نجاح القاري لصحيح البخاري

{والنجم}

          ░░░53▒▒▒ (سُوْرَةُ {وَالنَّجْمِ}) وسقط لفظ <سورة> في رواية غير أبي ذرٍّ، وهي مكيَّة، قال مقاتل: غير آية نزلت في نبهان التمَّار وهي {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} [النجم:32] الآية. وفيه ردٌ لقول أبي العبَّاس في «مقامات التَّنزيل» وغيره: مكيَّة بلا خلاف. وقال السَّخاوي: نزلت بعد سورة الإخلاص، وقبلَ سورة عبس. وهي ألف وأربعمائة حرف، وثلاثمائة وستون كلمة، واثنتان وستون آية.
          والواو في {وَالنَّجْمِ} للقسم، والمراد بالنَّجم: الثُّريا في قول ابن عبَّاس ☻ ، وكذا في قول مجاهد فيما أخرجه ابن عُيينة في «تفسيره» عن ابن أبي نجيح، عنه، والعرب تُسمِّي الثُّريا: نجمًا، وإن كانت في العدد نجومًا، وسُمي الكوكب نجمًا؛ لطلوعه، وكلُّ طالعٍ نجم. وقال أبو عبيدة: النَّجم النُّجوم. وعن مجاهد: نجوم السَّماء كلها حين تغربُ لفظه واحدٌ، ومعناه: جمع.
          قال الطَّبري: هذا القول له وجهٌ، ولكن ما أعلم أحدًا من أهل التَّأويل قاله، والمختارُ هو القول الأول. ثمَّ روى من وجهٍ آخر عن مجاهد أنَّ المراد به القرآن إذا نزل. ولابن أبي حاتم أُريد بلفظ النَّجم نجوم القرآن.
          (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ذُو مِرَّةٍ}: ذُو قُوَّةٍ) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {ذُوْ مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6] ذو قوَّةٍ، وصله الفريابيُّ بلفظ شديد القوى {ذُوْ مِرَّةٍ} قوة جبريل، وعن أبي عبيدة: ذو شدَّة وإحكام، وهو جبرئيل ◙، وروى الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {ذُوْ مِرَّةٍ}، قال: ذو خلق حسن، وعن الكلبي من قوة جبرئيل ◙ / أنَّه اقتلعَ قريات قوم لوط ◙ من الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثمَّ قلبها، وأصل المرَّة من أمررت الحبل: إذا أحكمت فتله.
          فإن قيل: قد علم كونه ذا قوَّةٍ من قوله: {شَدِيْدِ القِوَى} فكيف يفسِّر {ذُوْ مِرَّةٍ} بقوَّة؟ فالجواب أنَّ {ذُوْ مِرَّةٍ} بدل من {شَدِيْدِ القِوَى} لا وصف له، أو المراد بالأولى قوته في العلم، وبالثانية قوَّته في جسده، فقدَّم العلميَّة على الجسديَّة. وقوله: {فَاسْتَوَى}؛ يعني: جبريل ◙، ({وهو}) أي: محمد صلعم يعني: استوى مع محمد صلعم ليلةَ المعراج بالأفقِ الأعلى، وهو أقصى الدُّنيا عند مطلع الشَّمس في السماء.
          ({قَابَ قَوْسَيْنِ}: حَيْثُ الْوَتَرُ مِنَ الْقَوْسِ) سقط هذا في رواية أبي ذرٍّ، وأشار به إلى قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] وفسَّره بقوله: «حيث الوَتر من القوس»، وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظه، وفيه مضافان محذوفان؛ أي: فكان مقدار مسافة قربه صلعم منه تعالى مثل مقدار مسافة قاب.
          وعن أبي عبيدة {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي: قدر قوسين ({أو أدنى})؛ أي: أقرب، وعن الضَّحَّاك: ثمَّ دنا محمد صلعم من ربه ╡ فتدلى فأهوى بالسُّجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى. وقيل: معناه بل أدنى؛ أي: بل أقرب منه. وقيل: ثمَّ دنا محمد صلعم من ساق العرش فتدلَّى؛ أي: جاوز الحجب والسُّرادقات لا نقلة مكان، وهو قائمٌ بإذن الله ╡، وهو كالمتعلق بالشَّيء لا يثبت قدمه على مكان.
          والقاب والقاد والقيد عبارةٌ عن مقدار الشَّيء، والقاب أيضًا ما بين القبضةِ والسِّية من القوس.
          وقال الواحديُّ: هذا قول جمهور المفسرين أنَّ المراد القوس الذي يرمى بها قال: وقيل: المراد بها الذِّراع؛ لأنَّه يُقاس بها الشَّيء.
          ويدلُّ على صحَّة هذا القول ما رواه ابن مردويه بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: القاب: القدر، والقوسين: الذِّراعين، وقد قيل: إنَّه على القلب، والمراد: فكان قاب قوس، والله تعالى أعلم.
          ({ضِيزَى}: عَوْجَاءُ) وفي نسخة صحيحة: <عوجى> أشار به إلى قوله تعالى: / {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى} [النجم:22] وفسَّره بقوله: عوجاء. وصله الفريابي أيضًا من طريق مجاهد؛ أي: غير مستقيمةٍ لا عدل فيها. وقال عبد الرَّزاق عن مَعمر عن قتادة: {ضِيْزَى} جائرة حيث جعلتم لربكم من الولد ما تستنكفون وتكرهون لأنفسكم عنهنَّ.
          وأخرج الطَّبري من وجهٍ ضعيفٍ عن ابن عبَّاس ☻ مثله. وقال أبو عبيدة: ناقصة تقول: ضزته حقَّه: نقصته. وعن الحسن: غير معتدلة. وعن ابن سيرين: غير مستويةٍ أن يكون لكم الذَّكر، وللَّه الإناث تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وهي فُعْلى _بضم الفاء_ في الأصل من الضَّيز، وهو الجور؛ لأنَّه ليس في كلام العرب، فِعلى _بكسر الفاء_ صفة، وإنَّما كسرت محافظة على تصحيح الياء، وإلا فلو بقيت الضمة انقلبت الياء واوًا. وفي نسخة: <حدباء> مكان عوجاء.
          ({وَأَكْدَى}: قَطَعَ عَطَاءَهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَأَعْطَى قَلِيْلًا وَأَكْدَى} [النجم:34] وفسَّر: {أَكْدَى} بقوله: «قطع عطاءه»، وقد وصله الفريابي بلفظ: اقتطع عطاءه، وروى الطَّبري من هذا الوجه عن مجاهد أنَّ الَّذي نزلت فيه هو الوليد بن المغيرة، ومن طريقٍ أخرى منقطعة عن ابن عبَّاس ☻ : أعطي قليلًا أي: أطاع قليلًا ثمَّ انقطع، وأخرج ابن مردويه من وجهٍ ليِّنٍ عن ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّها نزلت في الوليد بن المغيرة.
          وروى عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة: أعطي قليلًا ثمَّ قطع ذلك. وقال مقاتل: يعني: أعطى الوليد قليلًا من الخير بلسانه ثمَّ أكدى؛ أي: قطعه ولم يتم عليه. وعن ابن عبَّاس ☻ والسُّدي والكلبي والمسيِّب بن شريك نزلت في عثمان بن عفان ☺، وله قصَّةٌ يطولُ ذكرها.
          وقال أبو عبيدة: هو مأخوذٌ من الكُدية _بالضم_ وهو أن يحفر حتى ييأسَ من الماء من قولهم: أكدَى الحافر: إذا بلغ الكدية، وهي الصَّخرة الصَّلبة، فترك الحفر.
          هذا، وقال الشاعر:
فَأَعْطَى قَلِيْلًا ثُمَّ أَكْدَى عَطَاءَهُ                      وَمَنْ يَبْذُلِ المَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ
          ({رَبُّ الشِّعْرَى}: هُوَ مِرْزَمُ الْجَوْزَاءِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] وقال: {الشِّعْرَى} مِرْزَم الجوزاء: بكسر الميم / وسكون الراء وفتح الزاي، وهو الكوكب الَّذي يطلع وراء الجوزاء.
          وقال ابن التِّين: نجمٌ يقابل الشِّعرى من جهة القبلة لا يفارقها، وهو الهنعة عبدها أبو كبشة، وخالف قريشًا في عبادة الأوثان، انتهى. وهذا التفسير وصله الفريابي من طريق مجاهد بلفظه. وأخرج الطَّبري من طريق خُصيف عن مجاهد، قال: الشِّعرى الكوكب الَّذي خلف الجوزاء كانوا يعبدونه.
          وأخرج الفاكهيُّ من طريق الكلبي عن أبي صالحٍ عن ابن عبَّاس ☻ قال: نزلت في خزاعة كانوا يعبدون الشِّعرى وهو الكوكب الَّذي يتبع الجوزاء، قيل: وهما شعريان: الغميصاء مصغَّر الغمصاء _بالغين المعجمة والصاد المهملة وبالمد_ والعبور فالأوَّل في الأسد، والثاني في الجوزاء، وكانت خزاعة تعبد الشِّعرى العبور.
          وقال أبو حنيفة الدَّينوري في كتاب «الأنواء»: العذرةُ والشِّعرى العبور والجوزاء في نسقٍ واحد وهن نجومٌ مشهورةٌ. قال: وللشِّعرى ثلاثة أزمان إذا رُؤيت غدوةً طالعةً فذاك صميم الحرِّ، وإذا رؤيت عشاء طالعة (1) فذاك صميمُ البرد، ولها زمانٌ ثالثٌ وهو وقتُ نوئها، وأحد كوكبي الذِّراع المقبوضة هي الشِّعرى الغميصاء، وهي تقابل الشِّعرى العبور والمجرَّة بينهما، ويُقال: لكوكبها الآخر الشَّمالي المرْزَم مرزم الذِّراع، وهما مِرْزمان هذا والآخرُ في الجوزاء، وكانت العرب تقول: انحدرَ سُهيل فصار يمانيًا فتبعته الشِّعرى فعبرت إليه المجرَّة، وأقامت الغميصاء فبكت عليه حتَّى غمصت عينها، قال: والشِّعريان الغميصاء والعبور يطلعان معًا.
          ({الَّذِي وَفَّى}: وَفَّى مَا فُرِضَ عَلَيْهِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيْمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] وفسَّر قوله: «وفَّى ما فُرِض عليه»، وصله الفريابي بلفظه، وروى سعيدُ بن منصور عن عَمرو بن أوس قال: وفى؛ أي: بلغ، وروى ابنُ المنذر من وجهٍ آخر عن عَمرو بن أوس، قال: كان الرَّجل يؤخذُ بذنب غيره حتَّى جاءَ إبراهيم ◙ فقالَ الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيْمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:37-38].
          ومن طريق هُزيل بن شرحبيل نحوه. وعن الحسن: عملَ ما أُمر به، وبلَّغ رسالات ربِّه إلى خلقهِ. وعن ابن عبَّاس ☻ وأبي العاليةَ: {وَفَّى} أدَّى أن لا تزر / وازرة وزرَ أخرى. وعن الزَّجَّاج: وفَّى بما أمر به، وما امتحنَ به من ذبح ولده وعذاب قومه. وروى الطَّبري بإسنادٍ ضعيفٍ عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: كان النَّبي صلعم يقول: ((سمَّى الله إبراهيم خليله الذي وَفَّى لأنَّه كان يقول: كلَّما أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسونَ وحين تصبحون)). وروى عبد بن حُميد بإسنادٍ ضعيفٍ عن أبي أمامة ☺ مرفوعًا: ((وفَّى عملَ يومه بأربعِ ركعات من أوَّل النَّهار)). وقوله: ((وفَّى)) _بالتشديد_ أبلغ من وفَى _بالتخفيف_ لأنَّ باب التَّفعيل فيه المبالغة.
          ({أَزِفَتِ الآزِفَةُ}: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أشار به إلى قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ. لَيْسَ لَهَا مِنْ دُوْنِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57-58] وفسَّر قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} بقوله: ((اقتربت السَّاعة))، وصله الفريابي من طريق مجاهد كذلك. وقال أبو عبيدة: دنَت القيامة، والمعنى: اقتربت السَّاعة التي كل يومٍ تزداد قربًا، فهي كائنةٌ قريبة وزادت في القُرب. وقد سقط هذا هنا في رواية أبي ذرٍّ. ويأتي في «التَّوحيد» (2) [خ¦81/46-9733] إن شاء الله تعالى. وقوله: {كَاشِفَةٌ}؛ أي: مُظْهرة، والهاء فيه للمبالغة.
          ({سَامِدُونَ}: الْبَرْطَمَةُ) بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح الطاء المهملة، كذا في رواية الأكثرين وفي رواية الحمويِّ والأصيلي والقابسي. وكذا في رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <البرطنة> بالنون بدل الميم، ومعناه: الإعراض.
          وقال ابن عُيينة: البرطمة هكذا ووضع ذقنه في صدرهِ. وعن مجاهد: {سَامِدُونَ} غضاب متبرطمون، فقيل له: ما البرطمة؟ فقال: الإعراض. ويقال: البرطمةُ: الانتفاخ من الغضب. ورجل مبرطمٌ متكبِّرٌ. وقيل: هو ضربٌ من اللَّهو.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَتَغَنَّوْنَ بِالْحِمْيَرِيَّةِ) يعني: أنَّ قوله: {سَامِدُونَ} معناه: يتغنَّون بالحميريَّة، وقد وصله الفريابيُّ من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: / {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيْثِ تَعْجَبُونَ} [النجم:59] قال: من هذا القرآن وأنتم سامدون قال: البرطمةُ، قال: وقال عكرمة: هو الغناءُ بالحميرية. وروى ابن عُيينة في «تفسيره»: عن ابن أبي نجيح عن عكرمة في قوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} هو الغناء بالحميريَّة يقولون: يا جارية اسمدي لنا؛ أي: غنِّي لنا.
          وأخرجه أبو عُبيد في «فضائل القرآن» وعبد الرَّزَّاق من وجهين آخرين عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ}، قال: الغناء، قال عكرمة: وهي بلغة أهل اليمن إذا أراد اليماني أن يقول: غنِّ قال: اسمد. هذا لفظ عبد الرَّزَّاق. والمعنى: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا. وأخرجه من وجهٍ آخر عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: لاهون.
          وعن مَعمر عن قتادة قال: غافلون، ولابن مَرْدويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس ☻ قال: معرضون. وقيل: هو الغناء الَّذي لا يُفهم. وفي التَّفسير: ((سامدون)) لاهون غافلون، يُقال: دع عنك سمودكَ؛ أي: لهوك. وعن الضَّحَّاك: أشرون بطرون، وقيل: السَّامد الهائم.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو: النَّخعي ({أَفَتُمَارُونَهُ}: أَفَتُجَادِلُونَهُ) أي: قال إبراهيم في قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] أفتجادلونه؛ أي: فسَّره بقوله: أفتجادلونه، من المراء، وهو الملاحاةُ والمجادلة، واشتقاقُه من مَرْي الناقة كأن كل واحدٍ من المجادلين يمري ما عند صاحبه، يُقال: مريت النَّاقة مريًا إذا مسحتْ ضرعَها لتدر، وصله سعيدُ بن منصور عن هُشيم عن مغيرة عن إبراهيم النَّخعي به، وجاء عن إبراهيم بهذا الإسناد فيه القراءة التي بعد هذه.
          (وَمَنْ قَرَأَ: ((أَفَتَمْرُونَهُ)): يَعْنِي أَفَتَجْحَدُونَهُ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الحمويي: <أفتجحدون> يعني: أنَّ من قرأ بفتح التاء وسكون الميم، وهي قراءة حمزة والكسائي ويعقوب وخلف فسَّره بقوله: أفتجحدونه، وقد وصله الطَّبري عن يعقوب بن إبراهيم عن هُشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنَّه كان يقرأ: ({أَفَتَمْرُونَهُ}) يقول: أفتجحدونه، وكأن إبراهيم قرأ بهما معًا، وفسَّرهما، وقد صرَّح بذلك سعيد بن منصور / في روايته المذكورة عن هُشيم.
          قال الطَّبري: وهكذا قرأ ابنُ مسعود وعامة قراء أهل الكوفة. وقال الشعبيُّ: كان شريحٌ يقرأ: {أَفَتُمَارُوْنَهُ} ومسروق يقرأُ: ({أفتمرونه})، واختاره أبو عبيد قال: لأنَّهم لم يماروه وإنَّما جحدوا، وتقول العرب: مَرَيت الرجل حقَّه: إذا جحدته، وقيل: معناه أفتغلبونه في المراء من ماريته فمَريته، وجاء عن الشعبيِّ أنَّه قرأها كذلك لكن بضم التاء.
          ({مَا زَاغَ الْبَصَرُ}: بَصَرُ مُحَمَّدٍ صلعم ) أي: عمَّا رآه تلك اللَّيلة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} إلى آخره> ولم يعيِّن القائل، وهو قول الفرَّاء قال في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم:17] بصر محمَّد صلعم يقلِّبه يمينًا وشمالًا. وأخرج الطَّبري من طريق محمد بن كعب القرظي في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} قال: رأى محمد صلعم جبرئيل ◙ في صورة الملك.
          ({وَمَا طَغَى} وَلاَ جَاوَزَ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <وما جاوز> (مَا رَأَى) بل أثبته إثباتًا صحيحًا مستيقنًا، وهو بقيَّة كلام الفرَّاء أيضًا ولفظه: وما جاوز.
          وروى الطَّبري من طريق مسلم البطين عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {مَا زَاغَ} ما ذهب يمينًا ولا شمالًا، ({وما طغى}) ما تجاوزَ ما أُمر به، وهذا وصف أدب النَّبي صلعم . وفي التَّفسير: أي: ما جاوزَ ما أمر به ولا مال عمَّا قصد له من رؤية العجائب التي أمرَ برؤيتها.
          ({فَتَمَارَوْا}: كَذَّبُوا) هذا ليس في هذه السُّورة بل في سورة القمر التي تلي هذه السُّورة، وهو قوله تعالى: {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر:36] ولعلَّه من بعض النُّسَّاخ، وحكى الكرمانيُّ عن بعض النُّسخ هنا تتمارى تُكذِّب.
          وقال الحافظُ العسقلاني: ولم أقف عليه، وهو بمعنى ما تقدَّم ثمَّ ظهرَ لي بعد ذلك أنَّه اختصر كلام الفرَّاء، وذلك أنَّه قال في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:55] قال: بأيِّ نعمة ربك تُكذِّب أنَّها ليست منه، وكذلك قوله: {فَتَمَارَوُا بِالنُّذُرِ} [القمر:36] كذَّبوا بالنُّذر، انتهى.
          أو المعنى: فبأيِّ نعمائه عليك تتمارى؛ أي: تشكُّ وتجادلُ، والخطابُ للإنسانِ على الإطلاق. وفي «تفسير النسفي»: الخطاب لرسول الله صلعم . /
          وقال العينيُّ: ولا يُعجبني هذا، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِذَا هَوَى}: غَابَ) أي: قال الحسن البصريُّ في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] غاب، ففسَّر: {هَوَى} بقوله: غاب. وصله عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة عنه، ويُقال: إذا سقط، والهوي: السُّقوط والنُّزول، يقال: هَوَى يَهْوي هويًا، مثل: مَضى يمضي مضيًا. ويقال: الهَوِي _بالفتح_ النُّزول، وبالضم: الصُّعود. وقيل: إذا انتثرَ يوم القيامة أو انقض أو طلع. وعن جعفر الصَّادق {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} يعني: محمدًا صلعم إذا نزل من السَّماء ليلة المعراج.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَغْنَى وَأَقْنَى}: أَعْطَى فَأَرْضَى) أي: قال ابن عبَّاس ☻ في قوله ╡: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم:48] أعطى فأرضى ففسر: {أَغْنَى} بقوله: أعطى، وقوله: {أَقْنَى} بقوله: فأرضى. وصله ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه. وأخرج الفريابي من طريق عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: {أَقْنَى}: قنع.
          ومن طريق أبي رجاء عن الحسن قال: أَخْدَم، وقال مجاهد: ({أقنى}) أرضى بما أعطى وقنع، وعن أبي صالحٍ: ({أغنى}) الناس بالمال، ({وأقنى}) أعطى القِنْية وأصولَ الأموال، وقال الضَّحَّاك: {أَغْنَى} بالذَّهب والفضة وصنوف الأموال، {وَأَقْنَى} بالإبل والبقر والغنم. وعن ابن زيد: {أَغْنَى} أكثر {وَأَقْنَى} أقل. وعن الأخفش: {أَقْنَى}: أفقر، وعن ابن كيسان: أولد. وقال أبو عبيدة: {أَقْنَى} جعل قنية (3) ؛ أي: أصول مال، قال: وقالوا: {أَقْنَى} أرضى، يشير إلى تفسير ابن عبَّاس ☻ ، وتحقيقه: أنَّه حصل له قنيةٌ من الرِّضا.


[1] في هامش الأصل: إذا طلع النجم عشاءًا ابتغى الراعي كساءًا.
[2] كذا في العمدة، وفي الفتح (الرقاق) وهو الصواب.
[3] في هامش الأصل: جعل قنية أي: أعطاه للذخيرة لا للتجارة. منه.