نجاح القاري لصحيح البخاري

أبواب المحصر

          ░░27▒▒ (╖) ثبتت البسملة لجميع الرُّواة.
          هذه (أَبْوَابُ) أحكام (الْمُحْصَرِ وَ) أحكام (جَزَاءِ الصَّيْدِ) الَّذي يتعرَّض إليه المحرم، هكذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية الأكثرين: <باب المُحْصَر> بإفراد الباب، وسيأتي معنى المُحْصَر إن شاء الله تعالى (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجر عطفاً على المحصر ({فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196]) أي: مُنِعْتُم عن تمام الحجِّ والعمرة فحَلَلْتم، والحَصْر والإحصار: المنع والحبس عن الوجه الذي يقصده، يقال: أحصره المرض أو السُّلطان، إذا منعه عن مقصده، ويقال: حصرهُ إذا حبسه فهو محصورٌ ومحصر مثل: صدَّه وأصده.
          وقال القاضي إسماعيل: الظَّاهر أنَّ الإحصار بالمرض، والحصر بالعدو، ومنه: ((فلمَّا حصر رسول الله صلعم )) وقال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}.
          وقال الكسائيُّ: يقال من العَدوِّ، حُصِرَ فهو مَحصورٌ، ومن المرض: أُحْصِرَ فهو مُحْصَر، وحكي عن الفراء أنَّه أجاز كلَّ واحدٍ منهما مكان الآخر، وأنكره المبرِّد والزَّجاج وقالا: هما مختلفان في المعنى، ولا يقال في المرض: حَصَره ولا في العدو أَحْصَره، وإنَّما هو كقولهم: حبسه إذا جعله في الحبس وأحبسه؛ أي: عرَّضه للحبس، وقتله أوقع به القتل وأقتله؛ أي: عرضه للقتل، وكذلك حصره حبسه، وأحصرهُ عرَّضَه للحصر. وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:273].
          قيل: المراد منعهم الاشتغال بالجهاد، وهو أمرٌ راجع إلى العدوِّ. قيل: المراد منهم أهل الصفَّة منعهم تعلُّم القرآن أو شدَّة الحاجة والجهد عن الضَّرب في الأرض للتكسُّب وليس هو بالمرض.
          ({فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة:196]) أي: فعليكم ما استيسر، أو قالوا: الواجب ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر؛ أي: ما تيسَّر، يقال: يَسُر الأمر واستيسر، كما يقال: صعُب واستصعب ({مِنَ الْهَدْيِ}) وهو ما يهدي إلى الحرم ليُنْحَر فيه.
          وقال الزَّمخشري: الهدي، جَمْع: هَدْيَة، كما يقال في جَدْيَة السَّرْج: جَدْي، وقرئ: من ((الهديِّ))، بالتشديد، جَمْع: هديَّة، كمَطيَّة، والمعنى: إن مُنعتم عن المضيِّ إلى البيت وأنتم محرمون بحجٍّ أو عمرةٍ فعليكم إذا أردتم التَّحلل أن تتحلَّلوا بما استيسر من الهدي من بعرٍ أو بقرة أو شاة ({وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]): حيث يحلُّ ذبحه حلاً كان أو حرماً على ما ذهب إليه الشَّافعي وغيره.
          وقوله: {وَلاَ تَحْلِقُوا} عطف على قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وليس معطوفاً على قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} كما زعمه ابن جرير؛ لأنَّ النَّبي صلعم وأصحابه ♥ عام الحديبية لمَّا حصرهم كفَّار / قريش عن الدُّخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، وأمَّا في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق حتَّى يبلغ الهدي محلَّه، ويفرغ النَّاسك من أفعال الحجِّ والعمرة إن كان قارناً، أو من فعل أحدهما إن كان مُفْرِداً أو متمتِّعاً.
          روي أنَّ هذه الآية نزلت في سنة ستٍّ؛ أي: عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلعم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله تعالى في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي، وكان سبعين بدنة، وأن يتحلَّلوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم رسول الله صلعم أن يذبحوا ما معهم من الهدي، وأن يحلقوا رؤوسهم ويتحلَّلوا، فلم يفعلوا انتظاراً للنَّسخ حتَّى خرج فحلق رأسه ففعل النَّاس، وكان منهم من قصَّ رأسه ولم يحلقه فلذلك قال صلعم : ((رحم الله المحلِّقين)) قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ فقال في الثَّالثة: ((والمقصِّرين))، وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة، وكانوا ألفاً وأربعمائة وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم. وقيل: بل كانوا على طرف الحرم. اهـ.
          أو المعنى: لا تحلُّوا حتَّى تعلموا أنَّ الهدي المبعوث به إلى الحرم بلغ محلَّه؛ أي: مكانه الذي يجب أن ينحر فيه، وهو مذهب الحنفيَّة، فإنَّ مذهبهم أنَّه يبعث دماً ويجعل للمبعوث بيده يوماً، فإذا جاء اليوم وظنَّ أنَّه ذبح تحلَّل.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح (الإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ) وفي اليونينية: <يَحْبِسه> بفتح المثناة التحتية وسكون المهملة وكسر الموحدة، من الحَبْس فلا يختصُّ بمنع العدد فقط، بل عام في كلِّ حابسٍ من عدوٍّ ومرضٍ وغيرِهما.
          وهذا التَّعليق وصله أيضاً عبد بن حميد، عن أبي نعيم، عن الثَّوري، عن ابن جريج عنه قال في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] قال: الإحصارُ من كلِّ شيءٍ بحبسه، وكذا في تفسير الثَّوري من رواية أبي حذيفة عنه.
          ووصله أيضاً ابن أبي شيبة: حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لا إحصار إلَّا من مرضٍ أو عدوٍّ أو أمرٍ حابس.
          واعلم أنَّ العلماء اختلفوا في الحصر بأيِّ شيءٍ يكون، وبأيِّ معنى يكون، فقال قوم، وهم عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النَّخعي، وسفيان الثَّوري: يكون الحصر بكلِّ حابسٍ من مرض أو غيره من عدوٍّ ونفاد نفقة ونحوها ممَّا يمنعه عن المضيِّ إلى البيت، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمَّد وزفر، وروي ذلك عن ابن عبَّاس وابن مسعود وزيد بن ثابت ♥ .
          وقال آخرون، وهم اللَّيث بن سعد، ومالك والشَّافعي وأحمد وإسحاق: لا يكون الإحصار إلَّا بالعدوِّ فقط ولا يكون بالمرض، وهو قول عبد الله بن عمر ☻ .
          وقال الجصَّاص في كتاب «الأحكام»: / وقد اختلف السَّلف في حكم المُحْصَر على ثلاثة أنحاء، روي عن ابن مسعودٍ، وابن عبَّاس ♥ : العدوُّ والمرض سواء، يَبْعثُ دماً ويحلُّ به إذا نحر في الحرم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
          والثَّاني: قول ابن عمر ☻ : إنَّ المريض لا يحلُّ ولا يكون مُحْصَراً إلَّا بالعدوِّ، وهو قول مالك والشَّافعي.
          والثَّالث: قول ابن الزُّبير وعروة بن الزُّبير: إنَّ المرض والعدوَّ سواءٌ لا يحلُّ إلَّا بالطَّواف ولا نعلم لهما موافقاً من فقهاء الأمصار.
          وفي «شرح الموطَّأ»: مذهب مالك والشَّافعي أنَّ المُحْصَر بالمرض لا يحلُّ دون البيت، وسواء عند مالك شَرَطَ عند إحرامه التَّحلل للمرض أو لم يشترط. وقال الشَّافعي: له شرطه. وقال أبو عمر: الإحصار عند أهل العلم على وجوهٍ: منها المُحْصَر بالعدو، ومنها بالسُّلطان الجائر، ومنها المرض وشبهه.
          فقال مالكٌ والشَّافعي وأصحابهما: من أَحْصَرَه المرضُ فلا يحلُّه إلَّا الطَّواف، ومن حُصِرَ بعدوٍّ فإنَّه ينحر هديَه حيث حُصِرَ، ويتحلَّل وينصرف ولا قضاء عليه إلَّا أن تكون حجَّة الإسلام فيَحُجُّ الفريضة. ولا خلاف بين الشَّافعي ومالك وأصحابهما في ذلك.
          وقد روى ابن المنذر من طريق عليِّ بن طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} قال: من أحرم بحجٍّ أو عمرة ثمَّ حبس عن البيت بمرضٍ يجهده أو عدوٍّ يَحْبِسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، فإن كانت حجَّة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجَّة بعد الفريضة فلا قضاء عليه.
          وقال ابن وهب وغيره: كل مَن حُبِسَ عن الحجِّ بعد ما يحرم بمرضٍ أو حصارٍ من العدوِّ، أو خاف عليه الهلاك فهو مُحْصَرٌ، عليه ما على المُحْصَر، ولا يَحِلُّ دون البيت، وكذلك من أصابه كُسْرٌ أو بطنٌ مُنْخَرِق.
          وقال مالك: أهل مكَّة في ذلك كأهل الآفاق؛ لأنَّ الإحصارَ عنده في المكيِّ الحبسُ عن عرفة خاصَّة قال: فإن احتاج المريضُ إلى دواء يداوي به وافتدى وهو على إحرامه لا يحلُّ من شيءٍ حتَّى يبرأ من مرضه، فإذا برئ من مرضه مضى إلى البيت وطاف به سبعاً، وسعى بين الصَّفا والمروة وحلَّ من حجِّه أو عمرته. وقال أبو عمر: هذا كلُّه قول الشَّافعي أيضاً.
          وقال الطَّحاوي: إذا نحر المُحْصَر هديَه هل يحلق رأسه أم لا؟ فقال قومٌ: ليس عليه أن يحلق؛ لأنَّه قد ذهب عند النُّسك كله، وهذا قول أبي حنيفة ومحمَّد. /
          وقال آخرون: بل يحلق، فإن لم يحلق فلا شيء عليه، وهذا قول أبي يوسف، وقال آخرون: يحلق ويجب عليه ما يجب على الحاج والمعتمر، وهو قول مالك.
          ثمَّ إنَّه احتجَّ أبو حنيفة ومن تابعه في ذلك بأثر عطاء المذكور، وبما أخرجه ابن جرير بإسنادٍ صحيح، والطَّحاويُّ عن علقمة قال: لُدِغَ صاحبٌ لنا، وهو محرمٌ بعمرةٍ، فذكرناه لابن مسعود ☺ فقال: يبعث بهدي ويواعد أصحابه موعداً، فإذا نُحِرَ عنه حلَّ.
          وبما رواه الإمام أحمد عن عكرمة من حديث حجَّاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((من كُسِرَ أو عَرَجَ فقد حَلَّ، وعليه حَجَّة أُخرى)) قال: فذكرت لابن عبَّاس وأبي هريرة ♥ فقالا: صدق، وقد أخرجه الأربعة.
          وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: ((من عَرَجَ أو كُسِرَ أو مَرِضَ)) فذكر معناه، ورواه عبد بن حميد في «تفسيره» ثمَّ قال: وروي عن ابن مسعود وابن الزُّبير وعلقمة وسعيد بن المسيَّب وعروة بن الزُّبير ومجاهد والنَّخعي وعطاء ومقاتل بن حبَّان أنَّهم قالوا: الإحصار من عدوٍّ أو مَرَضٍ أو كَسْرٍ.
          وقال الثَّوري: الإحصار من كلِّ شيءٍ آذاه قالوا: وإذا قامت الدَّلالة على أنَّ شرعيَّته للحابس مطلقاً استفيد جوازه لمن سُرِقَتْ نفقتُه ولا يقدرُ على المشي. وفي اقتصار البخاريِّ على تفسير عطاء إشارةٌ إلى أنَّه اختار القول بتعميم الإحصار.
          واحتجَّ الشَّافعي ومالك ومن تابعهما بما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: ((لا حصر إلَّا حصر العدو)).
          ورواه الشَّافعي في «مسنده» عن ابن عبَّاس ☻ : ((لا حصر إلَّا حصر العدوِّ))، فأمَّا من أصابه مرضٌ أو وجعٌ أو ضلالٌ فليس عليه شيءٌ. قال: وروي عن ابن عمر ☻ وطاوس والزُّهري وزيد بن أسلم نحو ذلك، وأخرجه عبد الرَّزَّاق عن معمر والشَّافعي عن ابن عيينة كلاهما، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((لا حصر إلَّا من حبسه عدو فيحلَّ بعمرة، وليس عليه حجُّ ولا عمرة))، وبما رواه مالك في «الموطَّأ» والشَّافعي عنه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: ((من حبس دون البيت بالمرض فإنَّه لا يحلُّ حتَّى يطوف بالبيت)).
          وروى مالك، عن أيُّوب، عن رجلٍ من أهل البصرة قال: خرجت إلى مكَّة حتَّى إذا كنت بالطَّريق / كُسِرَتْ فخذي، فأرسلت إلى مكَّة وبها عبد الله بن عبَّاس وعبد الله بن عمر والنَّاس ♥ ، فلم يرخِّص لي أحد في أن أحلَّ فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر ثمَّ حللت بعمرة.
          وأخرجه ابن جرير من طرق، وسُمِّي ذلك الرَّجل: يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، وبه قال مالكٌ والشَّافعي وأحمد، قال الشَّافعي: جعل الله تعالى على النَّاس إتمام الحجِّ والعمرة وجعل التَّحلل للحصر رخصةً، وكانت الآية في شأن العدوِّ فلا يُتَعَدَّى بالرُّخصة مَوْضِعَها.
          هذا، وتحقيقه: أنَّ الآية وردت لبيان حكم إحصاره صلعم وأصحابه ♥ وكان في العدوِّ، وفي سياق الآية، {فإذا أَمِنْتُم} فعلم أنَّ شرعيَّة الإحلال في العدوِّ كانت لتحصيل الأمن منه، وبالإحلال لا ينجو من المرض فلا يكون الإحصار بالمرض في معناه، فلا يكون النصُّ الوارد في العدوِّ، وارداً في المرض؛ فلا يلحق به دلالة ولا قياساً؛ لأنَّ شرعيَّة التحلُّل قبل أداء الأفعال بعد الشُّروع في الإحرام على خلاف القياس، فلا يقاس عليه.
          وقالت الحنفيَّة: إنَّ الإحصار هو المنع، والعبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب. وقد أجمع أهل اللُّغة على أنَّ مدلول لفظ الانحصار بالهمزة المنع الكائن بالمرض، والآية وردت بذلك اللَّفظ.
          وبحث فيه المحقِّق الكمال ابن الهمام بأنَّه ظاهرٌ في أنَّ الإحصار خاصٌّ بالمرض، والحصر خاصٌّ بالعدو، ويحتمل أن يراد كون المنع بالمرض من مَاصَدَقات الإحصار، فإن أَرَادَ الأوَّلَ وَرَدَ عليه كونُ الآيةِ لبيانِ حكم الحادثة التي وقعت للرَّسول صلعم وأصحابه ♥ واحتاجوا إلى جَوابِ صاحبِ الأسرار.
          وحاصله: كون النَّص الوارد لبيان حكم حادثة قد ينتظمها لفظاً، وقد ينتظم غيرها ممَّا يُعْرَفُ به حكمُها دلالة، وهذه الآية كذلك؛ إذ يعلم منها حكم منع العدوِّ بطريق أولى؛ لأن منع العدو حِسِّي لا يتمكَّن معه من المضيِّ بخلافه في المرض، إذ يتمكن منه بالمَحْمَل والمَرْكَب والخَدَم، فإذا جاز التَّحلل مع هذا فَمَعَ ذلك أولى، والله أعلم.
          هذا، وهاهنا قولٌ ثالث، حكاه ابن جرير وغيره، وهو أنَّه لا حَصْر بعد النَّبي صلعم . روى مالك في «الموطَّأ» عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: ((المُحْرِمُ لا يَحِلُّ حتَّى يَطُوف)). أخرجه في باب ما يفعل من أحصر بغير عدو.
          وأخرج ابن جرير، عن عائشة ♦ بإسنادٍ صحيح قالت: ((لا أعلم المُحْرم يحلُّ بشيءٍ دون البيت)). وعن ابن عبَّاس ☻ / بإسنادٍ ضعيفٍ قال: ((لا إحصار اليوم))، وروي ذلك عن عبد الله بن الزُّبير، والسَّبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تفسير الإحصار، كما مرَّ. ثمَّ إنَّ الهدي على ما قاله ابن عبَّاس ☻ من الأزواج الثَّمانية من الإبل والبقر والمعز والضَّأن.
          وقال الثَّوري: عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] قال: شاة، وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وأبو العالية، ومحمَّد بن الحسين، وعبد الرَّحمن بن القاسم، والشَّعبي، والنَّخعي، والحسن، وقتادة، والضَّحَّاك، ومقاتل بن حبَّان مثل ذلك، وهو مذهب الأئمَّة الأربعة.
          وقال ابن أبي حاتم: عن عائشة وابن عمر ♥ أنَّهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلَّا من الإبل والبقر، وقد روي عن سالم والقاسم وعروة بن الزُّبير وسعيد بن جبير نحو ذلك. قيل: الظَّاهر أنَّ مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصَّة الحديبية، فإنَّه لم ينقل عن أحدٍ منهم أنَّه ذبح في تحلُّله ذاك شاة، وإنَّما ذبحوا الإبل والبقر.
          ففي «الصَّحيحين»: عن جابر قال: ((أمرنا رسول الله صلعم أن نشترك في الإبل والبقر كلَّ سبعةٍ منَّا في بدنة)).
          وقال عبد الرَّزَّاق: عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] قال: ((بقدر يسارته)).
          وقال العوفي: عن ابن عبَّاس ☻ إن كان موسراً فمن الإبل، وإلَّا فمن البقر، وإلا فمن الغنم. وفي رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتملي: <قال أبو عبد الله> هو البخاريُّ نفسه، وكان من دأبه أن يذكر لفظاً جاء في القرآن من مادة ما هو بصدده، ولمَّا كان المذكور هو لفظ المُحْصَر، وفي الآية لفظ: {أُحْصِرْتُمْ} فأراد أن يذكر قوله تعالى في شأن يحيى ╕ وحصوراً، ويفسِّره على عادته فقال: {حَصُوراً} [آل عمران:39] وفسَّره بقوله: لا يأتي النِّساء، وهذا التَّفسير نقله الطَّبري عن ابن مسعود وابن عبَّاس ☻ .
          وعن مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير وأبي الشَّعثاء وعطيَّة العوفي كذلك، وسيأتي معنى قوله: لا يأتي النساء قريباً. وعن أبي العالية والرَّبيع بن أنس: هو الذي لا يولد له، وقال الضحَّاك: هو الَّذي لا يولد له ولا ماء له.
          وقال ابن أبي حاتم: من حديث جرير: عن قابوس، عن ابن عبَّاس ☻ في الحَصُور: الذي لا يُنْزِلْ. وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثاً غريباً من حديث سعيد بن المسيَّب، عن ابن العاص: لا يدري / عبد الله أو عمرو، عن النَّبي صلعم في قوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} قال: ثمَّ تناول شيئاً من الأرض فقال: كان ذَكَرُه مِثْلَ هذا.
          ورواه ابن المنذر في «تفسيره» من حديث سعيد بن المسيَّب قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((ما من عبد يلقى الله إلَّا ذا ذنب إلَّا يحيى بن زكريَّا ♂، فإنَّ الله يقول: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} قال: وإنَّما كان ذَكَرُه مِثْلَ هُدْبةِ الثَّوب)).
          وروى ابن أبي حاتم أيضاً بإسناده إلى أبي هريرة ☺، أنَّ النَّبي صلعم قال: ((كلُّ ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذِّبه عليه إن شاء أو يرحمه إلَّا يحيى بن زكريَّا ♂ فإنَّه كان {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} ونبيًّا من الصَّالحين ثمَّ أهوى النَّبي صلعم إلى قذاةٍ من الأرض فأخذها وقال: كان ذَكَرُه مِثْلَ هذه القَذَاة)).
          وقال القاضي: اعلم أنَّ ثناء الله تعالى على يحيى ╕ بأنَّه كان حصوراً ليس كما قاله بعضهم أنَّه كان هيوباً لهنَّ، أو لا ذكر له بل أنكر هذا حُذَّاقُ المفسِّرين ونقَّادُ العلماء، وقالوا: هذه نقيصةٌ وعيب لا يليق بالأنبياء ‰.
          وإنَّما معناه أنَّه معصومٌ من الذُّنوب، والمعنى لا يأتي النِّساء كأنَّه حصر عنها فحصورٌ بمعنى مَحْصُور؛ لأنَّه منع ممَّا يكون من الرِّجال، وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيراً. وقيل: مانعاً نفسه عن الشَّهوات. وقيل: ليست له شهوةٌ في النِّساء، والمقصود بمدح يحيى بأنَّه حصورٌ ليس أنَّه لا يأتي النِّساء كما قاله بعضهم، بل معناه أنَّه معصومٌ عن الفواحش والقاذورات والملاهي، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنِّساء الحلال وغشيانهن وإيلادهنَّ.
          بل قد يفهم وجود النَّسل من دعاء زكريَّا ◙ حيث قال: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38] كأنَّه سأل ولداً له ذريَّة ونسل وعقب.
          وكأن البخاريُّ ☼ أراد بذكر هذا التَّفسير الإشارة إلى أنَّ المادةَ واحدةٌ، والجامع بين معانيها المَنْع.
          فائدة: روي أنَّه ◙ مرَّ بصبيَّان فدعوه إلى اللَّعب فقال: ((ما لِلَّعِب خُلِقْتُ)) والله أعلم.