نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب التوحيد

           (╖) لمَّا فرغ المؤلف من مسائل الفقه شرعَ في مسائل أصول الكلام وما يتعلَّق به، وبه ختم الكتاب، وكان الأولى تقديم أصول الكلام؛ لأنَّه الأصلُ والأساس، والكلُّ مبنيٌّ عليه إلَّا أنَّه من باب التَّرقِّي إرادةً لختم الكتاب بالأشرف، فذكر البسملة تبرُّكاً كما هو دأبه، وقد ثبتت لأبي ذرٍّ وسقطت لغيره.
          ░░97▒▒ (كِتَابُ التَّوْحِيْدِ) وهو مصدرُ وحَّد يوحِّد، وهو إثبات الوحدانيَّة لله تعالى، قال العيني: بالدَّليل، وقال: إنَّما قلنا بالدَّليل؛ لأنَّ الله تعالى واحد أزلاً وأبداً قبل وجودِ الموحِّدين وبعدهم، فمعنى وحَّدت الله: اعتقدته منفرداً بذاتهِ وصفاتهِ لا نظيرَ له ولا شبيه. وقيل: معنى وحَّدته عَلِمتُه واحداً، وقيل: سلبت عنه الكيفيَّة والكميَّة فهو واحدٌ في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا شبيه له، وفي إلهيَّته وملكه وتدبيرهِ لا شريك له، ولا ربَّ سواه ولا خالق غيره. وقيل: التَّوحيد إثباتُ ذاتٍ غير مُشبَّهةٍ بالذَّوات ولا معطَّلة عن الصِّفات.
          وقال الجنيدُ: التَّوحيد إقرار القِدَم من الحدث، وهو بمعنى الحدوث، والحدوثُ يقال للحدوث الذَّاتي وهو كون الشَّيء مسبوقاً بغيره، والزَّماني: وهو كونه مسبوقاً بالعدم، والإضافي: وهو ما يكون وجوده أقلُّ من وجودٍ آخر فيما مضى، وهو تعالى منزَّهٌ عنه بالمعاني الثَّلاثة وهو من الاعتبارات العقليَّة التي لا وجودَ لها في الخارج.
          وكذا وقعت التَّرجمة للنَّسفي وعليه اقتصر الأكثرون عن الفربري، وفي رواية المستملي، كما في الفرع: <كتاب التوحيد والرَّدِّ على الجهميَّة وغيرهم>؛ أي: القدرية.
          وأمَّا الخوارج فسبق ما يتعلَّق بهم في «كتاب الفتن» [خ¦6930]، وكذا الرَّافضة في «كتاب الأحكام» [خ¦7207]، وهؤلاء الفرق الأربعة رؤوس المبتدعة. ووقع لابن بطَّال وابن التِّين: <كتاب ردِّ الجهميَّة وغيرهم التَّوحيد>. وقال بعضهم: «التَّوحيدَ» منصوب على المفعوليَّة، وظاهره مُعتَرضٌ؛ لأنَّ الجهميَّة وغيرهم من المبتدعة لم يَرُدُّوا التَّوحيد، وإنَّما اختلفوا في تفسيره، وحجج الباب ظاهرةٌ في ذلك. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه لا اعتراضَ عليها فإنَّ من الجهميَّة طائفةٌ ينتسبونَ إلى جهم بن صفوان من أهل الكوفة، وعن ابن المبارك إنَّا لنحكي كلام اليهود والنَّصارى ونستعظمُ أن نحكي قول جهم. انتهى.
          وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القادر بن طاهر التَّميمي البغدادي في كتابه «الفَرق بين الفِرق»: أنَّ رؤوس المبتدعة أربعةٌ... إلى أن قال: والجهميَّة اتِّباع جهم بن صفوان الَّذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وقال: لا فعل لأحدٍ غير الله، وإنَّما ينسبُ الفعل إلى العبد مجازاً من غير أن يكون فاعلاً أو مستطيعاً لشيءٍ، وزعم أنَّ علم الله حادثٌ، وامتنع من وصف الله تعالى / بأنَّه شيءٌ أو حيٌّ أو عالمٌ أو مريدٌ حتى قال: لا أصفُه بوصفٍ يجوز إطلاقه على غيره.
          قال: وأصفه بأنَّه خالقٌ ومحيي ومميت وموحَّدٌ _بفتح المهملة الثقيلة_؛ لأنَّ هذه الأوصاف خاصَّةٌ به، وزعم أنَّ كلامَ الله حادثٌ ولم يسمِّ الله متكلِّماً به. ونقل البخاريُّ عن محمَّد بن مقاتل، قال: قال عبد الله بن المبارك: ولا أقول بقول الجهم إنَّ له قولاً يُضارع الشِّرك، وعن عبد الله بن شورب، قال: ترك جهمٌ الصَّلاة أربعين يوماً على وجه الشَّكِّ.
          وأخرج ابن أبي حاتم في «كتاب الرَّدِّ على الجهميَّة» من طريق خلف بن سليمان البلخي، قال: كان جهمٌ من أهل الكوفة، وكان فصيحاً ولم يكن له نفاذٌ في العلم فلقيه قومٌ من الزَّنادقة، فقالوا له: صِفْ لنا ربَّك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج مدَّةً ثمَّ خرج فقال: هو هذا الهواء مع كلِّ شيءٍ.
          وأخرج ابنُ خُزيمة في «التَّوحيد» ومن طريقه البيهقي عن أبي قُدامة: سمعتُ أبا معاذ البلخيَّ يقول: كان جهم على معبر ترمذ، وكان كوفيَّ الأصل فصيحاً، ولم يكن له علمٌ ولا مجالسةٌ للعلماء، فقيل له: صف لنا ربَّك فدخل البيت لا يخرج ثمَّ خرج بعد أيَّام، فقال: هو هذا الهواء مع كلِّ شيءٍ، وفي كلِّ شيءٍ، ولا يخلو منه شيءٌ.
          وأخرج البخاريُّ من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال: كلام جهم صفة بلا معنى، وبناءٌ بلا أساس ولم يُعدَّ قطُّ في أهل العلم، وقد ورد آثارٌ كثيرةٌ عن السَّلف في تكفيرِ جهم.
          وذكر الطَّبري في «تاريخه» في حوادث سنة سبع وعشرين ومائة: أنَّ الحارث بن شريج خرج على نصر بن سيار عامل خراسان لبني أميَّة وحاربه، والحارث حينئذٍ يدعو إلى العمل بالكتاب والسُّنَّة، وكان جهم حينئذٍ كاتبه ثمَّ تراسلا في الصُّلح وتراضيا بحكم مقاتل بن حيان والجهم، فاتَّفقا على أنَّ الأمر يكون شورى حتَّى يتراضى أهل خراسان على أميرٍ يحكم بينهم بالعدلِ، فلم يقبل نصرٌ ذلك.
          واستمرَّ على محاربة الحارث إلى أن قُتِلَ الحارث في سنة ثمانٍ وعشرين ومائة في خلافةِ مروان الحمار فيقال: إنَّ الجهم قُتل في المعركة، ويقال: بل أُسر فأمر نصر بن سيَّار سَلْم بن أَحْوَز بقتلهِ، وادَّعى جَهْمٌ الأمان فقال له سَلْم: لو كنت في بطني لشققته حتَّى أقتلك فقتله.
          وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سَلْمٌ حين أخذه: يا جهم إنِّي لست أقتلك لأنَّك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكن سمعتك تتكلَّم بكلامٍ وأعطيتُ الله عهداً أن لا أملكك إلَّا قتلتك فقتله.
          ومن طريق معتمر بن سليمان عن خلاَّد الطُّفاوي: بلغ سَلْم بن أَحْوَز، وكان على شرطة خراسان أنَّ جهم بن صفوان يُنكر أنَّ الله تعالى كلَّم موسى تكليماً / فقتله. ومن طريق بكير بن معروف قال: رأيتُ سَلْم بن أَحْوز حين ضربَ عنق جهم فاسودَّ وجه جهمِ. وأسند أبو القاسم اللالكائي في كتاب «السُّنَّة» له: أنَّ قَتْل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، والمعتمد ما ذكره الطَّبري أنَّه كان في سنة ثمان وعشرين ومائة.
          وذكر ابنُ أبي حاتم من طريق سعيد بن رَحْمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أنَّ قصَّة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة. وهذا يمكنُ حمله على جبر الكسر أو على أنَّ قتل جهم تراخى من قتل الحارث بن سُريج.
          وأمَّا قول الكرماني: أنَّ قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم؛ لأنَّ خروج الحارث بن سُريج الَّذي كان جهم كاتبه كان بعد ذلك، ولعلَّ مستند الكرماني ما أخرجه ابنُ أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن حنبل قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيَّار عامل خراسان: أمَّا بعد فقد نَجَمَ قِبَلك رجلٌ يقال له: جهم من الدّهريَّة، فإن ظفرت به فاقتله، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون قَتْلُه وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك حتَّى كاتب فيه هشام، والله أعلم، كذا ذكره الحافظ العسقلاني.