نجاح القاري لصحيح البخاري

{والذاريات}

          ░░░51▒▒▒ (سُوْرَةُ {وَالذَّارِيَاتِ}) سقط لفظ: <سورة> في رواية غير أبي ذرٍّ، والواو للقسم، وهي مكيَّة كلها قاله مقاتل وغيره. وقال السَّخاوي: نزلت بعد سورة الأحقاف، وقبل سورة الغاشية.
          وهي ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفًا، وثلاثمائة وستون كلمة، وستون آية.
          (╖) لم تثبتِ البسملةُ إلَّا في رواية أبي ذرٍّ (قَالَ عَلِيٌّ ◙) كذا في الفرع وأصله، وكثير من النُّسخ وهو وإن كان معناه صحيحًا لكن ينبغي أن يساوى بين الصَّحابة في ذلك إذ هو من باب التَّعظيم، والشَّيخان وعثمان ♥ أولى بذلك منه، فالأولى التَّرضية.
          وقد قال الجويني: السَّلام كالصَّلاة فلا يستعملُ في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء ‰، وسواء في هذا الأحياء والأموات، وأمَّا الحاضرُ فيخاطب به، انتهى. وفي نسخةٍ: <قال علي بن أبي طالبٍ> ({الذَّارِيَات} الرِّيَاحُ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وسقط في رواية غيره / لفظ: <{الذَّارِيَاتِ}> والمراد: الرِّياح التي تذرو التراب، وقد وصله الفريابي عن الثَّوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطُّفيل ذعن علي ☺. وروى أبو محمد الحنظلي عن أبي سعيد الأشج: حدثنا عقبة بن خالد السُّكوني: حدثنا سعيد بن عُبيد الطَّائي، عن عليِّ بن ربيعة: أنَّ عبدَ الله بن الكَوَّاء سأل عليًا ☺ ما الذَّاريات؟ قال: الرِّيح.
          قال أبو محمد: رُوي عن ابن عبَّاس ☻ ، وكذا عن ابن عمر ☻ ومجاهد والحسن وسعيد بن جُبير وقتادة والسُّدي وخصيف مثل ذلك. وأخرجه ابن عُيينة في «تفسيره» عن ابن أبي حسين: سمعت أبا الطُّفيل قال: سمعتُ ابن الكَوَّاء سأل عليَّ بن أبي طالب ☺ عن ((الذَّاريات ذروًا))؟ قال: الرِّياح. وعن ((الحاملات وقرًا))؟ قال السحاب. وعن ((الجاريات يسرًا)) قال السفن. وعن ((المدبرات أمرًا)) قال الملائكة(1) . وصحَّحه الحاكم من وجهٍ آخر عن أبي الطُّفيل. وابن الكَوَّاء _بفتح الكاف وتشديد الواو_ واسمه: عبدُ الله، وهذا التَّفسير مشهورٌ عن علي ☺. وقد أطنبَ الطَّبريُّ في تخريج طُرقه إلى عليٍّ ☺.
          وأخرجه عبد الرَّزَّاق من وجهٍ آخر عن أبي الطُّفيل قال: شهدتُ عليًّا ☺ وهو يخطبُ وهو يقولُ: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيءٍ يكون إلى يوم القيامة إلَّا حدَّثتكم به، وسلوني عن كتابِ الله فوالله ما من آيةٍ إلَّا وأنا أعلمُ أبليلٍ أُنزلت أم بنهارٍ، أم في سهلٍ أم في جبلٍ، فقام ابنُ الكوَّاء وأنا بينه وبين علي ☺ وهو خلفي، فقال: ما الذَّاريات ذروًا فذكر مثله، وقال فيه: ويلك سلْ تفقهًا ولا تسأل تعنتًا، وفيه سؤاله له عن أشياء غير هذا. وقيل: الذَّاريات: النِّساء الولود تذرين الأولاد.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: {تَذْرُوهُ}: تُفَرِّقُهُ) أي: قال غير عليٍّ ☺ في قوله تعالى: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] تفرِّقه، وهو قول أبي عبيدة، قال في سورة الكهف في قوله ╡: {فَأَصْبَحَ هَشِيْمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] أي: تُفرِّقه، وناس يقولون: المذريات ذتْ وأذريتْ، وإنما ذكره هنا لأجل قوله: ((والذَّاريات)) يقال: ذَرَت الرِّيح / التراب تذروهُ ذروًا.
          وقال الجوهريُّ: ذرت الرِّيح التراب وغيره تذروهُ وتذريهِ ذروًا وذريًا؛ أي: سفَّته.
          ({وَفِي أَنْفُسِكُمْ}: تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ فِي مَدْخَلٍ وَاحِدٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ) أي: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ}آيَاتٍ {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] بعين الاعتبار لأنَّه أمرٌ عظيمٌ حيث يأكلُ ويشربُ في مدخلٍ واحدٍ، هو الفم ويخرجُ من موضعين؛ أي: القُبُل والدُّبر، وهو قول الفرَّاء، قال في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} يعني: أيضًا آيات إنَّ أحدكم يأكلُ ويشرب في مدخلٍ واحدٍ، ويخرج من موضعين، ثمَّ عنَّفهم فقال: ((أفلا تبصرون)). ولابن أبي حاتم من طريق السُّدي قال: {وَفِيْ أَنْفُسِكُمْ} قال: فيما يدخلُ من طعامكم وما يخرج. وأخرج الطَّبري من طريق محمد بن المرتفع عن عبد الله بن الزُّبير في هذه الآية قال: سبيل الغائط والبول.
          ({فَرَاغَ}: فَرَجَعَ) ويروى: <{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} فرجع> بزيادة لفظ: (إلى أهله)، أشار به إلى قوله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وفسَّر: (رَاغَ) بقوله: رجع، وهو قول الفرَّاء، وعن الفرَّاء: والرَّوغ وإن جاء بهذا المعنى إلَّا أنَّه لا يُنْطقُ به حتَّى يكون صاحبه مخفيًّا لذهابه ومجيئه؛ يعني: أنَّه يذهب في خفية من ضيفه فإنَّ من آداب المضيف أن يخفي أمره ويأتيهِ بالقِرى من غير أن يشعرَ به الضَّيف حذرًا من أن يكفَّه ويعذره، وقال أبو عبيدة في قوله: {فَرَاغَ} فعدل، والضَّمير في راغ إلى إبراهيم ╕.
          ({فَصَكَّتْ}: فَجَمَعَتْ أَصَابِعَهَا، فَضَرَبَتْ جَبْهَتَهَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <جمعت> بغير فاء. وفي رواية المستمليِّ: <فضربت به>؛ أي: بما جمعت، أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات:29] وفسَّر: {فَصَكَّتْ} بقوله: فجمعت... إلى آخره، وهو قول الفرَّاء بلفظه.
          وروى سعيد بن منصور من طريق الأعمش عن مجاهد في قوله: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} قال: ضربتْ بيدها على جبهتها، وقالت: يا ويلتاهُ. وروى الطَّبري من طريق السُّدي قال: ضربت وجهها عجبًا. ومن طريق الثَّوري قال: وضعت يدها على جبهتها تعجُّبًا، وذلك لأنَّ من عادة النِّساء إذا أنكرن شيئًا يفعلنَ ذلك، وقيل: وجدت / حرارة دم الحيض فضربت وجهها من الحياء، وقوله: {فِيْ صَرَّةٍ}؛ أي: في صيحةٍ. ووقع في رواية النَّسفي هنا: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذاريات:39] بمن معه؛ لأنَّهم من قومه، وهو قول قتادة أخرجه عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عنه، وقاله الفرَّاء أيضًا.
          (وَالرَّمِيمُ: نَبَاتُ الأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ) أشار به إلى قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] وفسَّر: (الرَّمِيمِ) بقوله: «نبات الأرض إذا يبسَ»؛ أي: جفَّ «ودِيْس» وهو بكسر الدال وسكون التحتية وبالسين المهملة على صيغة الماضي المجهول، من الدَّوس وهو وطء الشَّيء بالقدمِ حتَّى يتفتتَ، ومنه دياس الأرض، وأصلُه دوسَ فأعل كإعلالِ قيل، وهذا التَّفسير منقولٌ عن الفرَّاء، وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة: كرميم الشَّجر.
          وأخرج الطَّبري من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد، قال: الرَّميم: الهالك. وعن ابن عبَّاس ☻ أيضًا: ((كالرَّميم)) كالشَّيء الهالكِ. وعن أبي العالية: كالترابِ المدقوقِ، وقيل: أصلُه من العظم البالي. ومعنى الآية _والله تعالى أعلم_: ما تترك من شيءٍ أتت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا جعلته كالشَّيء الهالك البالي.
          ({لَمُوسِعُونَ}) ويُروى: <إنَّا لَمُوسِعُونَ> بزيادة: إنا (أَيْ: لَذُو سَعَةٍ) ويُروى: <أي إني لذو سَعة> (وَكَذَلِكَ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ}: يَعْنِي: الْقَوِيَّ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] وفسَّر: {لَمُوسِعُونَ} بقوله: «لذو سَعَةٍ»؛ أي: لخلقنا، قاله الفرَّاء، وعن ابن عبَّاس ☻ لقادرون؛ يعني: من الوسع بمعنى الطَّاقة كقولك: ما في وسعي كذا؛ أي: ما في طاقتي وقوَّتي، وعنه: لموسعون الرِّزق على خلقنا، وعن الحسن: المطيقون، وكذا قوله تعالى: {عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] في المعنى، والحاصل: أنَّه عبارة عن السَّعة والقدرة. وروى ابنُ أبي حاتم من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد قال: وإنا لموسعون أن نخلق سماء مثلها.
          ({زَوْجَيْنِ}) وفي رواية أبي الوقت: <{خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}> (الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] وفسَّر: الزَّوجين، بقوله: «الذكر والأنثى» من جميع الحيوانات، وفي التَّفسير: زوجين صنفين ونوعين مختلفين كالسَّماء والأرض، / والشَّمس والقمر، واللَّيل والنَّهار، والبر والبحر، والسَّهل والوعر، والشتاء والصَّيف، والإنس والجن، والكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والحق والباطل، والذَّكر والأنثى، والدُّنيا والآخرة. وقد أخرج الطَّبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} قال: الكفر والإيمان، والشَّقاوة والسَّعادة، والهدى والضَّلالة، واللَّيل والنَّهار، والسَّماء والأرض، والجن والإنس.
          (وَاخْتِلاَفُ الأَلْوَانِ) أي: وكذا اختلاف الألوان، الظَّاهر أنَّه أشار به إلى قوله تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] أي: ومن جملة آياته ╡ اختلاف ألوان بني آدم، وهو الاختلافُ في تنويع ألوانهم إذ لو تشاكلتْ وكانت نوعًا واحدًا لوقع التَّجاهل والالتباس، ولتعطَّلت مصالح كثيرة، وكذلك اختلاف الألوان في كلِّ شيءٍ.
          (حُلْوٌ وَحَامِضٌ) أي: وكذا الاختلاف في المطعومات حتى في الثِّمار، فإنَّ بعضها حلو وبعضها حامض (فَهُمَا زَوْجَانِ) أي: الحلو والحامض زوجان، وأطلق عليهما زوجان؛ لأنَّ كلًّا منهما يُقابل الآخر بالضِّديَّة كما في الذَّكر والأنثى، فإنَّ الذَّكر يقابلُ الأنثى بالضِّدية، وهذا المذكور قول الفرَّاء أيضًا، ولفظه: الزَّوجان من جميع الحيوانات الذَّكر والأنثى، ومن سوى ذلك: اختلاف ألوان النَّبات، وطعوم الثِّمار، بعض حلو وبعض حامض. وأخرج ابنُ أبي حاتم من طريق السُّدي معناه.
          ({فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}: مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وفسَّره بقوله: «من الله إليه»؛ أي: من معصيته إلى طاعته، أو من عذابه إلى رحمته، وهو قول الفرَّاء أيضًا. وفي التَّفسير: أي: فاهربُوا من عذابِ الله إلى ثوابهِ بالإيمان ومجانبةِ العصيان، وعن أبي بكر الورَّاق: فرُّوا من طاعة الشَّيطان إلى طاعة الرَّحمن.
          ({إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }> (مَا خَلَقْتُ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلاَّ لِيُوَحِّدُونِ) وفي نسخة: <يقول: وما خلقت... إلى آخره> وهو قول الفرَّاء، ونصره ابن قتيبة في ((مشكل القرآن)) له / أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ومعناه بحسب الظَّاهر: ما خلقت هذين الفريقين إلَّا ليوحدون، ولكن فسَّره البخاري بقوله: ما خلقت أهل السَّعادة من أهل الفريقين إلَّا ليوحِّدون، فجعل العام مرادًا به الخصوص ليظهر الملازمة بين العلَّة والمعلول؛ لأنَّه لو حُمِل على ظاهره لوقع التَّنافي بينهما لوجود من لا يعبده وهو غير جائزٍ. وعن هذا قال الضَّحَّاك وسفيان: هذا خاصٌّ لأهل عبادتهِ وطاعتهِ.
          ويؤيِّده قراءة ابن عبَّاس ☻ : ((وما خلقت الجنَّ والإنس من المؤمنين؟))، وعن علي بن أبي طالب ☺ معناه: إلَّا لآمرهم بعبادتي، وأدعوهم إليها، واعتمدَ الزَّجاج على هذا. ويؤيِّده قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة:5].
          فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتَّذلُّل لأمره ومشيئته؟
          فالجواب: أنَّهم قد تذللوا لقضائه الَّذي قضى عليهم؛ لأنَّ قضاءه تعالى جارٍ عليهم لا يقدرون على الامتناعِ منه إذا نزل بهم، وإنما خالفه من كفر في العمل بما أمر به للتَّذلل لقضائه ومشيئتهِ لا يملك لنفسه خروجًا عمَّا خلق عليه. وقد نظرهُ الإمام القسطلاني بقولك: هذا القلم بريته للكتابة، ثمَّ قد تكتب به، وقد لا تكتب. وزاد زيد بن أسلم: وما خلقت الأشقياء منهم إلَّا ليعصون.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) ذاهبًا إلى حمل الآية على العموم (خَلَقَهُمْ لِيَفْعَلُوا) أي: التوحيد (فَفَعَلَ بَعْضٌ) بتوفيقه له (وَتَرَكَ بَعْضٌ) بخذلانهِ وطردهِ، فكلٌّ ميسَّر لما خُلق له، وهو قول الفرَّاء أيضًا، وحاصل التَّأويلين أنَّ الأول محمولٌ على أنَّ اللَّفظ العامَّ أريد به الخصوص كما مرَّ، وأنَّ المراد أهل السَّعادة من الجنِّ والإنس، والثَّاني باقٍ على عمومه لكن بمعنى الاستعداد؛ أي: خلقهم مستعدِّين لذلك لكن منهم من أطاع، ومنهم من عصى وهو كقولهم: الإبل مخلوقةٌ للحرث؛ أي: قابلة لذلك؛ لأنَّه قد يكون فيها ما لا يحرث، ومعنى الآية في الجملة _والله أعلم_: أنَّ الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلقَ جبلَّة واختيار، / وإنَّما خلقهم لها خلق تكليفٍ واختبارٍ، فمن وفَّقه وسدَّده أقام العبادة التي خلق لها، ومن خذلَه وطردَه حرمها، وعملَ بما خلق له كقوله صلعم : ((اعملوا فكلٌّ ميسَّر لما خلق له))، وفي نفس الأمر هذا سرٌّ لا يطَّلع عليه غير الله تعالى، ولا يُسأل عمَّا يفعل وهم يسألون.
          ولم يذكر الملائكة لأنَّ الآية سيقت لبيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له، وهذا خاصٌّ بالثقلين، أو لأنَّ الملائكة مندرجون في الجنِّ لاستتارهم.
          (وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لأَهْلِ الْقَدَرِ) هذا من كلام البخاري، ويحتمل أن يكون من تتمَّة كلام الفرَّاء، والمراد منهم: المعتزلة فإنَّهم احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ إرادة الله تعالى لا تتعلق إلَّا بالخير، وأمَّا الشر فليس مرادًا له، وأجاب أهل السُّنَّة بأنَّه لا يلزم من كون الشَّيء معللًا بشيء أن يكون ذلك الشَّيء مرادًا، وأن لا يكون غيره مرادًا. ويحتمل أن يكون المراد أنَّهم احتجُّوا بها على أنَّ أفعالَ الله تعالى لا بدَّ أن تكون معلَّلة بالأغراض، وجوابه أنَّه لا يلزم من وقوع التَّعليل في موضعٍ وجوب التَّعليل في كلِّ موضعٍ، ونحن نقول بجواز التَّعليل لا بوجوبه، أو أنَّ اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ومعناه: المقاربة، فالمعنى هنا قرنت الخلق بالعبادة؛ أي: خلقتهم وفرضت عليهم العبادة. ويحتمل أن يكون المراد أنَّهم احتجُّوا بها على أنَّ أفعال العباد مخلوقةً لهم لإسناد العبادة إليهم، وجوابه أنَّ الإسناد من جهة الكسب، وكون العبد محلًا لها، وفي الآية تأويلاتٌ أخرى يطول ذكرها.
          وروى ابن أبي حاتم من طريق السُّدي قال: خلقهم للعبادة، فمن العبادة ما ينفع، ومنها ما لا ينفع، والأولى أن يُقال: أنَّ المراد خلقهم خلق التَّكليف لا خلق الجبلة، فمنهم من وفِّق لها، ومنهم من خذل وخالف، والله تعالى أعلم.
          (وَالذَّنُوبُ: الدَّلْوُ الْعَظِيمُ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات:56] وفسَّره: بالدَّلو العظيم، وهو قول الفرَّاء أيضًا، لكن قال: العظيمة، وزاد، / ولكنَّ العرب تذهب بها إلى الحظِّ والنَّصيب.
          وقال أبو عبيدة: الذَّنوب: النَّصيب، وأصله من الدَّلو، والذَّنوب والسِّجل واحدٌ، والسجل أقل ملأ من الذَّنوب(2) . والحاصل أنَّ الذَّنوب في اللُّغة الدَّلو العظيم المملوء ماء. وأهل التَّفسير اختلفوا فيه فعن مجاهد سبيلًا. وعن النَّخعي طرفًا. وعن قتادة وعطاء عذابًا. وعن الحسن دولة. وعن الكسائي: حظًّا. وعن الأخفش: نصيبًا.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {ذَنُوبًا} سَجْلًا) أي: قال مجاهد في تفسير قوله: {ذَنُوبًا} سجلًا، وصله الفريابي من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات:59]. قال: سجلًا من العذاب مثل عذاب أصحابهم.
          وأخرج ابنُ المنذر من طريق ابن جُريج عن مجاهد في قوله: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا} قال: سجلًا، قال: وقال ابن عبَّاس ☻ : سجلًا. وله من طريق ابن جريج عن عطاء مثله، وهو بفتح المهملة وسكون الجيم وباللام: الدَّلو الممتلئ ماء، ثمَّ استعملَ في الحظِّ والنَّصيب. وفي نسخة وقع: <سبيلًا> بدل: سجلًا. ثمَّ إنَّه وقع هذا مؤخَّرًا عن الذي بعده في رواية غير أبي ذرٍّ، والذي عنده أولى بل هو تخبيطٌ من النَّاسخ.
          (صَرَّةٌ: صَيْحَةٌ) بالرفع فيهما في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره بالجرِّ فيهما، وهو الموافق للتِّلاوة، أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] وفسَّر: الصَّرة: بالصيحة. وقد وصله الفريابي من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد. وأخرجه ابنُ أبي حاتم من وجهٍ آخر عن مجاهد عن ابن عبَّاس ☻ . وقال أبو عبيدة في قوله: ((في صرَّة)) شدَّة صوت، يُقال: أقبلَ فلانٌ يَصْطَرّ؛ أي: يصوِّت صوتًا شديدًا. وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة: أقبلت ترنُّ.
          (الْعَقِيمُ: الَّتِي لاَ تَلِدُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29] وفسَّر العقيم بالَّتي لا تلد. وفي رواية أبي الوقت: <لا تلقح شيئًا> بدل: <لا تلد>. وزاد أبو ذر: <ولا تُلَقح شيئًا> أخرج ابنُ المنذر من طريق الضَّحَّاك قال: العقيمُ: التي لا تلدُ. وقال عبد الرَّزَّاق عن معمر عن قتادة: العقيم: التي لا تُنبت.
          وأخرج الطَّبري والحاكم من طريق خُصيف عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: الرِّيح العقيم التي لا تُلقحُ شيئًا، والمراد: سارة وكانت لم تلدْ قبل ذلك، فولدتْ / وهي بنتُ تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ◙ يومئذٍ ابن مائة سنة.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (وَالْحُبُكُ: اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] وفسَّر: {الْحُبُكِ} باستواء السماء وحسنها، تقدم في «بدء الخلق» [خ¦59/2-4978].
          وأخرجه الفريابي عن الثَّوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس ☻ . ومن طريق سفيان أخرجه الطَّبري وإسناده صحيحٌ؛ لأنَّ سماع الثَّوري من عطاء بن السَّائب كان قبل الاختلاط. وأخرجه الطَّبري من وجهٍ آخر صحيح عن ابن عبَّاس ☻ ، وأخرجه عبدُ الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله: {ذَاتِ الْحُبُكِ} قال: ذات الخلق الحسن المستوي.
          وكذا روى ابنُ أبي حاتم عن الأشج: حدثنا ابنُ فضيل: أخبرنا عطاء بن السَّائب، عن سعيد، عن ابن عبَّاس ☻ وقتادة والربيع، وكذا قال عكرمة: وقال: ألم تر إلى النَّساج إذا نسج الثَّوب وأجاد نسجه، قيل: ما أحسن حبكه، وقال سعيد بن جُبير: ذات الزِّينة؛ أي: المزينة بزينة الكواكب، وعن الحسن: حبكت بالنُّجوم. وعن مجاهد: هو المتقن البنيان. وعن الضَّحَّاك: ذات الطَّرائق ولكنَّها تبعدُ عن الخلائق فلا يرونها. وقيل: المراد من الطَّرائق إمَّا الطَّرائق المحسوسة التي هي مسيرُ الكواكب، أو المعقولة التي يسلكها النُّظَّار ويتوصَّل بها إلى المعارف، والله تعالى أعلم.
          ({فِي غَمْرَةٍ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <في غمرتهم> والأوَّل هو الموافقُ للتلاوة. قال الحافظ العسقلانيُّ: والأوَّل أولى لوقوعه في هذه السُّورة، وأمَّا الثَّاني فهو في سورة الحجر لكن قوله: «في ضلالتهم»، يؤيِّد الثَّاني كأنَّه ذكره كذلك هنا للاشتراك في الكلمة، انتهى. وهذا سهوٌ منه، وإنَّما الذي في سورة الحجر آية هو لفظ: {سكرتهم}[الحجر:72]، لا غمرتهم، وإنَّما وقع في ضلالتهم ميلًا إلى المعنى، فافهم.
          (فِي ضَلاَلَتِهِمْ يَتَمَادَوْنَ) أشار به إلى قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10-11] وفسَّر الغمرة: بالضَّلالة. وقد وصله ابنُ أبي حاتم والطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} قال: في ضلالتهم يتمادون. ووقع في رواية النَّسفي: في ضلالهم أو ضلالتهم، بالشك. وفي بعض النَّسخ: <في غمرةٍ في ضلالة> يتمادون: يتطاولون. وقيل: الغمرة: الغفلة والشبهة. وقوله: {سَاهُونَ}؛ أي: لاهون.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: {تَوَاصَوْا}: تَوَاطَئُوا) أي: قال غير ابن عبَّاس ☻ / في قوله تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] أي: تواطؤوا، هذا ساقطٌ في رواية أبي ذرٍّ. وقد أخرجه ابنُ المنذر من طريق أبي عبيدة في قوله: ((أتواصوا به))؛ أي: تواطؤوا عليه، وأخذه بعضُهم عن بعض، وإذا كانت شيمة غالبة على قومٍ، قيل: كأنَّما تواصوا به.
          وروى الطَّبري من طرق عن قتادة قال: هل أوصى الأوَّل الآخر منهم بالتَّكذيب، والهمزة التي حذفها المؤلف للاستفهام التَّوبيخي، والضَّمير في «به» يعودُ إلى القول المدلول عليه بقالوا؛ أي: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمِّن لساحر أو مجنون. والمعنى: كيف اتَّفقوا على قولٍ واحدٍ كأنَّهم تواطؤوا عليه.
          (وَقَالَ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ ({مُسَوَّمَةً}: مُعَلَّمَةً، مِنَ السِّيْمَا) بكسر السين وسكون التحتية مقصورًا، وهي العلامةُ، أشار به إلى قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:33-34] وفسَّر: {مُسَوَّمَةً} بقوله: «معلَّمة»، وهو قول أبي عبيدة(3) . ووصله ابنُ المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {مُسَوَّمَةً} قال: معلَّمة. وأخرج الطَّبري من طريق العوفي عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: ({مُسَوَّمَةً}) قال: مختومة بلونٍ أبيض وفيه نقطة [سوداءوبالعكس](4) .
          ({قُتِلَ الْإِنْسَانُ} لُعِنَ) سقط هذا في رواية غير أبي ذرٍّ، وفي بعض النُّسخ: <{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} لعنوا> وفي بعضها وقع هذا في أوائل السُّورة، وأخرج ابنُ المنذر من طريق ابن جُريج في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] قال: هي مثل التي في عبس {قُتِلَ الْإِنْسَانُ}؛ أي: لعن.
          وأخرج الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} قال: لُعن الكذَّابون. وعند عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] قال: الكذَّابون. وعن ابن عبَّاس ☻ أيضًا: المرتابون. وعن مجاهد: هم الكهنةُ. وقد وقعَ هنا تقديم وتأخيرٌ في بعض التَّفاسير في النُّسخ. ولم يذكر المؤلِّف في هذه السُّورة حديثًا مرفوعًا، والظَّاهر أنَّه لم يجدهُ على شرطهِ.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: ويدخلُ فيها على شرطه حديث / أخرجه أحمدُ والترمذيُّ والنَّسائي من طريق أبي إسحاق عن عبد الرَّحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود ☺ قال: أقرأني رسولُ الله صلعم : ▬إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ↨ قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وصحَّحه ابن حبَّان.


[1] في هامش الأصل: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 4] الملائكة تفعل التقسيم مأمورة بذلك، وعن مجاهد: تتولى تقسيم أمر العباد جبريل للغلظة وميكائيل للرَّحمة، وملك الموت لقبض الروح، وإسرافيل للنفخ. ((كشاف)).
[2] في هامش الأصل: في نسخة: من الدلو.
[3] في هامش الأصل: {مُسَوَّمةً}: معلمة للعذاب، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرم بها. قاضي.
[4] ما بين معقوفين زيادة من الفتح.