نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الرهن

          ░░48▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ) أحكام (الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ) هكذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <باب الرَّهن في الحضر>، وفي رواية ابن شَبُّويه: <باب ما جاء في الرَّهن>، وقوله: «في الحضر» ليس بقيدٍ، بل ذكره بناءً على الغالب؛ / لأنَّ الرَّهن في السَّفر نادرٌ.
          وقال ابن بطَّال: الرَّهن جائز في الحضر خلافاً للظاهريَّة، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283].
          والجواب: أنَّ الله تعالى إنما ذكر السَّفر؛ لأن الغالب فيه عدم الكاتب، وقد يوجد الكاتب في السَّفر، ويجوز فيه الرَّهن، وكذا يجوز في الحضر؛ ولأن الرَّهن للاستيثاق فيستوثق في الحضر أيضاً كالكفيل. وأيضاً رهنَ رسول الله صلعم درعَه بالمدينة [خ¦2509]. انتهى.
          ووافق الظَّاهرية في ذلك مجاهد والضَّحاك فيما نقله الطَّبري عنهما فقالا: لا يشرع إلا في السَّفر حيث لا يوجد الكاتب. وقال ابنُ حزم من الظَّاهرية: إن شرط المرتهنُ الرَّهنَ في الحضر لم يكن له ذلك، وإن تبرَّع به الرَّاهن جاز، وحمل حديث الباب على ذلك، والرَّهن في اللُّغة مُطلق الحبس، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] ؛ أي: محبوسة. وفي الشَّرع: هو حبسُ شيءٍ يمكن استيفاء الدَّين منه، وقيل: جعل مال وثيقة على دين، وقيل: توثيقُ الدين بالعين، وقيل: هو حبسُ المال توثيقاً لاستيفاء الدَّين، والكلُّ بمعنى تقول: رهنتُ الشَّيء عند فلان ورهنتُه الشَّيء. وقد يُطلق أيضاً على العين المرهونة تسميةً للمفعول باسم المصدر، ويجمعُ على رهانٌ ورُهُن: بضمتين.
          وقال الأخفش: رُهُن _بضمتين_ قبيحة؛ لأنَّه لا يُجمَع فَعل على فُعُل إلا قليلاً شاذًّا نحو سَقْف وسُقُف، هذا ثمَّ قال: وقد يكون رهن جمعاً للرِّهان، كأنَّه جمعَ رهن على رهان، ثمَّ جمع رهان على رُهُن مثلُ فراش وفُرُش.
          أقول: وقد قرئ بهما في قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، والرَّاهن الذي يرهن، والمرتهن الذي يأخذ الرَّهن، والشَّيء مرهونٌ ورهينٌ، والأنثى رهينة.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجر عطفاً على ما قبله؛ أي: وبيان قوله تعالى: ({وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ}) أي: مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمَّى ({وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً}) يكتبُ لكم. قال ابن عبَّاس ☻ : أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة أو قلماً ({فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]) أي: فليكنْ بدل الكتابة رهانٌ مقبوضةٌ في يد صاحب الحقِّ، وقد استدلَّ بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أنَّ الرَّهن لا يلزم إلَّا بالقبض، كما هو مذهبُ الجمهور.
          وقال ابن بطَّال: جميع الفقهاء يجوِّزون الرَّهن في الحضر والسَّفر، ومنعه / مجاهد وداود في الحضر، وقد مرَّ آنفاً.