نجاح القاري لصحيح البخاري

أبواب صدقة الفطر

          ░░24م▒▒ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَبْوَابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ، باب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) كذا في رواية المُسْتَملي، واقتصر الباقون على قوله: <باب فرض صدقة الفطر> ولأبي نعيم: ((كتاب)) بدل باب، وفي نسخة: <صدقة الفطر> بدون قوله: أبواب فيقدَّر أبواب أو باب أو كتاب، وإضافة الصَّدقة إلى الفطر من إضافة الشَّيء إلى شرطه كحجَّة الإسلام.
          وقال الحافظ العسقلاني: أُضِيْفَت الصَّدقة إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان، وقال ابن قتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النُّفوس مأخوذ من الفطرة التي هي أصل الخلقة المرادة بقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم:30]، والمعنى أنَّها وجبت على الخلقة تزكية للنَّفس؛ أي: تطهيراً لها، وتنمية لعملها، والأول أظهر.
          ويؤيِّده قوله صلعم في بعض طرق الحديث: ((زكاة الفطر من رمضان)) ويقال للمخرج في زكاة الفطر: فُطرة، بضم الفاء، كما في «الكفاية» وهو غريبٌ. والذي في «شرح المهذَّب» وغيره: كسر الفاء، لا غير.
          قال النَّووي: هي لفظة مولدة لا عربية ولا معرَّبة، بل اصطلاحيَّة للفقهاء. انتهى. فيكون حقيقة شرعيَّة كالصَّلاة، / ولو قيل: لفظة إسلامية كان أولى؛ لأنَّها ما عرفت إلا في الإسلام.
          ويؤيِّد هذا ما ذكره ابن العربي: هي اسمها على لسان صاحب الشَّرع، ويقال لها: صدقة الفطر وزكاة رمضان وزكاة الصَّوم وصدقة الرُّؤوس وزكاة الأبدان.
          وأمَّا وجوبها فبأحاديث الباب على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقد وجبت في السَّنة الثَّانية من الهجرة في شهر رمضان قبل العيد بيومين. وأمَّا سبب وجوبها فهو رأس يمونه مؤنة تامَّة ويلي عليه ولاية تامة؛ لما في الحديث: ((عمَّن تمونون)) فتجب على الأب عن أولاده الصِّغار الفقراء، وعلى السَّيد عن عبده ومدبَّره ومدبَّرته وأم ولده دون مكاتبه وزوجته، وأمَّا شرط وجوبها: فالإسلام والحريَّة والغنى، على ما يأتي.
          وأمَّا ركنها فالتَّمليك، وأمَّا شرط جوازها فكون المصروف إليه فقيراً، وأمَّا مقدار الواجب فيها فهو نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأمَّا وقت وجوبها فوقت طلوع الفجر الثَّاني من يوم الفطر، على خلاف فيه، يأتي إن شاء الله تعالى.
          وأمَّا وقت استحباب أدائها فقد اتَّفقت الأئمَّة الأربعة على استحباب أدائها قبل الذَّهاب إلى صلاة العيد. وأمَّا تقديمها على يوم الفطر فعند أبي حنيفة ☼ يجوز تقديمها لسنة وسنتين.
          وعن خلف بن أيُّوب: يجوز لشهر، وقيل: بيوم أو يومين، وإذا أدَّاها بعد يوم الفطر يكون قضاء عند بعض الحنفيَّة، والأصح أنَّه أداء.
          (وَرَأَى) ويروى: <وروي عن أبي العالية> (أَبُو الْعَالِيَةِ) من العلوِّ، اسمه: رُفَيع بن مهران الرِّياحي بالمثناة التحتية (وَعَطَاءٌ) هو: ابن أبي رباح (وَابْنُ سِيرِينَ) محمَّد (صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً) فتعليق أبي العالية وابن سيرين رواه ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» من طريق عاصم الأحول، عن أبي العالية وابن سيرين، وتعليق عطاء، وصله عبد الرَّزَّاق، عن ابن جريج، عن عطاء.
          واعلم أنَّ العلماء اختلفوا في صدقة الفطر هل هي فرض أو واجبة أو سنَّة أو فعل خير مندوب إليه، فقالت طائفة: هي فرض وهم الثَّلاثة المذكورون هنا والشَّافعي ومالك وأحمد، وقال أصحابنا الحنفيَّة: واجبة. وقالت طائفة: هي سنَّة، وهو قول مالك، في رواية ذكرها صاحب «الذَّخيرة».
          وقال إبراهيم بن عُليَّة وأبو بكر بن كيسان الأصم: هي فعل خير قد كانت واجبة، ثمَّ نسخت، واستدلَّا على هذا بما رواه النَّسائي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» / عن قيس بن سعد بن عبادة ♥ قال: «أمرنا رسول الله صلعم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزَّكاة، فلمَّا نزلت الزَّكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله».
          وتُعُقِّب بأنَّ في إسناده راوياً مجهولاً، وهو أبو عمار الهمداني، لكن قال أحمد وابن معين: اسم أبي عمَّار غريب بن حميد كوفي ثقة. وبما أخرجه الحاكم عن قيس بن سعد بن عبادة أيضاً من وجه آخر قال: «كنَّا نصوم عاشوراء ونؤدِّي صدقة الفطر، فلمَّا نزل رمضان ونزلت الزَّكاة لم نؤمر به ولم ننه عنه ونحن نفعله»، وقال: صحيح على شرط الشَّيخين ولم يخرجاه.
          وقال البيهقي: إنَّ هذا لا يدلُّ على النَّسخ؛ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأوَّل؛ لأنَّ نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر. وقد أجمع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، وإن اختلفوا في تسميتها فرضاً، فإنَّ الحنفيَّة يقولون بالوجوب دون الفرض؛ بناء على قاعدتهم في التَّفرقة، فلا يجوز تركها.
          وقد نقل ابن المنذر الإجماعَ على فرضيَّة صدقة الفطر، وفيه نظر لما فيها من الاختلاف كما ذكر، ونقل المالكيَّة عن أشهب أنَّها سنة مؤكدَّة، وهو قول بعض أهل الظَّاهر وابن اللبَّان من الشَّافعية، وأوَّلوا قوله: فرض في الحديث بمعنى قدرَّ كقولهم: فرض القاضي نفقة اليتيم.
          وقال ابن دقيق العيد: هو أصله في اللُّغة، لكن نقل في عرف الشَّرع إلى الوجوب، فالحمل عليه أولى. انتهى.
          ويؤيُّده تسميتها زكاة. وفي الحديث: على كلِّ حر وعبد، والتَّصريح بالأمر بها في حديث قيس وغيره ودخولها في عموم قوله تعالى: {وَآَتُوا الزَّكاة} الآية [المجادلة:13] غير أنَّ محل سائر الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرِّقاب كما نبَّه عليه الخطَّابي، فبيَّن صلعم تفاصيل ذلك، ومن جملتها زكاة الفطر وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} الآية [الأعلى:14]، وثبت أنَّها نزلت في زكاة الفطر.
          وثبت في «الصَّحيحين» إثبات صفة الفلاح لمن اقتصر على الواجبات، قيل: وفيه نظر؛ لأنَّ في الآية: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} الآية [الأعلى:15]، فيلزم وجوب صلاة العيد ويجاب بأنَّه خرج بدليل عموم: ((هنَّ خمس لا يُبَدَّلُ القولُ لديَّ)) فليتأمَّل.