نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة براءة

          ░░░9▒▒▒ (سُوْرَةُ بَرَاءَةَ) قال أبو الحسن بن الحصار: هي مدنيَّة باتفاق. وقال مقاتلٌ: إلَّا آيتين من آخرها: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة:128] إلى آخرها نزلتا بمكة. وقيل: فيها اختلافٌ في أربع عشرة آية. وهي عشرةُ آلاف وثمانمائة وسبعة وثمانون حرفًا، وألفان وأربعمائة وسبع وتسعون كلمة، ومائة وثلاثون آية، مدني وبصري وشامي ومكِّي، ومائة وعشرون وتسع كوفي. ولها ثلاثة عشر اسمًا اثنان مشهوران: براءة والتَّوبة، وسورة العذابِ، والمقشقشة: لأنها تقشقشُ عن (1) النِّفاق؛ أي: تُبَرِّئ [منه]، وقيل: من تقشقشُ المريض إذا برئ. والبحوث: لأنَّها تبحث عن سرائرِ المنافقين. والفاضحةُ: لأنها فضحتِ المنافقين. والمبعثرة: لأنَّها بعثرتْ أخبار الناس، وكشفتْ عن سرائرهم. والمثيرة: لأنَّها أثارت مخازي المنافقين. والحافرة: لأنَّها حفرت عن قلوبهم. والمشرِّدة: لأنَّها تشرِّد بالمنافقين. والمخزية: لأنَّها تخزي المنافقين. والمنكِّلة: لأنها تنكِّلهم. والمدمدمةُ: لأنها تدمدمُ عليهم.
          واختُلف في سببِ سقوطِ البسملةِ من أولها: فقيل: لأنَّ فيها نقضَ العهد، والعربُ في الجاهلية إذا نقضوا العهدَ الذي بينهم وبين قوم لم يكتبوا فيه البسملة، ولما نزلت براءة بنقضِ العهد قرأهَا عليهم علي ☺، ولم يبسمل جريًا على عادتهم. وقيل: لأنَّ عثمان ☺ قال: كانت الأنفالُ من أوَّل ما نزلَ، وبراءة من آخره، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقُبض النَّبي صلعم ولم يبيِّن لنا أنَّها منها، فظننتُ أنها منها، فمن ثمَّة قرنت بينهما، ولم أكتبْ بينهما البسملة. رواه الحاكم، وصحَّحه.
          وقيل: لما سقطَ أولها سقطتِ البسملة معه. ورُوي ذلك عن عثمان ☺ أيضًا، وقاله مالك في رواية ابن وهب، وابن القاسم. وقال ابنُ عجلان: بلغني أنَّ براءة كانت تعدلُ البقرة، أو قربها، فذهب منها، فلذلك لم تُكتب البسملة. /
          وقيل: لما كُتب المصحفُ في خلافة عثمان ☺ اختلفَ الصَّحابة ♥ . فقال بعضُهم: براءةُ والأنفال سورةٌ واحدة، وقال بعضُهم: هما سورتان، فتُرك بينهما فرجةٌ لقول من لم يقل إنهما سورة واحدةٌ، وبه قال خارجةُ وأبو عصمة وآخرون.
          وروى الحاكم في «مستدركه» عن ابن عبَّاس ☻ قال: سألتُ عليًا ☺ عن ذلك فقال: إنَّ البسملة أمان، وبراءةُ نزلت بالسَّيف، ليس فيها أمانٌ، وإلى هذا ذهب الإمام الشَّاطبي حيث قال في حرزه:
وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً                     لِتَنْزِيْلِهاَ بالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلَا
          وقال القشيري: والصَّحيح أنَّ البسملة لم تكن فيها لأنَّ جبريل ◙ ما نزل فيها. وروى الثَّعلبي عن عائشة ♦ أنَّ سيدنا رسول الله صلعم قال: ((ما نزلَ عليَّ القرآن إلَّا آيةً آيةً وحرفًا حرفًا خلا سورة براءة و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإنهما أنزلتا عليَّ ومعهما سبعون ألفًا من الملائكة)).
          ({مَرْصَدٍ}: طَرِيقٍ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] أي: كل طريق، وكذا فسَّره أبو عبيدة، ويُجمع على مراصد وهي الطرق. وقوله: {لَهُمْ} أي: للكفَّار المشركين، ولم تقع هذه اللَّفظة إلا في بعض النُّسخ، وقد وقع في بعض النُّسخ هنا: <{إِلًّا}: القرابة، والذِّمَّة: العهد> يعني تفسير قوله: {إِلاًّ} في قوله تعالى: {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة:8].
          (({وَلِيجَةً}: كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ)): أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16] وفسَّر {وَلِيجَةً} بقوله: «كلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ»، وروي كذلك عن الرَّبيع، وهي فعيلة من الولوج.
          وفي التفسير: {وَلِيجَةً}؛ أي: بطانة ودخيلة؛ يعني: الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة؛ أي: بطانة؛ بل هم في الظَّاهر والباطن على النُّصح لله ولرسوله، والمعنى: لا ينبغي أن يوالوهم ويفشوا إليهم أسرارهم، وقد سقط قوله: <{وَلِيجَةً}إلى آخره> في رواية أبي ذرٍّ، وثبتَ في رواية غيره.
          ({الشُّقَّةُ}: السَّفَرُ) أشار به إلى قوله تعالى: / {لوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42] وفسَّر {الشُّقَّةُ} بالسفر، وكذا فسَّره أبو عبيدة وزاد: البعيد. وقيل: الشُّقة: الأرض التي يشقُّ سلوكها، ورُوي عن ابن عبَّاس ☻ تفسيرها بالسَّفر.
          وفي التَّفسير: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي: غنيمة قريبة ({وسَفرًا قَاصِدًا})؛ أي: قريبًا أيضًا ({لاتَّبَعُوكَ}): أي: لكانوا معك ({ولكنْ بَعُدَتْ عليهم الشُّقَّة})؛ أي: المسافة إلى الشام.
          (الْخَبَالُ: الْفَسَادُ، وَالْخَبَالُ: الْمَوْتُ) أشار به إلى قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] وفسَّر الخبال بالفساد، وكذا فسَّره أبو عبيدة ويكون في الأفعال والأبدان والعقول، من خبله يخبله خبْلًا _بسكون الباء وبفتحها_ الجنون.
          وقوله: «والخبال: الموت»، كذا وقع في الرِّوايات. وقال الحافظُ العسقلاني: والصَّواب: المُوتة _بضم الميم وبالهاء في آخره_، وهو ضَرْبٌ من الجنون، وقال الجوهريُّ: الموتة _بالضم_: جنسٌ من الجنون والصَّرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله، كالنَّائم والسَّكران. والاستثناء في الآية يجوز أن يكون منقطعًا؛ أي: إنَّه لم يكن في عسكرِ رسول الله صلعم خبال، فكأنَّ المعنى: ما زادوكُم قوَّة ولا شدَّة لكن خبالًا، وأن يكون متصلًا وذلك أن عسكرَ رسول الله صلعم في غزوة تبوك كان فيهم منافقون كثير ولهم لا محالة خبالٌ، فلو خرجَ هؤلاء لالتأموا مع الخارجين فيزيدُ الخبال. وقد وقع في بعض النُّسخ هنا: <{لَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} أسرعوا في السير>.
          ({وَلاَ تَفْتِنِّي}: لاَ تُوَبِّخْنِي) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] وفسر قوله: {وَلَا تَفْتِنِّي} بقوله: «لا تُوبِّخني»، من التوبيخ _بالباء الموحدة_ في أكثر الرِّوايات، وفي رواية المستملي والجُرجاني: <لا تُوهنِّي> بالهاء وتشديد النون، من الوهن وهو الضَّعف. وفي رواية ابنِ السَّكن: <لا تؤثِّمْني> بتشديد الثاء المثلثة وسكون الميم، من الإثم.
          قال القاضي عياض: وهو الصَّواب، وكذا وقع في كلام أبي عبيدة الذي يُكثر المصنِّف / النَّقل عنه، وأخرجه الطَّبري من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {وَلَا تَفْتِنِّي} قال: لا تؤثمني.
          {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] ألا في الإثمِ سقطوا، والآيةُ نزلت في جدِّ بن قيس المنافق، قال له صلعم : ((هل لك في جلاد بني الأصفر _يعني: الروم_ تتخذ منهم سراري ووصفاء؟)) فقال: ائذن لي في القعودِ عنك، ولا تفتني بذكر النساء فقد علم قومي أني مغرمٌ بهنَّ، وإني أخشى أن لا أصبرُ عنهنَّ.
          وقال ابن عبَّاس ☻ : اعتلَّ جدُّ بن قيس بقوله: {وَلَا تَفْتِنِّي} ولم يكن له علة إلَّا النِّفاق.
          ({كَرْهًا}) بفتح الكاف (وَ({كُرْهًا})) بضمها (وَاحِدٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة:53] وأشار به إلى أن فيه لغتين فتح الكاف وضمها، وهو كلام أبي عبيدة، قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب: بالضم، والباقون بالفتح. والمعنى: قل يا محمد: أنفقوا طائعين أو مكرهين لن يتقبَّل منكم إنَّكم كنتُم قومًا فاسقين، ثمَّ بيَّن الله تعالى سبب ذلك بقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} [التوبة:54] الآية.
          ({مُدَّخَلًا} يُدْخَلُونَ فِيهِ) أشار به إلى قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} [التوبة:57] قال أبو عبيدة في قوله: {مَلْجَأً} يلجئون إليه {أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} فيدخلون فيه ويتغيبون، انتهى.
          وأصل {مُدَّخَلًا} مُدْتَخلًا فأدغم. وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر: بتشديد الخاء أيضًا، وقرأ يعقوب وابن كثير في رواية ((مَدْخَلًا)) بفتحتين بينهما سكون، والمعنى: لو يجدون حصنًا يتحصنون به، وحرزًا يحترزون به، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي الكهوفُ في الجبال ({أو مُدَّخَلًا})، وهو السَّرب في الأرض، وقد أخبرَ الله عنهم أنهم يحلفون بالله إنهم لمنكم يمينًا مؤكدة، وما هم منكم في نفسِ الأمر، إنما يخالطونكُم كرهًا لا محبَّة.
          ({يَجْمَحُونَ}: يُسْرِعُونَ) أشار به إلى قوله تعالى: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:57] وفسَّره بقوله: «يُسرعون»، وكذا فسَّره أبو عبيدة، وزاد: لا يَرُدُّ وجوههم شيءٌ، ومنه فرس جموحٌ، وهو آخرُ الآية المذكورة الآن؛ يعني: في ذهابهم عنكم؛ لأنهم إنما يخالطونكم كرهًا، وودوا أنهم / لا يخالطونكم.
          ({وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}: ائْتَفَكَتْ انْقَلَبَتْ بِهَا الأَرْضُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [التوبة:70] وفسَّر {المُؤْتَفِكَاتِ} بقوله: «ائتكفتْ انقلبت بها الأرض». قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} هم قومُ لوط. وفي التفسير: {وَالمُؤْتَفِكَاتِ} قوم لوطٍ ◙، وكانوا يسكنون في مدين، وأهلكهُم الله ╡ بتكذيبهم نبيَّ الله لوطًا ◙، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحدٌ من العالمين، وأصله من أَفَكَه يَأْفِكه إِفْكًا: إذا صرفه عن الشَّيء وقلبَه، وأفِك فهو مَأْفوك، والآفكة: العذابُ الذي أرسلَه الله على قومِ لوطٍ فقلب بها ديارهُم، والبلدةُ مؤتفكة، وتجمع على مؤتفكات.
          ({أَهْوَى}: أَلْقَاهُ فِي هُوَّةٍ) بضم الهاء وتشديد الواو؛ أي: مكان عميقٍ، هذا اللَّفظة لم تقعْ في سورة براءة وإنما هي في سورة النَّجم، ذكره المصنف هنا استطرادًا لقوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]. قال في «الكشاف»: {أَهْوَى} أي: رفعها إلى السَّماء على جناحِ جبريل ◙ ثمَّ أهواها إلى الأرض؛ أي: أسقطها.
          ({عَدْنٍ} خُلْدٍ، عَدَنْتُ بِأَرْضٍ: أَقَمْتُ) ويُروى: <أي: أقمت> (وَمِنْهُ: مَعْدِنٌ، وَيُقَالُ: فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ، في منبت صدق) أشار به إلى قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة:72] وفسّر قوله: {عَدْنٍ} بقوله: «خُلْد» _بضم الخاء وسكون اللام_ وهو دوامُ البقاء، يُقال: خلد الرجل يخلدُ خلودًا، من باب نصر ينصرُ. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: خُلْد، يقال: عَدَن فلانٌ بأرض كذا؛ أي: أقام، ومنه المعدن، عَدَنْتُ بأرض: أقمتُ، ويُقال: في معدن صدقٍ: في منبت صدقٍ، انتهى.
          قوله: «عَدَنْتُ بأرض...» إلى آخره؛ يعني: أن معنى عَدَنت بأرضٍ: أقمت بها؛ لأنه من العدن، وهو الإقامة يُقال: عدن بالمكان يعدن عدنًا: إذا لزمه ولم يبرحْ عنه.
          وقوله: «ومنه مَعْدِن»؛ أي: اشتقاق معدن من عدن، وهو الموضعُ الذي يُستخرج منه جواهر الأرض كالذَّهب والفضة والنحاس وغير ذلك.
          وقوله: «يُقال: فلان في معدن صدقٍ»: إذا كان مستمرًا عليه، لا يبرح عنه كأنه صار معدنًا للصِّدق.
          وقوله: «في مَنْبِت صدق» _بفتح الميم / وسكون النون وكسر الموحدة_ اسمٌ لموضع النَّبات، ويُقال: لمكان يستقرُّ فيه النبات هذا منبت صدقٍ، وقالوا في تفسير قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر:55] أي: مكان مرضي، والصِّدق هنا كناية عن استمرار الرِّضى فيه، وقد سقطَ في رواية أبي ذرٍّ قوله: <عدنت...إلى آخره>.
          ({الْخَوَالِفِ}: الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي، وَمِنْهُ: يَخْلُفُهُ فِي الْغَابِرِينَ) أشار بقوله «الخوالف» إلى قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87] وفسَّره بقوله: «الخالف الذي خلفني فقعدَ بعدي». قال أبو عبيدة: في قوله: {مَعَ الخَالِفِينَ} [التوبة:83] الخالفُ الذي خلفَ بعد شاخص فقعدَ في رحلهِ، وهو من تخلَّف عن القوم، ومنه قوله: اللَّهمَّ اخلفني في ولدي.
          قال ابن عبَّاس ☻ : أي: الرِّجال الذين تخلَّفوا عن الغزاة؛ لأنَّ جمع النِّساء لا يكون بالياء والنون. فإن قلت: روي عن قتادة في قوله تعالى: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83] قال: أي: النساء. فالجواب: أنه ردَّ عليه ابن جرير بما ذكر من أن جمع النِّساء لا يكون بالياء والنون، ورجَّح قول ابن عبَّاس ☻ .
          والتَّحقيق في ذلك: أنَّ المراد بالخوالفِ في الآية النِّساء والرِّجال العاجزون والصِّبيان، فجمع جمع المؤنث تغليبًا لكونهنَّ أكثر في ذلك. وأمَّا قوله: {مَعَ الْخَالِفِينَ} فجمع جمع المذكر تغليبًا لأنَّه الأصل.
          وقال ابنُ قتيبة: الخوالفُ: النساء، ويُقال: خساس النَّاس ورذالتهم، ويُقال: فلان خالفَة أهله: إذا كان دنيًا فيهم، والآية المذكورة وما قبلها في قصَّة غزوة تبوك، وذلك أنهم لما أمروا بتلك الغزوة تخلَّفت جماعة، منهم من بين الله عذرهم بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} إلى قوله: {أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:91] ونفى الله عنهم الملامة، ثمَّ ردَّ الله الملامةَ على الذين يستأذنونك في القعود وهم أغنياء {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87] أي: مع النِّساء الخوالفِ في الرِّجال، وطبعَ الله على قلوبهم فهم لا يعلمون.
          قوله: «ومنه يخلفه في الغابرين» هذا دعاءٌ لمن مات له ميت: اللَّهمَّ اخلفه في الغابرين. قال النَّووي: أي: في الباقين من عقبه. وفي «صحيح مسلم» من حديث أمِّ سلمة ♦: ((اللَّهمَّ اغفرْ لأبي سلمة، وارفع درجتَه في المهديين، واخلفْه في عقبهِ في الغابرين)). قال النَّووي في «شرحه»: أي: الباقين كقوله: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171] هذا ولفظ {الْغَابِرِينَ} يجيءُ بمعنى الماضي والمستقبل، فهو من الأضداد، والفرق في المعنى بالقرينة.
          (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ، مِنَ الْخَالِفَةِ) وهي المرأةُ على أن يكون الخوالفُ جمع خالفةٍ، وإنما الخالفُ يجمع على الخالفين بالياء والنون، والمفهوم من صدر كلامه أنَّ الخوالفَ جمع خالفٍ، فافهم.
          (وَإِنْ) بالواو، وفي رواية / أبي ذرٍّ: بالفاء (كَانَ جَمْعَ الذُّكُورِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ) بالدال، ويروى بالراء (جَمْعِهِ إِلاَّ حَرْفَانِ: فَارِسٌ وَفَوَارِسُ، وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وهالك في الهوالك>. قال أبو عبيدة في قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} يجوز أن يكون الخوالف هنا النِّساء، ولا يكادون يجمعون الرِّجال على فواعل، غير أنهم قد قالوا: فارس فوارس، وهالك وهوالك، انتهى.
          وقد استدرك عليه ابنُ مالك: شاهقٌ وشواهق، وناكسٌ ونواكس، وداجنُ ودواجن، وهذه الثلاثة مع الاثنين جمع فاعل وهو شاذٌّ، والمشهور في فواعل أنَّه جمع فاعلة، فإن كان من صفة النِّساء فواضحٌ، وقد تحذف الهاء في صفة المفرد من النساء، وإن كان من صفة الرِّجال فالهاء للمبالغة، يُقال: رجلٌ خالفة، لا خيرَ فيه، والأصلُ في جمعه النون. واستدرك بعضُ الشُّرَّاح على الخمسةِ المتقدِّمة: كاهل وكواهل، وجانح وجوانح، وغارب وغوارب، وغاش وغواش.
          ({الْخَيْرَاتُ} وَاحِدُهَا خَيْرَةٌ، وَهْيَ الْفَوَاضِلُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} [التوبة:88] وذكر أن واحدة الخيرات خَيْرَة ثمَّ فسَّر {الخيرات} بالفواضل، وكذا فسَّره أبو عبيدة. وقيل: الخيرة الفاضلة من كلِّ شيءٍ. وفي التَّفسير: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} أي: في الدَّار الآخرة في جنَّات الفردوس والدَّرجات العلى.
          (مُرْجَؤُونَ: مُؤَخَّرُونَ) لم يثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ، وأشار به إلى قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَؤونَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106] وفسَّر {مُرْجَؤونَ} بقوله: مؤخَّرون؛ أي: مؤخرون لأمر الله ليقضي الله فيهم ما هو قاضٍ، و{مُرْجَوْنَ} من أرجأتُ الأمر، وأرجيته بهمز وبغيره وكلاهما بمعنى التَّأخير، ومنه المرجئة، وهم فرقةٌ من فرقِ الإسلام يعتقدون أنَّه لا يضرُّ مع الإيمان معصية كما أنَّه لا ينفعُ مع الكفرِ طاعة.
          والمراد من قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} الثَّلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك في جملة من قعدَ كسلًا وميلًا إلى الدَّعة والخَفْضِ / وطيبِ الثِّمار والظِّلال لا شكًا ونفاقًا، قاله ابن عبَّاس ومجاهد وعكرمة والضَّحاك وآخرون.
          (الشَّفَا: شَفِيرٌ) وفي رواية أبي ذر: <الشفير> (وَهْوَ حَدُّهُ) وفي رواية الكشميهني: <وهو حرفه> أشار به إلى قوله تعالى: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ} [التوبة:109] وفسر الشَّفا بقوله: «شفير»، ثمَّ قال: «وهو حدُّه»؛ أي: طرفه (وَالْجُرُفُ: مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ وَالأَوْدِيَةِ، {هَارٍ}: هَائِرٍ) أشار به إلى قوله تعالى {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} ثمَّ فسَّر الجرف بقوله: «ما تجرَّف من السُّيول»؛ أي: من جهة السُّيول «والأودية» وبسببهما وهو [الذي] ينحفرُ بالماء فيبقى واهيًا.
          قال أبو عبيدة في قوله: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} الشَّفا: الشفير، والجُرُف: ما لم يُبْنَ من الرَّكايا، ثمَّ فسَّر قوله: {هَارٍ} بقوله: «هائر»، يقال: تهوَّرت البئر: إذا انهدمتْ، وانهار مثله. قال أبو عبيدة: في قوله: {هَارٍ} أي: هائر، والعرب تنزع الياء التي في الفاعل، وقيل: إنَّه مقلوب ومعلولٌ إعلال قاض. وقيل: لا حاجةَ إليه بل أصله: هور، وألفه ليست بألف فاعلٍ إنما هو عينه، وهو بمعنى ساقط، والآية تمثيلٌ لما بنوا عليه أمرَ دينهم في البطلانِ وسرعة الانطماسِ، ثمَّ رشحهُ بانهياره به في النَّار، وذكره في مقابلة الرِّضوان تنبيهاً على أن تأسيسَ أمر الدِّين على التَّقوى يحفظه من أسسه عن النَّار، ويوصله إلى رضوانِ الله تعالى، وتأسيسه عليه على ما هو بـ صددِ الوقوع في النار ساعة فساعة، ثمَّ إن مصيرهُم النَّار لا محالة.
          (لأَوَّاهٌ شَفَقًا وَفَرَقًا) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] والأواه: المتأوِّه المتضرِّع، قال أبو عبيدة في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} أوَّاه: هو فعَّال _بالتشديد_ من التَّأوه، ومعناه: متضرِّع شفقًا وفرقًا لطاعةِ ربِّه، وقيل: هو كنايةٌ عن ترحُّمه ورقَّة قلبهِ، وفيه بيان الحامل له على الاستغفار لأبيهِ مع شكايته عليه. وقال سفيان وغيرُ واحدٍ عن عاصم بن بهدلةَ عن زرِّ بن حُبيش عن ابن مسعود ☺ أنَّه قال: الأوَّاه: الدُّعاء.
          وروى ابنُ أبي حاتم من حديث ابنِ المبارك عن عبد الحميد بن بهرام، / قال: الأوَّاه: المتضرِّع الدُّعاء، وعن مجاهد وأبي ميسرة عَمرو بن شرحبيل والحسن البصري وقتادة: أنَّه الرحيم؛ أي: لعباد الله. وعن عليِّ بن أبي طلحة ومجاهد عن ابن عبَّاس ☻ : الأوَّاه: المؤمن، وزاد عليُّ بن أبي طلحة عنه: المؤمن التَّوَّاب. وقال سعيد بن جبير والشَّعبي: الأوَّاه: المسبح.
          وعن أبي أيوب: الأواه: الذي إذا ذكر خطاياه استغفرَ منها، وروى ابنُ جرير بإسناده إلى عطاء عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ النَّبي صلعم دَفن ميتًا فقال: ((رحمك اللهُ إن كنتَ لأوَّاهًا)) يعني: تلاء للقرآن، ويُقال: أصل التَّأوه التَّكلم بكلمة تدلُّ على التَّوجع، وقولهم عند الشِّكاية: أَوْه من كذا، إنما هو تَوَجُّع.
          وقوله: «شفقًا»؛ أي: لأجل الشَّفقة ولأجل الفرق، وهو الخوفُ، وذلك لأنَّ إبراهيم ◙ كان حليمًا على من ظلمَه، وخائفًا من عظمة الله تعالى.
          (وَقَالَ الشَّاعِرُ) وسقط لفظ: <الشاعر> في رواية غير أبي ذرٍّ، وهو المثقَّب العبدي _بتشديد القاف المفتوحة، وقيل: بكسر القاف، والأول أشهر،_ واسمه: جحاش بن عائذ، وقيل: ابن نهار، وقيل: غير ذلك.
          (إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ. تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ) كأنَّه يحتج بهذا البيت على أنَّ لفظ أوَّاه على وزن فعَّال _بالتشديد_ من التَّأوه.
          قال الجوهريُّ: تأوَّه الرجل تأوهًا: إذا قال: أَوَّه، والاسم: الآهة _بالمد_، وقال الحريري في «درة الغَوَّاص»: يقولون في التَّأوه: أَوَّه، والأفصح: أَوْهِ _بكسر الهاء وضمها وفتحها، والكسر أغلب_، وعليه قول الشاعر:
فَأَوْهِ لِذِكْرَاهَا إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا
          وقد شدَّد بعضهم الواو فقال: أوَّهْ، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو، فقال: أوِّ، وتصريف الفعل منها أَوَّه وتأوَّه، والمصدر: الآهة.
          وقوله: «أَرْحَلها» _بفتح الهمزة والحاء المهملة_ من رحَّلت النَّاقة: إذا شددت الرَّحل على ظهرِها، والرَّحل: أصغر من القتب، والآهة _بمد الهمزة وتخفيف الهاء_، وفي رواية الأصيلي: بقصر الهمزة وتشديد الهاء، ثمَّ هذا البيت من قصيدة، وهي طويلةٌ وأولها:
أفاطِمَ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِيْنِي                     ومَنْعُكِ مَا سَألْتِ كَأنْ تَبِيْني
وَلَا تَعِدِي مَوَاعِدَ كَاذِبَاتٍ                     تَمُرُّ بِهَا رِيَاحُ الصَّيْفِ دُونِي
فَإِنِّي لَوْ تُخَالِفُنِي شِمَالِي                     لَمَا أَتْبَعْتُهَا أَبَدًا يَمِينِي /
إِذَنْ لَقَطَعْتُهَا وَلَقُلْتُ بَيِّنِي
          إلى أن قال:
فَسَلِّ الهمَّ عَنْكَ بِذَاتِ لُوْثٍ                     عُذَافِرَةٍ كَمِطْرَقَةِ القُيُونِ
          إِذَا مَا قُمْتُ.... البيت
تَقُوْلُ إِذَا دَرَأْتُ لَهَا وَضِيْنِي                     أَهَذَا دِيْنُهُ أَبَدًا وَدِيْنِي
أَكُلُّ الدَّهْرِ حِلٌّ وَارْتِحَالٌ                     فَمَا يُبْقِي عَلَيَّ وَلاَ يَقِيْنِي
          ومن حكمها:
فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَخِي بِصِدْقٍ                      فَأَعْرِفُ مِنْكَ غَثِّي مِنْ سَمِينِي
وَإِلَّا فَاطَّرِحْنِي وَاتَّخِذْنِي                     عَدُوًّا أَتَّقِيكَ وَتَتَّقِينِي
وَما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرضًا                     أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي
آلخَيْرَ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيْهِ                     أَمِ الشَّرَّ الَّذِي هوَ يَبْتَغِيْنِي
          قوله: أفاطم _بفتح الميم وضمها_ منادى مرخم، وقوله: قَبْلَ بَيْنِكِ؛ أي: قبل قطعك.
          وقوله: ذات لُوث _بضم اللام_ يُقال: ناقة لوثة؛ أي: كثيرة اللَّحمِ والشَّحم.
          وقوله: عُذافِرَة _بضم العين المهملة وكسر الفاء وفتح الراء_ [يقال: ناقة عذافرة] أي: عظيمة. وقال الجوهريُّ: يُقال: جمل عذافر، وهو العظيمُ الشديد.
          وقوله: كمطرقة القيون، هو جمع قين وهو الحدَّاد.
          وقوله: وَضِيْني _بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة بعدها تحتية ساكنة وبالنون_ وهو الهودجُ.
          وقوله: حلٌّ؛ أي: حلول الحل، والحلولُ والمحلُّ مصادر من حل بالمكان، والمعنى: أكل الزمان موضعُ حلول وارتحالٍ.
          وقوله: لا يقيني؛ أي: ولا يحفظني، من وَقى يقِي وقايةً.
          وقوله: بصدقٍ، ويُروى: بحقٍّ.
          وقوله: فأعرف، بالنصب؛ أي: فإن أعرفْ.
          وقوله: غَثِّي _بالغين المعجمة وتشديد المثلثة_ من غث اللَّحم: إذا كان مهزولًا، والمعنى: فأعرفْ عنك ما يفسد ممَّا يصلح.
          (يُقَالُ: تَهَوَّرَتِ البِئْرُ: إِذا انْهَدَمَتْ، وانْهَارَ مِثْلُهُ) كذا وقع هنا لأبي ذرٍّ وأبي الوقت، وسقطَ في رواية غيرهما.


[1] كذا في العمدة، وفي كثير من كتب التفسير (من) ولعله الصواب.