نجاح القاري لصحيح البخاري

النمل

          ░░░27▒▒▒ (النَّمْلِ) ذكر القُرطبي وغيره أنها مكيَّة بلا خلاف، وعند السَّخاوي: نزلت قبل القصص، وهي ثلاثُ أو أربع وتسعون آية، وألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفًا.
          (╖) سقط لفظ: <سورة> والبسملة في رواية غير أبي ذرٍّ، وثبت للنَّسفي، لكن بتقديم / البسملة ({الْخَبْءَ}) وفي رواية غير أبي ذرٍّ: <و{الْخَبْءَ}> بالواو، ومثل هذه الواو تسمى واو الاستفتاح (مَا خَبَأْتَ) أشار به إلى قوله تعالى: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل:25] وفسَّر: {الْخَبْءَ} بقوله: «ما خبأت»، يُقال: خَبَأت الشَّيء أَخْبؤه خَبأً؛ أي: سترته، ثمَّ أطلق على الشَّيء المَخْبوء ونحوه هذا خلق الله، وروي عن ابن عبَّاس ☻ من طريق عليِّ بن أبي طلحة أخرجه الطَّبري عنه قال: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} يعلم كلَّ خفية في السَّموات والأرض.
          وقال الفرَّاء في قوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ} أي: الغيث من السَّماء، والنَّبات من الأرض، وقال: و«في» هنا بمعنى من، وهو كقولهم: لأستخرجنَّ العلم فيكم؛ أي: الذي منكم، وقرأ ابنُ مسعود ☺: ▬يخرج الخبء من↨ بدل: {في}، وروى عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة قال: {الْخَبْءَ}: السِّر، وروى ابن أبي حاتم من طريق عكرمة مثله، ومن طريق مجاهد قال: الغيث، ومن طريق سعيد بن المسيَّب قال: الماء، وسُمِّي المخبوء بالمصدر؛ ليتناول جميع الأموال والأرزاق.
          ({لاَ قِبَلَ} لاَ طَاقَةَ) أشار به إلى قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} [النمل:37] وفسَّر قوله: {لاَ قِبَلَ} بقوله: لا طاقة لهم بمقاومتها، وهو قول أبي عبيدة، وأخرج الطَّبري من طريق إسماعيل بن أبي خالد مثله.
          ((الصَّرْحُ(: كُلُّ مِلاَطٍ اتُّخِذَ) على البناء للمفعول (مِنَ الْقَوَارِيرِ) كذا في رواية الأكثر: بميم مكسورة، وفي رواية الأصيلي: بالموحدة المفتوحة، وكذا في رواية ابن السَّكن، وكذا بخط الدِّمياطي في نسخته بالموحدة، وليست هي روايته.
          وقال ابنُ التِّين: بالميم، وقال: المِلاط: بالميم المكسورة الطِّين الذي يُوضع بين ساقتي البناء، وقيل: الصَّخر، وقيل: كلُّ بناء عالٍ منفردٍ، وبالموحدة المفتوحة: ما تكسى به الأرض من حجارة أو رخام أو كلسٍ، وقد قال أبو عبيدة: الصَّرح كلُّ ملاطٍ اتخذ من قوارير، والصَّرح: القصر، انتهى، وأخرج الطَّبري من طريق وهب بن منبِّه قال: أمر سليمان ◙ الشَّياطين فعملت له الصَّرح من زجاج كأنَّه الماء بياضًا، ثمَّ أرسل الماء تحته، ووضعَ سريره / فيه فجلسَ عليه، وعكفت عليه الطَّير والجن والإنس ليُريها مُلكًا هو أعزُّ من ملكها، فلمَّا رأت ذلك بلقيس حسبته لجَّة وكشفتْ عن ساقيها لتخوضه.
          ومن طريق محمَّد بن كعب قال: سجن فيه دواب البحر الحيتان والضَّفادع، فلمَّا رأته حسبته لجَّة وكشفت عن ساقيها، فإذا أحسن النَّاس ساقًا وقدمًا، فأمرها سليمان ◙ فاستترت.
          (وَالصَّرْحُ الْقَصْرُ) وهو قول أبي عبيدة، وقال الرَّاغب: بيت عالٍ مزوَّق، سُمي بذلك اعتبارًا بكونه صرحًا عن البيوت؛ أي: خالصًا (وَجَمَاعَتُهُ) أي: جمع الصَّرح (صُرُوحٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : ({وَلَهَا عَرْشٌ}: سَرِيرٌ كَرِيمٌ، حَسَنُ الصَّنْعَةِ، وَغَلاَءُ الثَّمَنِ) أي: قال ابنُ عبَّاس ☻ في تفسير قوله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] سرير كريمٌ، وصفه بالكرم على سبيل المجاز؛ يعني: أنَّه من خيار السُّرر وأنفسها كما في قوله صلعم : ((لا تأخذ كرائمَ أموالِ النَّاس))، وهي خيارها ونفائسها.
          وقوله: حَسَن الصَّنعة _بفتح الحاء والسين_، وقال الكرماني: حُسْن الصَّنعة، مبتدأ وخبره محذوفٌ؛ أي: له، وهذا يدلُّ على أنَّه بضم الحاء وسكون السين، وقوله: وغلاء الثَّمن، ويُروى: <وغَالي الثَّمن>، عطف على ما قبله، وروي عن ابن عبَّاس ☻ قال: وكان من ذهبٍ، وقوائمه من جوهرٍ ولؤلؤ، وفي رواية ابن أبي حاتم من طريق زهير بن محمَّد قال: حسن الصَّنعة، غالي الثَّمن، سرير من ذهب، وصفحتاهُ مَرْمول بالياقوت والزَّبرجد، طوله ثمانون ذراعًا في أربعين.
          وقال الثَّعلبي: عرشٌ عظيم ضخمٌ حسن، وكان مقدمه من ذهب مفضض بالياقوت الأحمر والزُّمرد الأخضر، ومؤخَّره من فضَّة مكلَّل بألوان الجواهرِ، وله أربعُ قوائم قائمةٌ من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمةٌ من زمرُّد أخضر، وقائمةٌ من درٍّ وصفائح السَّرير من ذهب، وعليه سبعة أبيات على كلِّ بيت باب مغلق، وعن ابن عبَّاس ☻ : كان عرشُ بلقيس / ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعاً، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعًا، وعن مقاتل: ثمانين ذراعًا في ثمانين ذراعًا، وطوله في الهواء ثمانون ذراعًا مكلَّل بالجواهر.
          ({يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}: طَائِعِينَ) كذا في رواية أبي ذرٍّ والأصيلي، وسقط في رواية غيرهما قوله: <{يَأْتُونِي}> أشار به إلى قوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38] وفسَّره بقوله: «طائعين»، وهكذا رواه الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ مثله.
          ومن طريق ابن جريج؛ أي: مقرِّين بدين الإسلام، ورجَّح الطَّبري الأوَّل واستدل له. وقيل: معنى طائعين: منقادين لأمر سليمان ◙، ولم يقل: مُطيعين؛ لأنَّ أطاعه إذا أجاب أمره، وطاعه إذا انقادَ له، وهؤلاء أجابوا أمره.
          ({رَدِفَ}: اقْتَرَبَ) أشار به إلى قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل:72] وفسَّر: {رَدِفَ} بقوله: «اقترب»، وصله الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ}؛ أي: اقترب لكم، وقال أبو عبيدة في قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} أي: جاء بعدكم، قيل: ضمَّن ردفَ معنى فعل يتعدَّى باللام، وهو اقترب، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، أو اللام للعلَّة؛ أي: لأجلكم، ومفعوله محذوف، أو اللَّام مزيدةٌ في المفعول تأكيدًا كزيادتها في قوله تعالى: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154].
          ({جَامِدَةً}: قَائِمَةً) أشار به إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88] وفسَّرها بقوله: «قائمة»، وهكذا رواه الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ .
          ({أَوْزِعْنِي}: اجْعَلْنِي) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19] وفسَّر قوله: {أَوْزِعْنِي} بقوله: «اجعلني»، وكذا رواه الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ ، وقال أبو عبيدة في قوله: {أَوْزِعْنِي} أي: سدِّدني إليه، وقال في موضع آخر: أي: ألهمني، وبالثاني جزم الفرَّاء.
          وفي «تفسير النَّسفي»: اجعلني أزع شكرَ نعمتكَ التي / أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ، وآلفه وارتبطه لا ينقلب عنِّي حتى لا أزال شاكرًا لك.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {نَكِّرُوا}: غَيِّرُوا) أي: قال مجاهد في قوله تعالى: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] ؛ أي: غيِّروا، وصله الطَّبري من طريقه، ومن طريق قتادة وغيره نحوه؛ أي: غيِّروا عرشها إلى حال تنكره إذا رأته، وأخرج ابنُ أبي حاتم من وجهٍ آخر صحيح عن مجاهد قال: أمر بالعرش فغيَّر ما كان أحمر جعله أخضرَ، وما كان أخضر جعله أصفرَ غيَّر كلَّ شيءٍ عن حاله.
          ومن طريق عكرمة قال: زيدوا فيه وأنقصوا، ورُوي أنَّه جعل أسفلَه أعلاه، وأعلاه أسفله، ومكان الجوهر الأحمر أخضر، ومكان الأخضر أحمر.
          ({وَأُوتِينَا الْعِلْمَ}: يَقُولُهُ سُلَيْمَانُ) أشار به إلى قوله تعالى: {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42] وأشار إلى أن قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} من قول سليمان ◙، وصله الطَّبري من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد بهذا، ونقل الواحديُّ أنَّه من بقيَّة قولِ بلقيس قالته مقرَّة بصحَّة نبوَّة سليمان ◙، والأوَّل هو المعتمدُ.
          وقال البيضاويُّ وصاحب «اللباب» وغيرهما: إنَّه من قول سليمان ◙ وقومه، فالضَّمير في قوله: {قَبْلِهَا}، عائدٌ على بلقيس، فكأن سليمان ◙ وقومه، قالوا: إنَّها قد أصابت في جوابها، وهي عاقلة، وقد رُزقت الإسلام، ثمَّ عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرتهِ على ما يشاء من قبل هذه المرأة مثل علمها، وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصَّهم بمزيَّة التقدُّم في الإسلام، قاله مجاهد، أو هو من تتمَّة كلامها، فالضَّمير في ((قبلها)) راجعٌ إلى المعجزة، أو من قبل هذه الحالة، وذلك لما رأت من أمر الهدهد وغيره. وقد وقع في بعض النُّسخ قبل قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} والقبس ما اقتبست / منه النَّار، وثبت هذا عند النَّسفي وحدَه، وهو قول أبي عبيدة، قال في قوله تعالى: {أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل:7] أي: بشعلة نار، ومعنى: {قَبَسٍ} ما اقتُبس من النَّار ومن الجمر.
          (الصَّرْحُ: بِرْكَةُ مَاءٍ، ضَرَبَ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ ◙ قَوَارِيرَ، أَلْبَسَهَا إِيَّاهُ) وفي رواية الأصيلي: <إيَّاها>، أشار به إلى قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44] وفسَّر الصَّرح المذكور بقوله: «بركة ماء...إلى آخره»، وكذا أخرجه الطَّبري من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد مثله قال: وكانت هلباءُ شعراء، ومن وجه آخر عن مجاهد: كشفتْ بلقيسُ عن ساقيها، فإذا هما شعراوان، فأمرَ سليمان ◙ بالنَّورة فصُنعت.
          ومن طريق عكرمة نحوه قال: وكان أوَّل من صنعت له النَّورة، ووصله ابنُ أبي حاتم من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ نحوه. وقوارير جمع: قارورة، وهي الزُّجاج الشفَّاف، وكان سليمان ◙ أمر ببنائه، وأجرى تحته الماء، وألقى فيه كلَّ شيءٍ من دواب البحر السَّمك وغيره، ثمَّ وضعَ سريره في صدره وجلس عليه، فلمَّا جاءت بلقيس، قيل لها: ادخلي الصَّرح، فلمَّا رأته حسبته لجَّة، وهي معظمُ الماء. وعن ابن جُريج: حسبته بحرًا، وكشفتْ عن ساقيها لتخوض إلى سليمان ◙، وقيل: إنَّه اتَّخذ صحنًا من قوارير، وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضَّفادع، فكان الرَّائي يظنُّه ماء.