نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة التغابن

          ░░░64▒▒▒ (سُورَةُ التَّغَابُنِ) وفي نسخة: <سورة التغابن والطلاق> وهي رواية أبي ذرٍّ، وإفراد التَّغابن ثم ذكر سورة الطَّلاق بترجمةٍ هو المناسب اللائق.
          قال أبو العبَّاس: هي _أي: سورة التَّغابن_ مدنيَّةٌ بلا خلافٍ. وقال مقاتل: مدنيَّةٌ وفيها مكيٌّ، وقال الكلبي: مكيَّةٌ ومدنيَّةٌ. وقال ابن عباس ☻ : مكيَّةٌ إلَّا آياتٍ من آخرها نزلت بالمدينة.
          قال: والتَّغابن اسمٌ من أسماء القيامة، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّه يغبن فيه المظلوم الظَّالم، وقيل: يغبن فيه الكفَّار في تجارتهم التي أخبر الله أنَّهم اشتروا الضَّلالة بالهدى، وهي ألفٌ وسبعون حرفًا، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وثمان عشرة آية.
          (╖) / سقطت البسملة في رواية غير أبي ذرٍّ (وَقَالَ عَلْقَمَةُ) هو: ابنُ قيس (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أي: ابن مسعود ☺ في قوله تعالى: ({وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}) مجزومٌ بالشرط (هُوَ الَّذِي إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ رَضِيَ، وَعَرَفَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ) ويُروى: <من عند الله>؛ أي: يهتدي إلى التَّسليم لقضائهِ فيصبرُ ويشكرُ، وصله عبد بن حُميد في «تفسيره» عن عمر بن سعد عن سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن علقمة عن عبد الله بن مسعود ☺: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال: هو الرَّجل يُصاب بمصيبةٍ فيعلم أنَّها من عند الله فيسلم ويرضى.
          وكذا وصله عبد الرَّزاق عن ابن عيينة، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علقمة مثله، لكن لم يذكر ابن مسعود ☺، وكذا أخرجه الفريابي عن الثَّوري عن الأعمش والطَّبري من طرق عن الأعمش.
          وقد أخرجه البرقانيُّ من وجهٍ آخر فقال: عن علقمة قال: شهدنا عنده؛ يعني: عند عبد الله بن مسعود ☺ عرض المصاحف فأتى على هذه الآية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال: هي المصيبات تصيب الرَّجل فيعلم أنَّها من عند الله فيسلِّم ويرضى، وعند الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ☻ قال: المعنى يهدي قلبه ويوفِّقه لليقين، فيعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأهُ لم يكن ليصيبه فيسلم لقضائه.
          وكذا ذكره محيي السُّنَّة فيما ذكره في «فتوح الغيب».
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّغَابُنُ: غَبَنُ أَهْلُ الجَنَّةِ أَهَلَ النَّارِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ عن الحموييِّ وحده، وسقط في غيرها. وقد وصله الفريابي وعبد بن حميدٍ من طريق مجاهد، و«غَبَن»: بفتح المعجمة والموحدة.
          وروى الطَّبري من طريق شعبة عن قتادة: يوم التَّغابن يوم غبن أهل الجنَّة أهل النَّار؛ أي: لكون أهل الجنَّة بايعوا على الإسلام بالجنَّة فربحوا، وأهل النَّار امتنعوا من الإسلام فخسروا، فشبهوا بالمتبايعين يغبنُ أحدهما الآخرَ في بيعه، ويؤيِّد ذلك ما سيأتي [خ¦6569] من طريق الأعرج عن أبي هريرة ☺ رفعه: ((لا يدخل أحد الجنَّة إلَّا أُري مقعده من النَّار لو أساء، ليزداد شكرًا، ولا يدخل أحدٌ النَّار إلَّا أري مقعده من الجنَّة لو أحسن ليكون عليه حسرة)).
          وقال القاضي كـ«الكشاف»: / لنزول أهل الجنَّة منازل أهل النَّار، لو كانوا سعداء، وبالعكس مستعار من تغابن التُّجار، لكن قال في «فتوح الغيب»: لا يستقيمُ باعتبار الأشقياء؛ لأنَّهم لا يغبنون السُّعداء بنزولهم في منازلهم من النَّار إلَّا بالاستعارة التَّهكمية.
          ولذا قال في «الكشاف»: وفيه تهكُّمٌ بالأشقياء؛ لأنَّ نزولهم ليس بغبنٍ، وجعل الواحدي التَّغابن من طرفٍ واحدٍ للمبالغة حيث قال: يوم التَّغابن يغبنُ فيه أهل الحقِّ أهل الباطل، وأهل الإيمان أهل الكفر، ولا غبن أبين من هذا، هؤلاء يدخلون الجنَّة، وهؤلاء يدخلون النَّار.
          وأحسن منهما ما ذكره محيي السُّنَّة قال: هو تفاعلٌ من الغبن، وهو فوت الحظِّ والمراد، فالمغبون من غبن في أهلهِ ومنازله في الجنَّة، فظهر يومئذٍ غبن كلِّ كافرٍ بترك الإيمان، وغبن كلِّ مؤمنٍ بتقصيره في الإحسان، والله تعالى أعلم.