نجاح القاري لصحيح البخاري

[سورة الفاتحة]

          ░░░1▒▒▒ ({الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]: اسْمَانِ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي: مشتقَّان من الرَّحمة، وهي في اللُّغة: الحنوُّ والعطف والرقَّة، وزعم بعضهم أنَّه غير مشتقٍّ لقولهم: ((وما الرَّحمن))، وأُجيب: بأنَّهم جهلوا الصِّفة لا الموصوف، ولهذا قالوا:{وما الرَّحمن}، [الفرقان:60] ولم يقولوا: ومن الرَّحمن، وقول المبرِّد وثعلب فيما حكاه ابن الأنباري في «الزاهر»: الرَّحمن: اسمٌ عبرانيٌّ وليس بعربيٍّ، قولٌ مرغوبٌ عنه ضعَّفه ابن الأنباري والزَّجَّاج وغيرهما.
          وقال العيني: العبراني بالخاء المعجمة، ويدلُّ على اشتقاقهِ ما صحَّحه التِّرمذي من حديث عبد الرَّحمن بن عوف ☺: أنَّه سمع النَّبي صلعم يقول: ((قال الله تعالى: أنا الرَّحمن خلقتُ الرَّحم، وشققتُ لها اسمًا من أسمائي)) الحديث.
          قال القُرطبي: وهذا نصٌّ في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشِّقاق، انتهى.
          ثمَّ الرَّحمن: فعلان من رحم كغضبان من غضبَ، والرَّحيم: فَعيل منه كمريض من مرضَ، وقد عرفت أنَّ الرَّحمة في اللُّغة: رقَّة القلب، وانعطافٌ يقتضي التَّفضُّل والإحسان، ومنه: الرَّحم؛ لانعطافها على ما فيها، وهو تجوُّزٌ باسم السَّبب عن المسبِّب، ويستعملُ في حقِّه تعالى تجوُّزًا عن إرادة إيصالِ الخير إلى خلقهِ، وإنعامه على عباده، إذ المعنى الحقيقي يستحيلُ في حقِّه تعالى فهي صفةُ فعلٍ لا صفة ذات.
          واختُلف في اللَّفظين فقيل: هما مترادفان كندمان ونديم، فجمع بينهما تأكيدًا، وردَّ بأنَّ إمكان المخالفة يمنع التَّرادف، ثمَّ إنَّه على الاختلاف قيل: الرَّحمن أبلغ؛ لأنَّ زيادة البناء (1) تفيد الزِّيادة في المعنى كما في قطَع وقطَّع وكُبَار وكُبَّار، ولأنَّه يُقال: رحمن الدُّنيا والآخرة ورحيم الآخرة، وأسند ابن جرير عمَّن يوثق به، أنَّه قال: الرَّحمن بجميع الخلق، والرَّحيم بالمؤمنين، / قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه:5] وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] [فخصهم باسمه الرحيم] (2) فدلَّ أنَّ الرَّحمن أشدُّ مبالغةً في الرَّحمة لعمومها للمؤمن والكافر، والرَّحيم خاصٌّ بالمؤمنين فجمع بينهما تخصيصًا بعد التَّعميم، وتُعُقِّب بأنَّه ورد في الدُّعاء المأثور: ((رحمن الدُّنيا والآخرة ورحميهما)).
          وقيل: إنَّ التَّغاير بينهما من جهة أنَّ الرَّحمن يتناول جلائل النِّعم وأصولها، تقول: فلانٌ غضبان إذا امتلأ غضبًا، وأردف بالرَّحيم ليكون كالتَّتمة ليتناول ما دقَّ، وأورد على ما ذكر من زيادة البناء حذر وحاذر، ذكره ابنُ أبي الرَّبيع، لكن قال البدر الدَّماميني: والنَّقض بحذر وحاذر يندفعُ بأنَّ هذا الحكم أكثريٌّ لا كليٌّ، وبأنَّ كلَّ ما ذكر لا يُنافي أن يقعَ في البناء إلَّا نقص زيادةٍ معنى بسبب آخر كالإلحاقِ بالأمور الجليَّة مثل: شره ونهم، وبأنَّ ذلك فيما إذا كان اللَّفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدِّي النوع في المعنى كغَرْث وغَرْثَان، لا كحَذِر وحَاذِر للاختلاف في المعنى.
          وقيل: إنَّ الرَّحيم أبلغُ، لما يقتضيه صيغة فعيل، ولأنَّه أكَّد به، والمؤكِّد يكون أقوى من المؤكَّد. وفيه: أنَّه ليس من باب التَّأكيد بل من باب النَّعت بعد النَّعت، والتَّحقيق أنَّ جهةَ المبالغة فيهما مختلفة، وروى ابنُ جرير من طريق عطاء الخراساني: أنَّ غيرَ الله تعالى لما تسمَّى بالرَّحمن كمسيلمة جيءَ بلفظ الرَّحيم لقطع التَّوهُّم، فإنَّه لم يوصف بهما أحد إلَّا الله تعالى. وعن ابن المبارك: الرَّحمن إذا سُئل أعطى، والرَّحيم إذا لم يُسأل يغضب.
          وقيل: إنَّ الرَّحمن علم بالغلبة؛ لأنَّه جاءَ غير تابعٍ لموصوف في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآَنَ} [الرحمن:1-2]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:60] {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ} [مريم:85] وغير ذلك، وتُعُقِّب بأنَّه لا يلزم من مجيئه غير تابعٍ أن لا يكون صفة؛ لأنَّ الموصوف إذا علم جازَ حذفه وإبقاء نعتهِ، وأورد عليه أنَّه إن أرادَ القائل أنَّه علم / اختصاصَه تعالى به فصحيحٌ، ولا يمنع هذا وقوعه نعتًا، وإن أرادَ أنَّه جاز كالعلم لا ينظرُ فيه إلى المعنى المشتقِّ فممنوعٌ لظهور معنى الوصفيَّة وغلبة العلميِّة يردُّها أنَّ لفظ الرَّحمن لم يستعمل إلَّا له تعالى فلا يتحقَّق فيه الغلبة.
          وأمَّا قول بني حنيفةَ في مسيلمة رحمن اليمامة، فمِن تعنُّتهم في كفرهم، ولمَّا تسمَّى بذلك كساهُ الله جلباب الكذبِ، وشُهر به فلا يُقال إلَّا: مسيلمة الكذَّاب.
          وقد اختُلف في انصراف رحمن وعدم انصرافهِ كما حقَّق في موضعه، وقد أفادَ بعض المتأخِّرين أنَّ صفات الله تعالى الَّتي هي على صيغة المبالغة كغفَّار ورحيم وغفور كلُّها مجازاتٌ إذ هي موضوعةٌ للمبالغة، ولا مُبَالغة فيها؛ لأنَّ المبالغة هي أن ينسب للشَّيء أكثر ممَّا له، وصفاتُ الله تعالى مُتناهية في الكمالِ لا يمكن المبالغة فيها، وأيضًا إنَّ المبالغة إنَّما تكون في [صفات تقبل الزيادة والنقص، و] (3) صفات الله تعالى [منزهة عن ذلك] (4) هو أنَّ تلك الصِّفة موجودةٌ فيه تعالى على وجهِ الكمال لا يتطرَّق إليه النُّقصان، والله تعالى أعلم.
          وقال البيضاويُّ: وتخصيصُ التَّسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أنَّ المستحق لأن يستعانَ به في مجامع الأمور هو المعبودُ الحقيقي الَّذي هو مولى النِّعم كلِّها عاجلها وآجلها، جليلِها ودقيقها، فيتوجَّه بشَرَاشِرِه إلى جنابِ القدس، ويتمسَّك بحبل التَّوفيق، ويشغل سرَّه بذكرهِ والاستمدادِ به عن غيره.
          (الرَّحِيمُ وَالرَّاحِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالْعَلِيمِ وَالْعَالِمِ) هذا بالنَّظر إلى أصل المعنى، وإلَّا فصيغة فعيل من صيغ المبالغة، فمعناها زائد على معنى الفاعل، وقد ترد صيغة فعيل بمعنى: الصِّفة المشبهة، وفيها أيضًا زيادةٌ لدَلالتها على الثُّبوت بخلاف الفاعل، فإنَّه يدلُّ على الحدوث، ويحتمل أن يكون المراد أنَّ فعيلًا بمعنى: فاعل، لا بمعنى مفعول؛ لأنَّه قد يرد بمعنى مفعول فاحترز عنه.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: المبنى.
[2] ما بين معقوفين من إرشاد الساري.
[3] من إرشاد الساري.
[4] من إرشاد الساري