نجاح القاري لصحيح البخاري

الفرقان

          ░░░25▒▒▒ (سُورَةُ الفُرْقَانِ) الفرقان: مصدر فرق بين الشَّيئين إذا فصل بينهما، وسُمِّي القرآن / به لفصله بين الحقِّ والباطل، وقيل: لأنَّه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقًا مفصولًا بعضه من بعضٍ في الإنزال قال تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106] الآية.
          وسُمِّيت هذه السُّورة لكونه مذكورًا في عنوانها وهي مكيَّة، وفي آية اختلف فيها، وهي قوله ╡: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، وقيل: فيها آيتان اختلف النَّاس فيهما فقيل: إنَّهما مدنيتان وقيل: مكيَّتان، وقيل: إحداهما مكيَّة والأخرى مدنيَّة، وهما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} [الفرقان:68] الآية، وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ} الآية، فقال سعيد بن جُبير: الأولى مكيَّة، وهي قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ} إلى قوله: {مُهَانًا}، والثانية مدنيَّة وهي قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وهي سبع وسبعون آية، وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفًا.
          (╖) ثبتت البسملة في رواية أبي ذرٍّ (قَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال> بالواو (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({هَبَاءً مَنْثُورًا}: مَا تَسْفِي بِهِ الرِّيحُ) وسقط في رواية الأصيلي لفظ: <به>، أشار به إلى قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وفسِّره بقوله: «ما تسفي به الريح»؛ أي: تذريه وترميه من التَّراب، وصله ابنُ جرير من طريق ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ مثله وزاد في آخره: وتبثه، وقد وصله ابن المنذر أيضًا من طريق عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ .
          وروى ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ مثله، قال: وقال أبو عبيدة في قوله: {هَبَاءً مَنْثُورًا} هو الشَّيء الذي يدخلُ البيت من الكوة مثل الغبار مع الشَّمس، ولا يمس بالأيدي، ولا يُرى في الظِّل، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وكذا قال الخليلُ والزجَّاج، وروى ابنُ أبي حاتم من طريق الحسن البصري نحوه، وزاد: ((لو ذهب أحدُكم يقبضُ عليه لم يستطع))، ومن طريق الحارث عن عليٍّ: ما ينثر من الكوة.
          وقال ابنُ عرفة: الهباء والهبوة: التُّراب الدَّقيق، وقال ابنُ زيد: الغبار، وقال مقاتل: هو ما يسطعُ من حوافر الدَّواب، ويُقال: الهباء جمع: هباءة، والمنثور المتفرِّق شبه به عملَهُم المحبط / في حقارته، وعدم نفعه بالهباء ثمَّ بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكن نظمه، فجيء بهذه الصِّفة ليفيد ذلك.
          وقال الزَّمخشري: أو مفعول ثالث لجعلناه؛ أي: جعلناه جامعًا لحقارة الهباء والتَّناثر؛ كقوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] أي: جامعين للمسحِ والخسء، وقال الثَّعلبي: {هَبَاءً مَنْثُورًا}؛ أي: باطلًا لا ثواب له؛ لأنهم لم يعملوه لله، وإنَّما عملوه للشَّيطان.
          ({مَدَّ الظِّلَّ}: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ) أشار به إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [القرقان:45] وفسَّره بقوله: «ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشَّمس»، وإنما جعله ممدودًا؛ لأنَّه لا شمس معه كما قاله في ظلِّ الجنَّة {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] وبمثل ما فسَّره رواه ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ ، وروى مثله أيضًا عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن الحسن وقتادة، وقال القاضي في «تفسيره»: وهو أطيبُ الأحوال، فإن الظُّلمة خالصة تنفرُ الطَّبع وتسد النَّظر وشعاع الشَّمس يسخن الجو ويبهرُ البصر، ولذلك وصف به الجنَّة فقال: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} انتهى، والظِّل عبارة عن عدم الضَّوء ممَّا من شأنه أن يُضيء.
          وقال ابنُ عطيَّة: تظاهرتْ أقوال المفسرين بهذا وفيه نظر، فإنَّه لا خصوصيَّة لهذا الوقت بذلك، بل من بعد غروب الشَّمس مدَّة يسيرة يبقى فيها ظلٌّ ممدود مع أنَّه في نهار، وأمَّا سائر النَّهار ففيه ظلال متقطعةٌ، ثم أشارَ إلى اعتراض آخر وهو أنَّ الظِّل إنما يُقال لما يقع بالنَّهار قال: والظِّلُّ الموجود في هذين الوقتين من بقايا اللَّيل انتهى، والجواب عن الأوَّل أنَّه ذكر التَّفسير لخصوص الآية بسياقها، فإن في بقيَّتها: ثم جعلنا الشَّمس عليه دليلًا، والشَّمس تعقب الذي يوجد قبل طلوعها فيزيله، فلهذا جُعلت عليه دليلًا فظهرَ اختصاص الوقت إلى قبل طلوع الشَّمس بتفسير الآية دون بعد الغروب.
          وعن الثَّاني بأنَّ الذي نقل أنَّه يُطلق على ذلك ظل ثقةٌ مثبت، فهو مقدَّم على النَّافي حتى ولو كان قول النَّافي محققًا لما امتنع إطلاق ذلك عليه مجازًا، ثمَّ إن الرُّؤية في الآية الكريمة إما بصريَّة / أو قلبيَّة واختاره الزجَّاج، والمعنى: ألم تعلم والخطاب وإن كان ظاهره للرَّسول صلعم فهو عامٌّ في المعنى؛ لأنَّ الغرض بيان نعم الله بالظِّل وجميع المكلَّفين مشتركون في ذلك، والله تعالى أعلم.
          ({سَاكِنًا}: دَائِمًا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان:45] وفسَّر {سَاكِنًا} بقوله: دائمًا؛ أي: ثابتًا غير زائلٍ ولا تذهبه الشَّمس. وصله ابنُ أبي حاتم عن ابن عبَّاس ☻ ، وقيل: لاصقًا بأصل الجدار غير منبسطٍ. وقال أبو عبيدة: الظِّل ما نسخته الشَّمس، وهو بالغداة، والفيءُ ما نسخ الشَّمس وهو بعد الزَّوال، وسُمِّي فيئًا لأنَّه فاء من الجانب الغربي إلى الشَّرقي. ({عَلَيْهِ دَلِيلًا}: طُلُوعُ الشَّمْسِ) أشار به إلى قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان:45] وفسَّر {دَلِيلًا} بقوله: «طلوع الشَّمس»، وقد وصله ابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس ☻ أيضًا؛ أي: طلوع الشَّمس دليل على حصول الظِّل، فلولا الشَّمس ما عرف الظِّل، ولولا النُّور ما عُرف الظُّلمة، والأشياء تُعرف بأضدادها، وقيل: الشَّمس دليل النَّاس على أحوال الظِّلِّ يستعينون به على حاجاتهم.
          ({خِلْفَةً}: مَنْ فَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ عَمَلٌ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان:62] وفسَّر {خِلْفَةً} بقوله: «من فاته»، وقد وصله ابنُ أبي حاتم أيضًا كذلك، وأخرج عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن الحسن نحوه، وفي التَّفسير: وعن ابن عبَّاس ☻ وقتادة {خِلْفَةً} بمعنى: عوضًا، وخلفًا يقومُ أحدهما مكان صاحبه، فمن فاته عمله في أحدهما قضاهُ في الآخر، وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطَّاب ☺ فقال: فاتتني الصَّلاة اللَّيلة، فقال: أدرك ما فاتَكَ من ليلتك في نهارك، فإنَّ الله تعالى جعل اللَّيل والنَّهار خلفةً.
          وعن مجاهد: يعني: جعل كلَّ واحد منهما مخالفًا للآخر، فجعل هذا أسود وهذا أبيض، وعن ابن زيد: يعني إذا جاء أحدهما ذهب الآخر، وإذا ذهب أحدُهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان يخلفُ أحدهما الآخر، وقيل: يتعاقبان في الظَّلام والضِّياء والزِّيادة والنُّقصان، وخلفة مفعول ثان لجعلَ أو حال. /
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) هو: الحسنُ البصري ({هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}) وقد سقط في رواية غير أبي ذرٍّ قوله: <{وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}> (فِي طَاعَةِ اللَّهِ) وزاد أبو ذر في روايته أيضًا: <قوله> (وَمَا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَرَى) وفي رواية الأصيلي: <لعين مؤمن من أن يرى> (حَبِيبَهُ) وفي رواية سعيد بن منصور: ((حميمه)) (فِي طَاعَةِ اللَّهِ) وقد وصله سعيد بن منصور:حدثنا جرير بن حازم: سمعت الحسن هو البصري وسأله رجل عن قوله تعالى: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} [الفرقان:74] الآية ما القرَّة أفي الدُّنيا أم في الآخرة؟ قال: بل في الدُّنيا هي والله أن يرى العبد من ولده طاعة الله... إلى آخره، وهكذا أسندَه عنه ابنُ المنذر من حديث جرير، عنه.
          وأخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب «البر والصِّلة» عن حزم القطعي عن الحسن، وسُمِّي الرجل السائل: كثير بن زياد، وفي التفسير: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بأن نراهُم مؤمنين صالحين مُطيعين لك.
          وفي «أنوار التنزيل»: فإنَّ المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سُرَّ بهم، وقرَّ بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدِّين، وتوقُّع لحوقهم به في الجنَّة، و«من» ابتدائية أو بيانية، كقولك: رأيت منك أسدًا، انتهى.
          أو المراد ((قرَّة أعين)) لهم في الدِّين لا في الدُّنيا من الجمال والمال، قال الزَّجَّاج: يُقال: أقرَّ الله عينك؛ أي: صادف فؤادك ما يُحبُّه، وقال المفضل: بردَ دمعتها، وهي التي تكون مع السُّرور ودمعة الحزن حارَّة، قيل: لأنَّ العين تتأذى بالحرِّ وتستروح إلى البرد، ووحد القرَّة مع جمع الأعين؛ لأنها في الأصل مصدر.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({ثُبُورًا}: وَيْلًا) أي: قال ابنُ عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:14] أي: يقولون: وَيْلًا، بواو مفتوحة فتحتية ساكنة، وأسنده ابنُ المنذر من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ ، وقال الضَّحاك: هلاكًا فيقولون: واثبوراه تعال، فهذا حينك، فيُقال لهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} أي: هلاككم أكبر من أن تدعوا مرَّة واحدة، فادعوا أدعية كثيرة، فإنَّ / عذابكم أنواع كثيرة كلُّ نوع منها ثبور لشدَّته، أو لأنَّه يتجدَّد كقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] أو لأنَّه لا ينقطع فهو في كلِّ وقت ثبور، وقد ثبت هذا للنَّسفي وأبي ذرٍّ فقط، وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} أي: هلكة.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: {السَّعِيرُ} مُذَكَّرٌ، وَالتَّسَعُّرُ وَالاِضْطِرَامُ: التَّوَقُّدُ الشَّدِيدُ) أي: قال غير ابن عبَّاس في قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11] السَّعير: مذكر، والتَّسعر والاضطرام: التوقُّد الشديد؛ أي: معناهما: التوقُّد الشَّديد، والمراد بالغير هو أبو عبيدة حيث قال في قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} ثمَّ قال بعده: إذا رأتهم، والسَّعير: مذكر، وهو ما يُسعَّر به النَّار، ثمَّ أعاد الضَّمير إلى النَّار، والعرب تفعلُ ذلك تُظهر مذكرًا من سبب مؤنث ثمَّ يؤنثون ما بعد المذكَّر، وإنما حكم بتذكيره إمَّا من حيث اللَّفظ وإمَّا من حيث أنَّه فعيل يُطلقُ على المذكَّر والمؤنث، وقيل: المشهور أنَّ السَّعير مؤنث، وقال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12].
          ويُمكن أن يُقال: إن الضَّمير يُحتمل أن يعودَ إلى الزَّبانية أشار إليه الزَّمخشري، ويُقال: لعلَّ غرضه أنَّ لفظه مذكر كما سبق، أو معناه لغةً: المهيج والمُلْهَب إمَّا فاعلًا أو مفعولًا، وأمَّا تأنيثه فباعتبار النَّار، وقوله: «والتَّسعر والاضطرام» هو قول أبي عبيدة أيضًا، وعن الحسن أنَّ السَّعير اسمٌ من أسماء جهنَّم.
          ({تُمْلَى عَلَيْهِ}) وفي نسخة: <فهي تُملى عليه> بزيادة قوله: <فهي> (تُقْرَأُ عَلَيْهِ، مِنْ أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5] وفسَّر: {تُمْلَى عَلَيْهِ} بقوله: <تقرأ عليه> قوله تعالى: {وَقَالُوا}: أي: الكفَّار {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يعني: ما سطره المتقدِّمون من نحو أحاديث رستُم وإسفنديار، والأساطير: جمع: أسطار أو أسطورة كأُحدوثة {اكْتَتَبَهَا} يعني: أمر بكتبها لنفسه وأخذها، وقيل: المعنى اكتتبها كاتب له؛ لأنَّه كان أميًّا لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، يعنون أنَّ هذا القرآن ليس من الله، وإنَّما هو ما سطره الأوَّلون فهي تقرأُ عليه ليحفظها.
          وقوله: «من أمليت»، أشار به إلى أن / تُملى من أمليت من الإملاء، وأشار بقوله: «وأمللت» إلى أنَّ الإملاء لغة في الإملاك، قال الجوهريُّ: أمليت الكتاب أملي وأمللته أمله لغتان جيدتان جاء بهما القرآن؛ كقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282].
          ({الرَّسُّ} الْمَعْدِنُ، جَمْعُهُ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <جميعه> بزيادة الياء (رِسَاسٌ) بكسر الراء، أشار به إلى قوله تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38] وفسَّر {الرَّس} بالمعدن، وكذا فسَّره أبو عبيدة، وقال الخليل: الرَّس كلُّ بئر تكون غير مطوية، وقد ورد في ذلك أقوال، أورد ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الرَّس البئر، ومن طريق سفيان عن رجل عن عكرمة قال: أصحاب الرَّس رَسّوا نبيهم في بئر، ومن طريق سعيد عن قتادة قال: حدَّثنا أنَّ أصحاب الرَّس كانوا باليمامة، ومن طريق شبيب عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: وأصحاب الرَّس قال: بئر بأذربيجان. وعن قتادة أيضًا: أصحاب الأيكة و((أصحاب الرَّس)): أمَّتان أرسل الله إليهما شعيبًا فعذِّبوا بعذابين، وقال السُّدي: الرَّس: بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبًا النَّجار فنسبوا إليها، وقيل: أصحاب الرَّس: ثمود؛ لأنَّ الرَّس البئر التي لم تطو وثمود أصحاب آبار، وقيل: الرَّس: نهر بالمشرق، وكانت قرى أصحاب الرَّس على شاطئ النَّهر، فبعث الله إليهم نبيًا من أولاد يهوذا بن يعقوب ‰ فكذَّبوه فلبث فيهم زمانًا، فشكا إلى الله منهم فحفروا بئرًا وأرسلوه فيها، وكانوا عامَّة يومهم يسمعون أنين نبيهم وهو يقول: سيدي ترى ضيقَ مكاني، وشدَّة كربي، وضعف ركني، وقلَّة حيلتي فأرسل الله عليهم ريحًا عاصفة شديدة الحرِّ، وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت، فتوقَّدت وأظلَّتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم، كما يذوب الرَّصاص.
          ({غَرَامًا}: هَلاَكًا) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] وفسَّر: الغرام بالهلاك، وكذا فسَّره أبو عبيدة قال: هلاكًا وإلزامًا لهم، ومنه قولهم: رجل مغرم بالحبِّ، وعن الحسن: كلُّ غريم يفارق غريمه إلَّا غريم جهنَّم.
          ({ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ} / يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِهِ شَيْئًا، لاَ يُعْتَدُّ بِهِ) وفي رواية الأصيلي: <أي: لم يعتد به>، أشار به إلى قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] وفسَّر: {مَا يَعْبَأُ} بقوله: «يُقال... إلى آخره»، وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} هو من قولهم: ما عبأتُ بك شيئًا؛ أي: ما عددتك شيئًا، وقيل: يُقال: ما عبأتُ به شيئًا؛ أي: لم أعده فوجودُه وعدمُه سواء، وأصل هذه الكلمة تهيئة الشَّيء، يُقال: عبأت الجيش، وعبأت الطِّيب عبوًا: إذا هيَّأته.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَعَتَوْا}: طَغَوْا) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21] قال: يعني: طغوا، أخرجه ورقاء في «تفسيره» عن ابن أبي نجيح عنه.
          (وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان ({عَاتِيَةٍ}: عَتَتْ عَنِ الْخُزَّانِ) أي: قال سفيان بن عُيينة في قوله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6] عتت عن الخزان.
          وهذه في سورة الحاقة ذكرها هنا استطرادًا لقوله: {وَعَتَوْا}، والصَّرصر: هو الشَّديد الصوت، وقيل: الرِّيح الباردة من الصَّر، فتحرق من شدَّة بردها، وقوله: {عَاتِيَةٍ}؛ أي: شديدة العصف، وقال سفيان في «تفسيره»: عتتْ على خزانها فخرجتْ بلا كيل ولا وزن، والخُزَّان _بضم الخاء وتشديد الزاي_ جمع: خازن، وأريد به خزَّان الرِّيح الذين لا يرسلون شيئًا من الرِّيح إلَّا بإذن الله تعالى بمقدار معلوم، ووقع في نسخة: <وقال ابنُ عبَّاس> بدل قوله: وقال ابنُ عيينة، ثمَّ إنَّه قد وقع في هذه التَّفاسير تقديمٌ وتأخيرٌ وزيادة ونقصان في النُّسخ، والخطبُ فيه سهل.