نجاح القاري لصحيح البخاري

{ويل للمطففين}

          ░░░83▒▒▒ (سُوْرَةُ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}) وفي بعض النسخ: <سورة المطففين> ويُقال لها أيضًا: سورة التَّطفيف. قال أبو العبَّاس في رواية همَّام وسعيد عن قتادة، / ومحمَّد بن ثور عن مَعمر أنَّها مكيَّة، وكذا قال سفيان. وقال السُّدي: إنَّها مدنيَّة. وعن الكلبي: نزلتْ على رسول الله صلعم في طريقه من مكَّة إلى المدينة.
          وقال مقاتل: مدنيَّة غير آية نزلت بمكَّة {قال أَسَاطِيرُ الأولين} [المطففين:13]. وعند ابنِ النَّقيب عنه هي أوَّل سورةٍ نزلت بالمدينة، وذكر السَّخاوي أنَّها نزلت بعد سورة العنكبوت.
          وفي سنن النَّسائي وابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ من طريق يزيد النَّحوي عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: لمَّا قدم النَّبي صلعم المدينة كانوا من أخبث النَّاس كيلًا، فأنزل الله ╡: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
          وقال الثَّعلبي: مدنيَّةٌ، وهي سبعمائة وثمانون حرفًا، ومائة وتسع وستون كلمة، وست وثلاثون آية.
          (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ.
          قوله تعالى: {وَيْلٌ}: قال مقاتل: ويلٌ وادٍ في جهنَّم، قعره سبعون سنة، فيه سبعون ألف شعب، في كلِّ شعبٍ سبعون ألف شقٍّ، في كلِّ شقٍّ سبعون ألف مغار، في كلِّ مغارٍ سبعون ألف قصرٍ كالتَّوابيت من حديدٍ، في كلِّ تابوتٍ سبعون ألف شجرةٍ، في كلِّ شجرةٍ سبعون ألف غصنٍ من نارٍ، في كلِّ غصنٍ سبعون ألف ثمرةٍ طولها سبعون ألف ذراعٍ، تحت كلِّ شجرةٍ سبعون ألف ثعبان وسبعون ألف عقربٍ، طول كلِّ ثعبانٍ مسيرة شهرٍ، وغلظه كالجبل له أنيابٌ كالنَّخل، له ثلاثمائة وسبعون قفَّازًا، في كلِّ قفازٍ قلَّةٌ من سمٍّ.
          وذكره القتبي في كتابه «عيون الأخبار» عن ابن عبَّاس ☻ ، وذكر ابن وهب نحوه في كتاب «الأهوال». والعهدة في ذلك على من ذكره.
          وقال صاحب «التلويح»: ونظيره ما في «صحيح ابن حبَّان» من حديث أبي هريرة ☺ يسلَّط على الكافر _أي: في قبره_ تسعةٌ وتسعون تنينًا، أتدرون ما التِّنين؟ سبعون حيَّةً، لكلِّ حيَّةٍ سبعة رؤوسٍ يلسعونه ويخدشونه / إلى يوم القيامة.
          والمطفِّفون الَّذي ينقصون النَّاس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن؛ [وأصله من الشيء الطفيف، وهو النزر القليل، والتطفيف: النجس في الكيل والوزن] (1) لأنَّ ما يبخس من شيءٍ طفيف حقير.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {بَلْ رَانَ} ثَبَتُ الْخَطَايَا) وسقط في رواية غير أبي ذرٍّ لفظ: <{بَلْ}> أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] أي: ثبت الخطايا؛ أي: غلبت واستمرَّت على قلوبهم حتَّى غمرتها وغشيتها، ويُروى: بفتح المثلثة وسكون الموحدة، وصله الفريابي عنه. وروى ابنُ أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال: ثبتت على قلوبهم الخطايا حتَّى غمرتها، انتهى.
          والرَّان والرَّين: الغشاوة، وهو كالصَّدى على الشَّيء الصَّقيل من سيفٍ ونحوه، قال:
وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ                       فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ وَانْجَلَى
          وأصل الرَّين الغلبة، ومنه رانت الخمر على عقل شاربها، وران فيه النَّوم؛ أي: رسخ وغلب، ومعنى الآية والله أعلم: أنَّ الذُّنوب غلبت على قلوبهم وأحاطت بها.
          وروى ابن حبَّان والحاكم والتِّرمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنَّسائي من طريق القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة ☺ عن النَّبي صلعم قال: ((إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نكت (2) في قلبه فإن هو نزعَ واستغفرَ صُقلتْ، فإن هو عادَ زيد فيها حتَّى تعلوَ قلبه فهو الرَّان الذي ذكر الله تعالى في كتابه {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ})). وروي من طريق الأعمش عن مجاهدٍ قال: كانوا يرون الرَّين هو الطَّبع.
          ({ثُوِّبَ} جُوزِيَ) أشار به إلى قوله تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] وفسَّر {ثُوِّبَ} بقوله: «جُوزي» على بناء المفعول، من الجزاء، وهو قول أبي عُبيدة، ووصله الفريابيُّ عن مجاهدٍ أيضًا.
          (الرَّحِيقُ: الخَمْرُ {خِتامُهُ مِسْكٌ} طِينَتُهُ التَّسْنيمُ يَعْلو شَرَابَ أهْلِ الجَنَّةِ) أشار به إلى قوله تعالى: {يُسْقَونَ مِنْ رَحِيْقٍ} [المطففين:25] وفسَّر الرَّحيق: بالخمر، وأشار به بقوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26] إلى قوله ╡: {مَخْتُومٌ خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:25-26] طينته، وفسَّر: {خِتَامُهُ} بقوله: طينته، وفي نسخة: <طينه>؛ يعني: ختم ومنع من أن يمسَّها ماسٌّ، أو تتناولها يدٌ إلى أن يفكَّ ختمها / الأبرار، أو المعنى: أنَّ آخر شربه يفوحُ منه رائحة المسك، وأشار بقوله: التَّسنيم يعلو شراب أهل الجنَّة إلى قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27].
          قال الضَّحَّاك: هو شرابٌ اسمه: تسنيم، وهو من أشرف الشَّراب، وهو معنى قوله: «يعلو شراب أهل الجنَّة». وقال مقاتلٌ: يُسمَّى: تسنيمًا؛ لأنَّه يتسنَّم؛ أي: يجري في الهواء متسنِّمًا فينصبُّ عليهم انصبابًا من فوقهم في غرفهم ومنازلهم، وقيل: ينصب في أوانيهم على قدر ملئها فإن امتلأتْ أمسك، وقيل: يجري من جنَّة عدنٍ إلى الجنان، وثبت هذا أيضًا في رواية النَّسفي وحدَه، وقد تقدم في «بدء الخلق» [خ¦59/8-5029].
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير مجاهد (الْمُطَفِّفُ) بكسر الفاء (هُوَ الَّذِي لاَ يُوَفِّي غَيْرَهُ) أي: حقَّه في المكيال والميزان، والطَّفف: النُّقص، ولا يكاد المطفف يسرقُ في الكيل والوزن إلَّا الشَّيء التَّافه الحقير، وقوله: <غيره> بعد قوله: «لا يوفي»، لم يثبت إلَّا في رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني، وهو قول أبي عبيدة.
          ({يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}) أي: لأجل أمرهِ وحسابهِ وجزائه، وهذه الآية ثبتت في رواية أبي ذرٍّ وحده.


[1] من عمدة القاري.
[2] في هامش الأصل: ويروى: نكت في قلبه نكتة.