نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب أحاديث الأنبياء

          ░░60▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ (1)، كِتَابُ أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاءِ ‰) كذا وقع في رواية كريمة في بعض النُّسخ، وكذا وقع في روايةِ أبي عليِّ ابن شبويه نحوه، وقدَّم الآية الآتية في التَّرجمة على الباب. وفي بعض النُّسخ: <كتابُ الأنبياء ‰>، وفي بعضها: <باب خلق آدم ◙> من غير ذكر شيءٍ غيره، وأمَّا عدد الأنبياء ‰؛ فقد روى أبو ذرٍّ ☺ مرفوعاً حيث قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: ((مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألفاً)) قلت: يا رسول الله، كم الرُّسل منهم؟ قال: ((ثلاثمائة وثلاثة عشر، جمٌّ غفيرٌ)) الحديث، رواه ابن حبان في «صحيحه»، وابن مردويه في «تفسيره»، وهو المشهورُ الشَّائع. وعن أنس بن مالكٍ ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((بعث الله ثمانيةَ آلاف نبيٍّ، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعَة آلاف إلى سائر النَّاس))، رواه أبو يعلى الموصلي. وعنه قال: قال رسول الله صلعم : ((بعثتُ على إثر ثمانية آلاف نبيٍّ، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل))، رواه الحافظ أبو بكرٍ الإسماعيلي.
          ░1▒ (باب خَلْقِ آدَمَ صَلواتُ اللَّهِ عليهِ وَذُرِّيَّتِهِ) إنَّما سمِّي آدم؛ لأنَّه خلق من أَدَمةِ الأرضِ وهي لونها، والأَدَمَةُ في النَّاس: السُّمرة الشَّديدة. وروى سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّ آدم خلق من أديمِ الأرضِ، وهو وجهها»، وروى مجاهد عنه أيضاً: أنَّه مشتقٌّ من الأَدْمة. وقيل: هو من أَدَمتُ بين الشَّيئين إذا خلطتُ بينهما؛ لأنَّه كان ماء وطيناً، فخلطا جميعاً، ومنه الإدام؛ لأنَّه يخلط بالخبز، وقال أبو إسحاق الثَّعلبي: التُّراب بلسان العبريَّة: آدام؛ فسمِّي آدم ◙ به، وحذفت الألف الثانية، وقيل: إنَّه اسمٌ سريانيٌّ.
          وقال الجوهريُّ: إنَّه اسمٌ عربيٌّ، وليس بعجميٍّ. وذكر أبو منصور الجواليقي في كتاب «المعرب»: أسماءُ الأنبياء ‰ كلُّها أعجميَّة إلَّا أربعة، وهي: آدم، وصالح، وشعيب، ومحمد / عليه و╫.
          والمشهور أنَّ كنيته: أبو البشر، وروى الوالبي عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ كنيته أبو محمد. وقال قتادة: لا يكنى في الجنَّة إلَّا آدم ◙، يقال له: أبو محمَّد؛ إظهاراً لشرف نبيِّنا صلعم ، وهو لا ينصرف؛ لأنَّه على وزن أفعل، وهو معرفة، وعلى تقدير كونه غير عربيٍّ، فللعجمة والتَّعريف ذكره الله في القرآن في سبعة وعشرين موضعاً.
          وأمَّا الذُّرِّيَّة: فهي من ذرأ الله الخلقَ يذرؤهم؛ بمعنى: خلقهم. قال الجوهريُّ: الذُّرِّيَّة: نسل الثَّقلين، إلَّا أنَّ العرب تركت همزتها، والجمع: الذَّراري. وفي «المغرب»: ذرِّيَّة الرجل: أولاده، ويكون واحداً وجمعاً، ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38].
          وقد ذكر البخاريُّ ☼ من الآثار والأحاديث التي تتعلَّق بذلك بعضاً، وترك بعضاً، وممَّا لم يذكره ما رواه التِّرمذيُّ والنسائيُّ والبزار، وصحَّحه ابن حبَّان من طريق سعيدٍ المَقْبُريِّ وغيره، عن أبي هريرة ☺ مرفوعاً: ((إنَّ الله خلقَ آدمَ من تُرابٍ فجعله طيناً، ثمَّ تركه حتَّى إذا كان حمأ مسنوناً خلقه وصوَّره، ثمَّ تركه، حتَّى إذا كان صلصالاً كالفخَّار كان إبليس يمرُّ به فيقول: لقد خُلقتَ لأمرٍ عظيم، ثمَّ نفخ الله فيه من روحه، فكان أوَّل ما جرى فيه الرُّوحُ بصره وخياشمَه، فعَطَسَ فقال الله: يرحمك ربُّك))، الحديث.
          ومنه: حديث أبي موسى ☺ مرفوعاً: ((إنَّ الله تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض)) الحديث. أخرجهُ أبو داود والترمذيُّ، وصحَّحه ابن حبان.
          ومنه: حديث أنسٍ ☺ رفعه: ((لمَّا خلق الله آدم تركهُ ما شاء الله أن يدعه، فجعل إبليسَ يطيف به، فلمَّا رآه أجوفَ عرف أنَّه لا يتمالك)) رواه أحمد ومسلم.
          ({صَلْصَالٍ}: طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ) أشار بقوله: صلصال إلى ما في قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14]، وفسَّر الصَّلصال بقوله: طينٌ خلط برملٍ، وحقيقة الصَّلصال: الطِّين اليابس المصوت (فَصَلْصَلَ) أي: صوَّت، وهو فعلٌ ماض (كَمَا يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ) بفتح الفاء وتشديد الخاء المعجمة، وهو ضربٌ من الخَزَفِ يُعْمَلُ منه الجِرَار والكِيْزَان وغيرها. /
          قال أبو عبيدة: الصَّلصال: الطِّين اليابس الذي لم تصبهُ نار، فإذا نقرته صلَّ؛ أي: صوَّت، فسُمِعَتْ له صَلصلةً، فإذا طبخ بالنَّار فهو فخَّار، وكلُّ شيءٍ له صوتٌ فهو صلصال.
          وروى الطبريُّ عن قتادة بإسنادٍ صحيحٍ مثله، وهذا الَّذي ذكره البخاريُّ هو تفسير الفرَّاء. وعن ابن عبَّاس ☺: «الصَّلصال: هو الماء يقعُ على الأرض، فتنشقُّ وتجفُّ ويصيرُ له صوت».
          (وَيُقَالُ: مُنْتِنٌ) أراد بهذا أنَّه جاء في اللُّغة: صلصال بمعنى منتن أيضاً، ومنه: صلَّ اللحمُ يصِلُّ صلولاً، إذا أنتن؛ مطبوخاً كان أو نيًّا، وتفسيره بالمنتن رواه الطبريُّ عن مجاهد، وروي عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ المنتن تفسيرُ المسنون.
          (يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ) أشار به إلى أنَّ أصل صلصل الذي هو الماضي: صلَّ، فضوعفَ فاؤه فصار صلصل (كَمَا يُقَالُ: صَرَّ الْبَابَ وَصَرْصَرَ عِنْدَ الإِغْلاَقِ) أي: كما يقال: صرَّ الباب: إذا صوَّت عند الإغلاق، فضوعفَ فيه كذلك، فقيل: صرصر.
          (مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي: كَبَبْتُهُ) أي: كما يقال: كبكبته في كببته، بتضعيف الكاف، يقال: كببتُ الإناء؛ أي: قلبتُه، وقوله: يريدون به، إلى آخره الظَّاهر أنَّه من كلام المصنِّف أشار به إلى ما ذكر.
          (فَمَرَّتْ بِهِ: اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ فَأَتَمَّتْهُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189]، وفسَّره بقوله: استمرَّ بها الحمل حتَّى وضعته، والضَّمير في قوله: ((فمرَّت به)) يرجع إلى حوَّاء ♀، وهذا التَّفسير هو قول أبي عبيدة.
          والآية في أواخر سورةِ الأعراف، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هو آدمُ ◙ {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] من جسدها من ضلعٍ من أضلاعها، أو من جنسها، كقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل:72] زوجها حوَّاء.
          {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليستأنس بها، ويطمئنَّ إليها اطمئنان الشَّيء إلى جزئه أو جنسه، وإنَّما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}: أي: جامعها {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} خفَّ عليها، ولم تلق منه ما تلقى الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً هو النُّطفة {فَمَرَّتْ بِهِ} فاستمرَّت وقامت / وقعدت {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} صارت ذا ثقلٍ بكبر الولد في بطنها {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحاً} ولداً سويًّا قد صلح بدنه {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189] لك على هذه النعمة المجدَّدة.
          ({أَنْ لَا تَسْجُدَ} أَنْ تَسْجُدَ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، ثمَّ نبَّه على أنَّ كلمة لا صلة، ففسَّرهُ بقوله: ((أن تسجدَ)) وهذا مأخوذٌ من كلامِ أبي عبيدة.
          قال: وزاد لا من حروف الزَّوائد، كقول الشَّاعر:
وَيَلْحَيْنَنِي بِاللَّهْوِ أَن لَا أُحِبَّه                     وَلِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ (2)
          وقيل: فيه حذف تقديره: ما يمنعك من السُّجود، فأحوجك أن لا تسجد إذ أمرتك، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: قد بدئ في جمع هذه القطعة وهي الخامسة عشر من شرح البخاري يوم الأربعاء السادس والعشرين من أيام شهر شوال المنتظم في سلك شهور سنة ثلاث وأربعين ومائة وألف يسَّر الله تعالى إتمامها وإتمام هذا الصحيح المبارك بمنِّه وفضله وكرمه.
[2] لعلها: غافل، كما في المراجع.