالب، وإلا فالحقُّ أنَّ أهل الكبائر في مشيئة الله تعالى، وأنَّ من قال: لا إله إلا الله مخلصاً أتى بمفتاح وله أسنان، لكن من خَلَّط ذلك بالكبائر حتَّى مات مصرًّا عليها لم تكن أسنانه قويَّة، فربَّما طال علاجه بخلاف مذهب الرَّافضة والإباضية وأكثر الخوارج، فإنهم يقولون: إنَّ أصحاب الكبائر يخلدون في النَّار بذنوبهم، والقرآن ناطق بتكذيبهم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وحديث الباب أيضاً يكذِّبهم.
          وقد مضى أحاديث تدلُّ على أنَّ قائل: لا إله إلا الله يدخل الجنَّة غير مقيَّدة بشيءٍ.
          وفي «صحيح مسلم» من حديث عثمان ☺ مرفوعاً: ((من ماتَ وهو يعلمُ أن لا إله إلا الله دخل الجنَّة)) نعم الأعمال علامات ودَلائل على ذلك، والله أعلم.
          وأمَّا أثرُ وهب هذا فقد وصله المؤلِّف في «التاريخ»، وأبو نُعيم في «الحلية» من طريق محمَّد بن سعيد بن رُمَّانة _بضم الراء وتشديد الميم وبعد الألف نون_ قال: أخبرني أبي قال: قيل لوهبِ بن منبِّه، فذكره.
          وكأنَّ القائل لوهب بنِ منبه أشار إلى ما رواه ابنُ إسحاق في «السِّيرة»: أنَّ النَّبي صلعم لمَّا أرسل العلاء بن الحضرمي قال له: ((إذا سُئِلتَ عن مفتاح الجنة فقل: مفتاحها لا إله إلَّا الله)).
          وروي عن معاذ بنِ جبل ☺ مرفوعاً أخرجه البيهقي في «الشُّعب» نحوه، وزاد: ((لكن مفتاح بلا أسنانٍ، فإن جئتَ بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلَّا لم يفتح لك)) وهذه الزِّيادة نظير ما أجابَ به وهب، فيُحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ ☺.
          وأخرج سعيد بنُ منصور بسندٍ حسنٍ عن وهب بن منبِّه قريباً من كلامه هذا، ولفظه: مَثَلُ الدَّاعي بلا عمل كالرَّامي بلا وتر.