نجاح القاري لصحيح البخاري

أبواب صلاة الخوف

          (♫)
          ░░12▒▒ (أبواب صَلاَةِ الْخَوْفِ) أي: كيفيَّتها من حيث إنَّه يُحتمل في الصَّلاة عنده ما لا يُحتمل فيها عند غيره، وفي رواية الأَصيلي وكريمة: <باب صلاة الخوف> بالإفراد في الباب.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجر عطفاً على سابقه، وفي رواية: <قال الله تعالى> ({وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}) أي: سافرتم، يقال: ضربت في الأرض إذا سافرت، وتأتي هذه المادَّة لمعان كثيرة.
          ({فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء:101]) أي: إثم ({أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء:101]) بتنصيف ركعاتها، وقرأ الزهريُّ: ▬أن تقصِّروا↨ بالتشديد، وظاهره التَّخيير بين القصر والإتمام وأنَّ الإتمام أفضل؛ لأنَّ نفي الإثم يدلُّ على ذلك، وإليه ذهب الشافعيُّ ☼ ، وعند أبي حنيفة القصر في السَّفر عزيمة لا رخصة لا يجوز غيره، واحتجَّ الشافعيُّ ☼ لمذهبه بما رواه مسلم والأربعة: عن يَعلى بن أميَّة ☺ / قال: قلت لعمر بن الخطاب ☺: قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:101]، فقد أَمِن الناسُ قال: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلعم ، فقال: ((صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقتَه)).
          فقد علَّق القصر بالقبول وسمَّاه صدقة، والمتصدَّق عليه مخيَّرٌ في قبول الصَّدقة فلا يلزمه القبول حتماً.
          ولأبي حنيفة ☼ أحاديث:
          منها: حديث عائشة ♦ قالت: «فرضت الصَّلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر». رواه البخاري [خ¦350] ومسلم.
          ومنها: حديث ابن عباس ☻ قال: «فرض الله الصَّلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة». رواه مسلم.
          ومنها: حديث عمر ☺ قال: «صلاة السفر ركعتان وصلاة الضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلعم ، رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه».
          وأمَّا حديث يَعلى بن أمية فهو دليلٌ له أيضاً؛ لأنَّه أمر بالقبول، والأمر للوجوب.
          ({إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101]) بالقتال والتعرُّض لما يكره، وهذا باعتبار الغالب في ذلك الوقت فلا اعتبار لمفهومه، فإنَّ الإجماع على جواز القصر في السفر من غير خوفٍ.
          وقد سُئل ابن عمر ☻ : إنَّا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر، فقال ☻ : إنَّا وجدنا نبينا يعمل فعملنا به.
          ({إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً. وَإِذَا كُنْتَ} [النساء:101-102]) أيُّها الرسول صلعم ({فِيهِمْ}) علَّمه الله تعالى طريق صلاة الخوف؛ ليقتدي الأئمَّة بعده به صلعم ({فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} [النساء:102]) تعلق به أبو يوسف وتمسَّك بمفهومه، وذهب إلى أنَّ صلاة الخوف غير مشروعة بعد النبيِّ صلعم ، وبه قال الحسن بن زياد والمزنيُّ وإبراهيم ابن عُليَّه، فعلَّل المزني بالنَّسخ في زمان النبيِّ صلعم حيث أخَّرها يوم الخندق.
          وعلَّل أبو يوسف: بأنَّ الله تعالى شرط كون النبيِّ صلعم فيهم لإقامتها، وقال: إنَّما شرعت بخلاف القياس؛ لإحراز فضيلة الصَّلاة معه صلعم ، وهذا المعنى انعدمَ بعده صلعم .
          وردَّ ما قاله المزنيُّ بما رُوِي عن الصَّحابة ♥ في هذا الباب بعد الخندق والخندق متقدِّمٌ على المشهور؛ لأنَّها نزلت سنة ست، والخندق كان سنة أربع أو خمس، فكيف يُنسخ المتأخِّر، ذكره النوويُّ وغيره.
          وردَّ ما قاله أبو يوسف بأنَّ الصَّحابة ♥ فعلوها بعده صلعم ، وأنَّ سببها الخوف وهو يتحقَّق بعده، وبقوله صلعم : ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي))، فعموم منطوقه مقدَّم على ذلك المفهوم.
          ({فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}) أي: فاجعلهم طائفتين، فلتقم / إحداهما معك يصلُّون، وتقوم الطَّائفة الأخرى في وجه العدوِّ ({وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}) أي: الذين يصلُّون، وقيل: الضمير للطائفة الأخرى، وذِكْرُ الطائفة الأولى تدلُّ عليهم.
          ({فَإِذَا سَجَدُوا}) يعني: إذا صلُّوا الذين خلف الإمام ركعة واحدة ({فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}) يعني: ينصرفون إلى وجه العدو، ويقفون هناك يحرسونكم؛ يعني: النبي صلعم ومن صلَّى معه.
          ({وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا}) لاشتغالهم بالحراسة وكونهم بإزاء العدوِّ ({فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}) ركعة كالأولى ({وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}) جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلةٌ يستعملها الغازي، فجمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، ولم يذكر في الآية لكلِّ طائفةٍ إلَّا ركعةً واحدةً.
          فاعلم أنَّ الخوف لا يؤثِّر في نقصان عدد الركعات إلَّا عند ابن عباس ☻ ، وعند الحسن البصري وطاوس ومجاهد والحكم بن عُتيبة وقتادة وإسحاق والضحاك ▓ حيث قالوا: إنَّها ركعة واحدة.
          وروى مسلم من حديث مجاهد عن ابن عبَّاس ☻ قال: فرض الله الصَّلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السَّفر ركعتين وفي الخوف ركعة. وأخرجه الأربعة أيضاً.
          وقال ابن قُدامة: والذي قال منهم: ركعة، إنَّما جعلها عند شدَّة القتال، ورُوِي مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة عن جابر ♥ قال جابر: إنَّما القصر ركعة عند القتال.
          وقال إسحاق: يجزئك عند الشِّدِّة ركعة وهي أن تُومئ إيماء، فإن لم تقدر فسجدةٌ واحدةٌ فإن لم تقدر فتكبيرةٌ؛ لأنَّها ذكر الله تعالى، وعن الضَّحَّاك أنَّه قال: ركعة فإن لم تقدرْ كبِر تكبيرةً حيث كان وجهك.
          وقال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، وهذا قولُ أكثر أهل العلم منهم ابن عمر ☻ والنَّخعي والثَّوري ومالك والشَّافعي ▓، وأبو حنيفة وأصحابه وسائر أهل العلم من علماء الأمصار: لا يجيزون ركعةً واحدةً، وسيأتي كيفيَّة صلاة الخوف بتفاصيلها إن شاء الله تعالى [خ¦942].
          ({وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ} [النساء:102]) أي: تمنَّى الذين كفروا أن تغفلوا ({عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ }) أي: أمتعة الحرب ({فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}) يعني: يحملون عليكم حملةً واحدةً بالقتال، فلا تفعلوا.
          ({وَلاَ جُنَاحَ}) أي: لا وزر ({عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى}) يعني: أصابتكم الجراحات ({أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء:102]) رخصةً لهم في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض، وهذا يؤيِّد أنَّ الأمر للوجوب دون الاستحباب ({وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}) أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر كيلا يهجم عليهم العدو.
          قال الضَّحَّاك: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} يعني: تقلَّدوا سيوفكم، فإنَّما ذلك على هيئة الغزاة، وذلك أنَّ النبيَّ صلعم كان في غزوة أنمار (1)، فهزمهم / وسبى ذريتهم، فلمَّا رجعوا أصابهم المطر، فنزلوا وادياً تحت الأشجار فوضع النبيُّ صلعم سلاحه، وذهب إلى الجانب الآخر من الوادي وحده، فجاء السَّيل فحال بينه وبين أصحابه، وكان بعض المشركين على ذلك الجبل، فرآه حين حال السَّيل بينه وبين أصحابه، فجاء واحدٌ منهم وقال: أنا أقتله، فأتاه وقال: يا محمَّد من يمنعك مني؟ قال: ((الله ╡ يمنعني)) فسلَّ سيفه وأراد أن يضربه، فدفع النبيُّ صلعم الكافر في صدره دفعةً، فسقط السَّيف عن يده، فوثب رسول الله صلعم وأخذ سيفه وقال: ((من يخلصك منِّي)) فقال: لا أحد، فقال له: ((إن أسلمت أردُّ عليك سيفك)) فقال: لا أسلم، ولكن أعاهد الله تعالى أن لا أكون عليك ولا لك أبداً، فردَّ عليه سيفه فقال الرجل: يا محمَّد أنت خيرٌ منِّي؛ لأنك قدرت على قتلي فلم تقتلني، فرجع الكافر إلى أصحابه فأخبرهم بالقصَّة، فآمن بعضهم ثمَّ انقطع السَّيل، وجاء النبيُّ صلعم إلى أصحابه وأخبرهم بالقصَّة، وقرأ عليهم هذه الآية كذا في «تفسير أبي الليث».
          ({إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}) يهانون فيه، وهذا وعدٌ للمؤمنين بالنَّصر، وإشارةٌ إلى أنَّ الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوِّهم بل أنَّ الواجب في الأمور التَّيقظ.
          وقد ثبت سياق الآيتين بلفظهما إلى آخر قوله: {عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:102] كما ترى، ووقع في رواية أبي ذرٍّ: الآية الأولى بتمامها ومن الآية الثَّانية إلى قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] ثمَّ قال: <إلى قوله: {عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:102] >. وفي رواية الأَصيلي: <{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء:101]، ثمَّ قال: إلى قوله: {عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:102] >.
          وإنَّما ذكر هاتين الآيتين الكريمتين في هذه التَّرجمة: إشارةً إلى أنَّ صلاة الخوف في هيئة خارجةٍ عن هيئات بقيَّة الصَّلوات إنَّما ثبتت بالكتاب، وأمَّا بيان صورها على اختلافها فبالسُّنَّة.


[1] أصله في الصحيح في غزوة ذات الرقاع [خ¦4135]