نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة القيامة

          ░░░75▒▒▒ (سُورَةُ الْقِيَامَةِ) وهي مكيَّة، وهي ستمائة واثنان وخمسون حرفًا، ومائة وسبع وتسعون كلمة، وأربعون آية، تقدَّم الكلام على ({لا أقسم}) في آخر «سورة الحجر» [خ¦4705]، وأنَّ الجمهور على أنَّ «لا» زائدة، والتقدير: أُقْسم. وقيل: هي حرف تنبيهٍ مثل: ألا، ومنه قول الشَّاعر:
لَا وَأَبِيْكِ ابنةَ العَامِرِيِّ                     لَا يَدَّعِي القَوْمُ أَنِّيْ أفِرُّ
          -(وَقَولِهِ) ╡ ({لاَ تُحَرِّكْ بِهِ}) أي: بالقرآن ({لِسَانَكَ}) قبل أن يتمَّ جبريل وحيه ({لِتَعْجَلَ بِهِ}) أي: بتلاوته مخافة أن يتفلَّت (1) منك. ولم يختلف السَّلف أنَّ المخاطب بذلك النَّبي صلعم في شأن نزول الوحي كما دلَّ عليه حديث الباب.
          وحكى الإمام الرَّازي أنَّ القفَّال جوَّز أنَّها نزلت في الإنسان المذكور قبل ذلك في قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13] قال: يُعْرض عليه كتابه فيقال له: اقرأ كتابك، فإذا أخذ في القراءة تلجلجَ خوفًا فأسرع في القراءة، فيُقال له: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:16-17] أن نجمعَ عملك، وأن نقرأَ عليك، ((فإذا قرأناه فاتَّبع قرآنه)) بالإقرار بأنَّك فعلت، / ثمَّ إنَّ علينا بيان أمرِ الإنسان وما يتعلَّق بعقوبته.
          قال: وهذا وجهٌ حسنٌ ليس في العقل ما يدفعه، وإن كانت الآثار غير واردةٍ فيه.
          والحامل على ذلك عُسْر بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من أحوال القيامة حتَّى زعمَ بعض الرَّافضة أنَّه سقط من السُّورة شيءٌ وهي من جملة دعاويهم الباطلة.
          وقد ذكر الأئمة لها مناسبات:
          منها: أنَّه سبحانه وتعالى لما ذكر القيامة، وكان من شأن من يُقصِّر عن العمل لها حبُّ العاجلة، وكان من أصل الدِّين أنَّ المبادرة إلى أفعال الخير مطلوبةٌ فنبَّه على أنَّه قد يُعترض على هذا المطلوب ما هو أجلُّ منه وهو الإصغاء إلى الوحي، وتفهُّم ما يرد منه، والتشَّاغل بالحفظ قد يصدُّ عن ذلك، فأُمر أن لا يبادر إلى التَّحفُّظ لأنَّ تحفيظه مضمونٌ على ربِّه، وليصغي إلى ما يرد عليه إلى أن ينقضيَ فيتَّبع ما اشتمل.
          ثمَّ لما انقضت الجملة المعترضة رجعَ الكلام إلى ما يتعلَّق بالإنسان المبدأ بذكره ومن هو من جنسه، فقال: ((كلَّا)) وهي كلمة ردعٍ، كأنَّه قال: بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عجلٍ تعجلون في كلِّ شيءٍ، ومن ثمَّة تحبُّون العاجلة. وهذا على قراءة تحبُّون _بالمثناة الفوقية_ وهي قراءةُ الجمهور. وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو: بياء الغيبة حملًا على لفظ الإنسان؛ لأنَّ المرادَ به الجنس.
          ومنها: أنَّ عادة القرآن إذا ذُكر الكتاب المشتمل على عمل العبد حيث يُعْرض يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدِّينية في الدُّنيا التي تنشأ عنها المحاسبات عملًا وتركًا، كما قال في الكهف: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } إلى أن قال: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } [الكهف:49-54] الآية.
          وقال في طه: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} إلى أن قال: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:102-114].
          ومنها: أنَّ أوَّل السُّورة لما نزلَ إلى قوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيْرَه} [القيامة:15] صادف أنَّه صلعم في تلك الحالة / بادرَ إلى تحفُّظ الَّذي نزل، وحرَّك به لسانه من عجلته خشية من تفلُّته، فنزل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16-19] ثمَّ عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدئ به.
          قال الإمام الرَّازي: ونحوه ما لو ألقى المدرِّس على الطَّالب مثلًا مسألةً، فتشاغل الطَّالب بشيءٍ عرض له، فقال له: ألق إليَّ بالك، وتفهَّم ما أقول، ثمَّ كمَّل المسألة فمن لا يعرف السَّبب يقول: ليس هذا الكلام مناسبًا للمسألة بخلاف من عرف ذلك.
          ومنها: أنَّ النَّفس لمَّا تقدَّم ذُكرها في أوَّل السُّورة عدلَ إلى ذكر نفس المصطفى صلعم كأنَّه قيل: هذا شأن النُّفوس وأنت يا محمَّد نفسك أشرف النُّفوس فلتأخذ بأكمل الأحوال.
          ومنها: مناسباتٌ أخرى ذكرها الإمام الرَّازي لا طائل فيها مع أنَّها لا تخلو من تعسُّفٍ، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({سُدًى} هَمَلًا) بفتحتين؛ أي: مهملًا. وقد وصله الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ به. وقال أبو عبيدة في قوله: {سُدًى} أي: لا يُنْهى ولا يُؤْمر؛ أي: لا يكلَّف بالشَّرائع ولا يجازى، قالوا: أسديت حاجتي: إذا أهملتها. وقد وقع هذا في رواية أبي ذرٍّ بعد قوله: {لَا وَزَرْ}: لا حصن.
          ({لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} سَوْفَ أَتُوبُ، سَوْفَ أَعْمَلُ) أي: قال ابن عبَّاس ☻ أيضًا في قوله تعالى: {بَلْ يُرِيْدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5] سوف أتوبُ، سوف أعمل.
          وحاصله: أنَّه يريد الإنسان أن يدومَ على فجوره فيما يستقبلُه من الزَّمان، ويقول: سوف أتوب، سوف أعمل عملًا صالحًا، ولا يدري أنَّه يأتيه الموت قبل ذلك. وقد وصله الطَّبري من طريق العوفي عن ابن عبَّاسٍ ☻ في قوله تعالى: {بَلْ يُرِيْدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5] يعني: الأمل يقول: أعمل ثمَّ أتوب.
          ووصله الفريابي والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن مجاهدٍ قال: يقول سوف أتوب. وروى ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: هو الكافر يُكذِّب بالحساب، ويفجر أمامه؛ أي: يدوم / على فجوره بغير توبة.
          ({لاَ وَزَرَ} لاَ حِصْنَ) أشار به إلى قوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (2) [القيامة:11-12] وفسَّر الوزر: بالحصن.
          وصله الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ لكن قال: لا حِرْزَ _بكسر المهملة وسكون الراء وبالزاي_. ومن طريق العوفي عن ابن عبَّاس ☻ قال: لا حصنَ ولا ملجأ. وروى ابن أبي حاتم من طريق السُّدِّي عن أبي سعدٍ عن ابن مسعود ☺ في قوله: {لَا وَزَرَ} لا حصن.
          ومن طريق أبي رجاءٍ عن الحسن قال: كان الرَّجل يكون في ماشيته فتأتيه الخيلُ بغتةً، فيقول له صاحبه: الوَزَر الوَزَر؛ أي: اقصد الجبل فتحصَّن به. وقال أبو عبيدة: الوَزَر: الملجأ. قال الشاعر:
لَعَمْرُكَ مَا لِلْفَتَى مِنْ وَزَرٍ                     مِنَ الْمَوْتِ يُدْرِكُهُ وَالْكِبَرُ


[1] في هامش الأصل: في نسخة: أن ينفلت.
[2] في هامش الأصل: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أي: إليه وحده استقرار العباد أو إلى حكمه استقرار أمرهم فإن الملك يومئذ لله أو إلى مشيته موضع قرارهم يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار.