نجاح القاري لصحيح البخاري

سورة الأنعام

          ░░░6▒▒▒ (سُوْرَةُ الأنْعَامِ) ذكر ابن المنذر بإسناده عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: نزلت سورة الأنعام بمكَّة شرَّفها الله تعالى ليلًا جملةً وحولها سبعون ألف ملكٍ يجأرون حولها بالتَّسبيح، وذكر نحوه عن أبي جحيفة. وروى الحاكم في «مستدركه» عن جعفر بن عون: حدَّثنا إسماعيل بن عبد الرَّحمن: حدَّثنا محمد بن المنكدر عن جابرٍ ☺ لمَّا نزلت سورة الأنعام سبَّح رسول الله صلعم ثمَّ قال: ((لقد شيَّع هذه السُّورة ما سدَّ الأفق)) ثمَّ قال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، فإنَّ إسماعيل هو السُّدِّي.
          قال الذَّهبي: لا والله لم يدرك جعفر السُّدِّي، وأظنُّ هذا موضوعًا. وعند ابن مردويه عن أنس بن مالكٍ ☺ مرفوعًا: ((نزلت سورة الأنعام معها موكبٌ من الملائكة سدَّ ما بين الخافقين، لهم زجلٌ بالتَّسبيح والأرض بهم ترتجُّ، ورسول الله صلعم يقول: سبحان ربِّي العظيم)).
          وعن مجاهدٍ: نزل معها خمسمائة ملكٍ يزفُّونها ويحفونها. وفي «تفسير» أبي محمد إسحاق بن إبراهيم البستي: خمسمائة ألف ملكٍ.
          ورُوي عن ابن عبَّاس ☻ ومجاهد وعطاء والكلبي: نزلت الأنعام بمكَّة إلَّا ثلاث آياتٍ فإنَّها نزلت بالمدينة، وهي من قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا} إلى قوله: {تَتَّقُونَ} [الأنعام:151-153] وفي أخرى عن الكلبي: هي مكيَّةٌ إلَّا قوله: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ} [الأنعام:91] الآيتين.
          وقال قَتَادة: هما قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] والأخرى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام:141] وذكر ابن العربي أنَّ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ} [الأنعام:145] نزلت بمكَّة يوم عرفة.
          وقال السَّخَّاوي: نزلت بعد الحجر، وقبل الصَّافَّات. وفي كتاب «الفضائل» لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي قال: قال عليُّ بن أبي طالب ☺ / سورة الأنعام تُدعى في التَّوراة: المرضية، سمعتُ سيدنا رسول الله صلعم يقول: ((من قرأها فقد انتهى)).
          وفي الكتاب «الفائق في اللفظ الرائق» لأبي القاسم عبد المحسن القيسي: قال صلعم : ((من قرأ سورة الأنعام جملةً ولم يقطعها بكلامٍ غُفر له ما أسلف من عمل)) لأنَّها نزلت جملةً ومعها موكبٌ من الملائكة تسدُّ ما بين الخافقين، والأرض بهم ترتجُّ. وهي مائة وخمس وستون آية، وثلاث آلاف واثنتان وخمسون كلمة، واثنا عشر ألف حرف، وأربعمائة واثنان وعشرون حرفًا.
          (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ) سقطت البَسملة في رواية غير أبي ذرٍّ (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : ({فِتْنَتَهُمْ}: مَعْذِرَتَهُمْ) أشار به إلى تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:22-23] فسَّرها ابن عبَّاس ☻ بقوله: «معذرتهم».
          وقد وصل هذا التَّعليق ابن أبي حاتم عن أبيه: حدثنا إبراهيم بن موسى: أنبأنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عبَّاس ☻ . وقال معمر عن قَتادة: {فِتْنَتُهُمْ} مقالتهم، قال: وسمعتُ من يقول: معذرتهم. أخرجه عبد الرَّزَّاق. وأخرج عبد بن حميد عن يونس عن شيبان عن قَتادة في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} قال: معذرتهم، وعن الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ ☻ ؛ أي: حجَّتهم.
          ({مَعْرُوشَاتٍ}: مَا يُعْرَشُ مِنَ الْكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) لم يقع هذا في رواية أبي ذرٍّ، وأشار به إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام:141] وفسَّر معروشات بقوله: «ما يُعْرَش من الكرم وغير ذلك».
          وقد وصله ابنُ أبي حاتم من طريق ابن جُريج عن عطاء عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} قال: ما يُعْرش من الكروم {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} ما لا يُعْرش، وعن عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ : المعروشات: ما عرش النَّاس، وغير معروشات: ما خرج في البرِّ والجبال من الثَّمرات. وعن عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ أيضًا: معروشات: مسموكات، وقيل: معروشات: ما يقوم على العرائش.
          وفي «المغرب» العرش: / السَّقف في قوله: «وكان عرش المسجد من جريد النَّخل»؛ أي: من أفنانه وأغصانه، وعريش الكرم ما يُهيَّأ ليرتفع عليه، والجمع: العرائش.
          ({حَمُولَةً}: مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا) أشار بهذا إلى تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142] وفسَّر الحمولة بقوله: «ما يُحْمل عليها»؛ أي: الأثقال، وعن الثَّوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: {حَمُولَةً} ما حُمِّلَ من الإبل {وَفَرْشًا} قال: الصِّغار من الإبل، رواه الحاكم وقال: صحيحٌ ولم يخرجاه. وقال ابن عبَّاس ☻ : الحمولة: هي الكبار، والفرش: الصِّغار من الإبل، وكذا قال مجاهد، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ : الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير، وكلُّ شيءٍ يُحملُ عليه، والفرش الغنم.
          واختاره ابن جرير قال: وأحسبه إنَّما سمِّي فرشًا لدنوِّه من الأرض. وقال الرَّبيع بن أنس والحسن والضَّحَّاك وقَتادة: الحمولة: الإبل والبقر، والفرش الغنم. وقال السُّدِّي: أمَّا الحمولة فالإبل، وأمَّا الفرش فالفُصْلان والعجاجيل والغنم وما حُمِل عليه فهو حَمولةٌ.
          وقال عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون وتحلبون، الشَّاة لا تحمل، ويؤكلُ لحمها، وتتَّخذون من صوفها لحافًا وفرشًا. وقال مَعمر عن قَتَادة عن الحسن: الحمولة ما حمل عليه منها، والفرش حواشيها يعني: صغارها. قال قَتادة: وكان غير الحسن يقول: الحمولةُ الإبل والبقر، والفرش الغنم، أحسب ذكره عن عكرمة أخرجه عبد الرَّزَّاق، وعن ابن مسعودٍ: الحمولة ما حُمِّل من الإبل، والفرش الصِّغار، أخرجه الطَّبراني وصحَّحه الحاكم.
          ({وَلَلَبَسْنَا}: لَشَبَّهْنَا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] وفسَّر لبسنا بقوله: «لشبهنا». وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} يقول: لشبهنا عليهم. وأصله من اللَّبس _بفتح اللام_ وهو الخلط، تقول: لبس يلبس، من باب ضرب لَبسًا _بالفتح_ ولبس الثوب يلبس من باب علم لُبسًا _بالضم_.
          ({لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} أَهْلَ مَكَّة) كذا ثبت عند النَّسفي، وسقط عند غيره، وهكذا في «مستخرج أبي نُعيم»، وقد وصله ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] يعني: أهل مكَّة، وقوله: {وَمَنْ بَلَغَ} قال: ومن بلغه هذا القرآن من النَّاس فهو له نذيرٌ. /
          ({يَنْأَوْنَ}: يَتَبَاعَدُونَ) أشار به إلى تفسير قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] وفسر: {يَنْأَوْنَ} بقوله: «يتباعدون»، وكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق ابن جُريج عن عطاء عن ابن عبَّاس ☻ . وكذا قال أبو عبيدة: {يَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يتباعدون عنه، وكذا قال عبد الرَّزَّاق عن معمر عن قَتَادة.
          والمعنى: أنَّ كفَّار مكَّة ينهون النَّاس عن اتِّباع الحقِّ ويتباعدون عنه. وأخرج من وجهٍ آخر عن ابن عبَّاس ☻ : نزلت في أبي طالبٍ كان ينهى المشركين عن أذى رسول الله صلعم ويتباعد عمَّا جاء به، وصحَّحه الحاكم. وقال عليُّ بن أبي طلحة: ينهون النَّاس عن محمَّدٍ صلعم ، ويتباعدون أن يؤمنوا به.
          ({تُبْسَلُ}: تُفْضَحُ. {أُبْسِلُوا}: أُفْضِحُوا) بهمزة مضمومة وكسر الضاد المعجمة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <فُضحوا> بغير همزة على البناء للمفعول في كليهمَا، وكلاهما لغتان، وأشار به إلى قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام:70] وفسَّر لفظ {تُبْسَلَ} بقوله: «تُفْضح»، وكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ .
          وقال الضَّحَّاك: عن ابن عبَّاس ☻ ومجاهد وعكرمة والحسن والسُّدِّي: {أَنْ تُبْسَلَ} أن تُفْضحَ، وروى عبد بن حميد من طريق مجاهد {أَنْ تُبْسَلَ} أن تُسْلمَ، ومن طريق قَتادة: تُحْبس.
          وقال ابن زيد: تؤاخذ، وقال الكلبي: تجزى، وقيل في التَّفسير قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي: ذكِّر النَّاس بالقرآن، وحذِّرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة {أن تُبْسلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}؛ أي: لئلا تُبْسل، وقوله: {أُبْسِلُوا} إشارةٌ إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام:70] أي: أُفضحوا بسبب كسبهم.
          ({بَاسِطُو أيْدِيهِمْ}: الْبَسْطُ: الضَّرْبُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} وقبله {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام:93] وجواب «لو» محذوف تقديره: لرأيت أمرًا عجيبًا، وفسَّر البسطَ بالضرب.
          ووصله ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} قال: هذا عند الموت، والبسط الضَّرب. وقيل: هم باسطو أيديهم بالعذاب، وقيل: بقبض الأرواح من الأجساد، ويكون هذا وقت الموت، وقيل: يوم القيامة، وقيل: في النَّار. وقال الزَّمخشري: {بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} يبسطون إليهم أيديهم يقولون: أخرجوا أرواحكم إلينا من أجسادكم، وهذا عبارةٌ عن العنف والإلحاح والتَّشديد في الإزهاق. هذا وقال العيني: تفسير البسط بالضَّرب غير موجَّهٍ؛ لأنَّ المعنى البسط بالضَّرب؛ يعني: أنَّ الملائكة يبسطون أيديهم بالضَّرب. وفيه أنَّ هذا التَّفسير محمولٌ على / التَّسامح لظهور المراد.
          ({اسْتَكْثَرْتُمْ}) وفي رواية أبي ذرٍّ زيادة قوله: <{مِنَ الْإِنْسِ}> (أضْلَلْتُمْ كَثِيرًا) أشار به إلى قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [الأنعام:128] وفسَّره بقوله: «أضللتم كثيرًا». وصله ابن أبي حاتم كذلك وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ : {قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ} بمعنى: أضللتم منهم كثيرًا. وكذلك قال مجاهدٌ والحسن وقَتَادة.
          ({ذَرَأ}) وفي رواية أبي ذرٍّ زيادة قوله: <{مِمَّا ذَرَأَ}> ({مِنَ الْحَرْثِ}: جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ وَمَالِهِمْ نَصِيبًا، وَلِلشَّيْطَانِ وَالأوْثَانِ نَصِيبًا) أشار به إلى قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام:136] وفسَّر قوله: {ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ} إلى آخره بقوله: «جَعَلُوا لِلَّهِ»... إلى آخره.
          وهكذا رواه ابنُ المنذر بسنده عن ابن عبَّاس ☻ ، وكذلك رواه ابنُ أبي حاتم عن ابن عبَّاس ☻ ، وزاد: فإن سقط من ثمرة ما جعلوا لله في نصيب الشَّيطان تركوه، وإن سقط ممَّا جعلوا للشَّيطان في نصيب الله لفظوه.
          وروى عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ قال:كانوا يُسمُّون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم جزءًا فما ذهبت به الرِّيح ممَّا سَمَّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وقالوا: الله غنيٌّ عن هذا، وما ذهبت به الرِّيح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه.
          ورُوي: أنَّهم كانوا يصرفون ما عيَّنوه لله إلى الضِّيفان والمساكين، والَّذي لأوثانهم ينفقونها على سدنتها، ثمَّ إن رأوا ما عيَّنوه لله أزكى بدلوه لآلهتهم، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبًّا لها، وفي قوله تعالى: {مِمَّا ذَرَأَ} تنبيهٌ على فرط جهالتهم، فإنَّهم أشركوا الخالق في خلقه جمادًا لا يقدر على شيءٍ، ثمَّ رجَّحوه عليه بأن جعلوا الأزكى له.
          وقد تقدَّم في «أخبار الجاهلية» [خ¦3524] قول ابن عبَّاس ☻ : إن سرَّك أن تعلمَ جهل العرب فاقرأ ما فوقَ الثلاثين ومائة من سورة الأنعام؛ يعني: هذه الآية وما بعدها من الآيات، والأنعام هي التي سمَّى الله تعالى البحيرة والسَّائبة، كما تقدَّم تفسيرها في المائدة [خ¦4623].
          ({أَكِنَّةً} وَاحِدُهَا كِنَان) ثبت هذا لأبي ذرٍّ عن المستملي، وهو متأخِّرٌ في بعض النُّسخ، وأشار به إلى قوله تعالى: {أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} وقبله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25] ثمَّ قال: «واحدها كِنان»، على وزن فعال مثل: أعِنّة، جمع: عِنان، وأسنَّة جمع: سِنان، / والكنان: هو ما يستر الشَّيء. وفي التَّفسير: أكنة؛ أي: أغطية لئلَّا يفهموا القرآن {وَجَعَلْنَا فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي: صممًا من السَّماع النَّافع لهم.
          ({أمَّا اشْتَمَلَتْ}: يَعْنِي هَلْ تَشْتَمِلُ إِلا عَلَى ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى، فَلِمَ تُحَرِّمُونَ بَعْضًا وَتُحِلُّونَ بَعْضًا؟) كذا وقع لغير أبي ذرٍّ، وهو أصوبُ لإردافه على تفاسير ابن عبَّاس ☻ ، فقد وصله ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاسٍ ☻ مثله هنا، وهذه التَّفاسير التي ذكرت هنا وقع بعضها متقدِّمًا، وبعضها متأخرًا، وبعضُها غير موجودٍ في النسخ التي رأيناها، وفي النُّسخة التي اعتمدنا عليها وقعت كما أثبتنا، وقد أشار بقوله: ((أما اشتملت)) إلى قوله تعالى: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام:143] وفسَّره بقوله: «يعني هل تشتملُ _يعني: الأرحام_ إلَّا على ذكرٍ أو أنثى فلم تُحرِّمون بعضًا وتحلُّون بعضًا».
          ووقع عند كثيرٍ من الرُّواة: فلم تُحرِّموا، ولم تُحلِّوا بغير نون فيهما، وحذف النون بغير ناصب ولا جازم لغة، وكان المشركون يحرمون أجناسًا من النَّعم بعضها على الرِّجال والنِّساء، وبعضها على النِّساء دون الرِّجال، فاحتجَّ الله عليهم بقوله: {قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام:144] الآية، فالَّذي حرَّمتم بأمرٍ معلومٍ من جهة الله تعالى يدلُّ عليه، أم فعلتم ذلك كذبًا على الله تعالى.
          وقال الفرَّاء: أجاءكم التَّحريم فيما حرَّمتم من السَّائبة والبحيرة والوصيلة والحامي من قبل الذَّكرين أم الأنثيين، فإن قالوا: من قبل الذَّكر لزم تحريم كلُّ ذكرٍ، أو من قبل الأنثى فكذلك، وإن قالوا: من قبل ما اشتملت عليه الرَّحم لزم تحريم الجميع؛ لأنَّ الرَّحم لا يشتمل إلَّا على ذكرٍ، أو أنثى، فهو ردٌّ عليهم في قولهم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139] فليتأمَّل.
          ({مَسْفُوحًا}: مُهْرَاقًا) ثبت هذا في رواية الكُشميهني، وأشار به إلى قوله تعالى: {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] وفسَّره بقوله: «مهراقًا»؛ أي: مصبوبًا كالدَّم في العروق لا كالكبد والطِّحال، وهو تفسير أبي عبيدة في قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} قال: مهراقًا مصبوباً، ومنه قولهم: سفح الدَّمع؛ أي: سال. وقال العوفي: عن ابن عبَّاس ☻ أيضًا: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} يعني: مهراقًا.
          ({صَدَفَ}: أعْرَضَ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام:157] الآية وفسَّر: {صَدَفَ} بقوله: «أعرض»، وعن ابن عبَّاس ☻ / ومجاهد وقَتَادة: {وَصَدَفَ عَنْهَا} أعرض عنها؛ أي: عن آيات الله. وقال السُّدِّي: أي: صدف عن اتِّباع آيات الله؛ أي: صرف النَّاس وصدهم عن ذلك. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام:46] أي: يُعرضون، يُقال: صدف عنِّي بوجهه؛ أي: أعرض، وروى عبد الرَّزَّاق عن معمر عن قَتَادة في قوله: {يَصْدِفُونَ} أي: يُعرضون عنها.
          (أُبْلِسُوا: أُويِسُوا) كذا في رواية الكُشميهني على البناء للمفعول، وفي رواية غيره: <أَيِسو> بفتح الهمزة وكسر الياء بغير واو على البناء للمعلوم، وأشار به إلى قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:45] وفسَّر: أُبْلسوا بقوله: «أُويسوا»، وأشار بتفسيره إلى أنَّ معنى قوله: {مُبْلِسُونَ} من ذلك، وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} المبلس: الحزين النَّادم. قال رؤبة بن العجاج: وفي الوجوه صُفْرةٌ وإبلاسٌ؛ أي: اكتئابٌ وحزنٌ. وقال الفرَّاء: المبلس: البائسُ (1) المنقطع رجاؤه، ولذلك يُقال للذي انقطعت حجَّته فلا يُجيب قد أَبْلس، قال العجاج:
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا دَارِسًا                     قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
          وتفسير: المبلس بالحزين وبالبائس متقاربٌ.
          (وَ{أُبْسِلُوا}: أُسْلِمُوا) على البناء للمفعول فيهما، وأشار به إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام:70] بتقديم السين على اللام، وفسَّره بقوله: «أُسلموا»؛ أي: إلى الهلاك. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا}؛ أي: أُسْلِموا، وقوله في الآية الأخرى {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} [الأنعام:70] أي: تُرتهنَ وتُسلم. قال عوف بن الأحوص(2) :
وَإِبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ
          وروى معمر عن قَتَادة في قوله: {أَنْ تُبْسَلَ} قال: تُحبس. وقال الحسن: أي: تُسْلم؛ أي: إلى الهلاك. أخرجه عبد الرَّزَّاق.
          ({سَرْمَدًا}: دَائِمًا) كذا وقع هنا، ولا مناسبة في ذكره هنا إذ ليس هذا في هذه السُّورة، وإنَّما هو في سورة القصص. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القصص:71] {سَرْمدًا} دائمًا، وكلُّ شيءٍ لا ينقطع فهو سرمدٌ. وقال الكرماني: كأنَّه ذكره هنا لمناسبة قوله تعالى في هذه السُّورة {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام:96] وفيه بُعْد.
          ({اسْتَهْوَتْهُ}: أضَلَّتْهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} [الأنعام:71] وفسَّره بقوله: «أضلَّته»، وهو تفسير قَتادة أخرجه عبد الرَّزَّاق. وقال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} وهو الَّذي تُشبِّه له الشَّياطين فيتَّبعها حتَّى يهوي في الأرض فيضل. / ({تَمْتَرُونَ}: تَشُكُّونَ) أشار به إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2] وفسَّره بقوله: «تشكون». قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أي: تشكُّون، وكذا أخرجه الطَّبري من طريق أسباط عن السُّدِّي.
          ({حُسْبَانًا} جَمْعُ حِسَابٍ) كذا في بعض النُّسخ وعليه شرح العيني، وسقط في أكثرها، واقتصر على قوله: يُقال على الله...إلى آخره (يُقَالُ: عَلَى اللَّهِ حُسْبَانُهُ؛ أيْ: حِسَابُهُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام:96] وقال: هو جمع: حساب، وتقدم هذا في «بدء الخلق» [خ¦56/4-4984]، وروى عبد الرَّزَّاق عن معمر عن قَتَادة في قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} قال: يدوران في حساب.
          وفي التَّفسير: أي: يجريان بحسابٍ مقنن مقدَّرٍ لا يتغيَّر ولا يضطرب، بل لكلٌّ منهما له منازل يسلكها في الصَّيف والشِّتاء، فيترتَّب على ذلك اختلاف اللَّيل والنَّهار طولًا وقصرًا. وعن الأخفش قال: حسبان جمع: حساب مثل: شُهْبان وشهاب.
          (وَيُقَالُ: {حُسْبَانًا}: مَرَامِيَ) أي: سهامًا (وَ{رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}) قد وقع هذا في بعض النُّسخ قبيل باب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] قبل قوله: مستقرٌّ في الصُّلب، وكذا قوله: {تَعَالَى}: علا، وقع هناك.
          وقد مضى الكلام فيه في «بدء الخلق» في باب «صفة الشَّمس والقمر» [خ¦59/4-4984].
          ({تَعَالَى}: عَلَا) أشار به إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100] وفسَّر قوله: {تَعَالَى} بقوله: «علا»، ووقع في «مستخرج أبي نعيم» تعالى الله: علا الله. وكذا في رواية النَّسفي، وفي التَّفسير: سبحان الله تعالى؛ أي: تقدَّس وتنزَّه وتعاظم عمَّا يصفه الجهلة الضَّالُّون من الأولاد والأنداد والنُّظراء والشُّركاء.
          (وَقْرٌ: صَمَمٌ) قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25] أي: الثِّقل والصَّمم وإن كانوا يسمعون لكنَّهم صُمٌّ عن الحقِّ والهدى. وقال معمر عن قَتَادة في قوله: {عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا} قال: يسمعونه بآذانهم ولا يَعُون منه شيئًا كمثل البهيمة تسمع القول ولا تدري ما يُقال لها، وقرأ الجمهور بفتح الواو، وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها.
          (وَأمَّا الْوِقْرُ: فَإِنَّهُ الْحِمْلُ) أي: وأما الوِقر _بكسر الواو_ فهو الحِمل هو قول أبي عبيدة ذكره متَّصلًا بما قبله لبيان الفرق بين مفتوح الواو ومكسورها، فقال: والوِقر: الحمل إذا كسرته. وأفاد الرَّاغب: أنَّ الوِقر هو حملُ الحمار، والوَسقُ: حمل الجمل. والمعنى على قراءة الكسر أنَّ في آذانهم شيئًا يسدُّها عن استماع القول ثقيلًا كوقر البعير. ثمَّ إنَّ قوله: <وقر: صمم...> إلى آخره، سقط في رواية غير أبي ذرٍّ، وفي بعض النُّسخ ثبت بعد قوله: {أَكِنَّةً} واحدها كنان، وعلى هذه النُّسخة شرح الحافظ العسقلَّاني وهو المناسب.
          ({أسَاطِيرُ}: وَاحِدُهَا أُسْطُورَةٌ وَإِسْطَارَةٌ، وَهِيَ التُّرَّهَاتُ) أشار به إلى قوله تعالى: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام:25] وذكر أنَّ واحدها أُسْطُورة _بضم الهمزة وسكون السين / وضم الطاء_ وإِسطَارة _بكسر الهمزة وفتح الطاء وبعدها ألف_ ثمَّ فسَّرها بقوله: «وهي التُرَّهات» _بضم الفوقية وتشديد الراء_؛ أي: الأباطيل، قال أبو زيد: هو جمع تُرَهة، وأصله: بنيان الطَّريق. وقال ابنُ الأثير: وهي في الأصل الطُّرق الصِّغار المتشعِّبة عن الطَّريق الأعظم، وهي كنايةٌ عن الأباطيل.
          وقال الأصمعي: التُّرهات: الطرق الصِّغار، وهي فارسيَّةٌ معربةٌ، ثمَّ استعير للباطلِ، فقيل: التُّرَّهات: البَسابس، والتُّرَّهات الصَّحاصح، وهو من أسماء الباطل وربما جاء مضافًا.
          وقال الجوهري: وناسٌ يقولون تُرَّة، والجمع: تراريه، وقيل: إن تاءها منقلبةٌ من واو أصلها الوره وهو الحمقُ.
          (الْبَأْسَاءُ: مِنَ الْبَأْسِ، وَيَكُونُ مِنَ الْبُؤْسِ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} [الأنعام:42]، وأشار إلى أنَّه يجوز أن يكون من البأس، وهو الشِّدَّة، وأن يكون من البُؤس _بالضم_ وهو الضُّرُّ، وقيل: هو الفقر وسوء الحال. وقال الدَّاودي: البأس القتال. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} هي البأس من الخوف والشر والبؤس.
          ({جَهْرَةً}: مُعَايَنَةً) أشار به إلى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} [الأنعام:47] البغتة: الفجاءة، والجهرة: المعاينة، وكذا فسَّره أبو عبيدة.
          (الصُّورُ: جَمَاعَةُ صُورَةٍ، كَقَوْلِهِ: سُورَةٌ وَسُوَرٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام:73] وذكر أنَّ الصُّور جمع: صورة كما أنَّ السُّور جمع: سورة. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} يقال: إنَّها جمع صورةٍ تنفخ فيها روحها فتحيى بمنزلة قوله: سور المدينة واحدها سورة قال النَّابغة:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُوْرَةً                     تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
          انتهى.
          وقد أغرب الإمام القسطلاني: حيث ضبط الصوَر _بفتح الواو_.
          وقد اختلف المفسِّرون في قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فقال بعضهم: المراد بالصُّور هنا جمع: صورة؛ أي: يوم يُنفخ فيها. قال ابن جرير: كما يقال: سور لسور البلد، وهو جمع سورةٍ، والصَّحيح الثَّابت في الحديث أنَّ الصُّور هو القرن الَّذي ينفخُ فيه إسرافيل ◙. /
          وقال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل: حدثنا سليمان التَّيمي عن أسلم العجلي عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو قال: قال أعرابيٌّ: يا رسول الله ما الصُّور؟ قال: ((قَرْنٌ يُنفخ فيه)): وهو واحدٌ لا اسم جمعٍ. وحكى الفرَّاء الوجهين وقال في الأول: فعلى هذا فالمراد النَّفخ في الموتى.
          وسيأتي التَّفصيل في ذلك في كتاب «الرقاق» [خ¦6517] إن شاء الله تعالى.
          (مَلَكُوتٌ: مُلْكٌ، مِثْلُ: رَهَبُوتٍ خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، وَيَقُولُ: تُرْهَبُ خَيْرٌ مِنْ أنْ تُرْحَمَ) كذا في رواية غير أبي ذرٍّ، وفي رواية أبي ذرٍّ: <ملكوت ومُلْك رهبوت رحموت، وتقول: تُرْهب خيرٌ من أن تُرْحم>، وفيه تعسُّفٌ وتشويشٌ، والأوَّل هو الصَّواب، وأشار به إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:75] وفسَّر {مَلَكُوتَ} بقوله: مُلْك، وأشار إلى أنَّ وزنه رهبوت ورحموت، ويوضِّحه كلام أبي عبيدة، فإنَّه قال في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مُلْك السَّموات، خرجت مخرجَ قولهم في المثل: رهبوت خيرٌ من رحموت؛ أي: رهبةٌ خيرٌ من رحمة، انتهى.
          وقال الجوهري: الملكوت من المُلْك، كالرَّهبوت من الرَّهبة، ويُقال: الواو والتاء فيها زائدتان.
          وقال المفسِّرون: ملكوت كلِّ شيءٍ معناه: ملك كلِّ شيءٍ؛ أي: هو مالك كلِّ شيءٍ، والمتصرِّف فيه على حسب مشيئته ومقتضى إرادته، وقيل: الملكوت الملك بأبلغ الألفاظ، وقيل: الملكوت عالم الغيب كما أنَّ الملك عالم الشَّهادة، وقد قرأ الجمهور: ((ملَكوت)) بفتح اللام، وقرأ أبو السِّمال بسكونها، وقيل: هي بالنَّبطية: مَلْكوثا؛ أي: بسكون اللام وبالمثلثة وبزيادة الألف. وعلى هذا يحتمل أن تكون الكلمة معرَّبة، والأولى ما تقدم أنَّها مشتقَّةٌ من ملك، كما ورد مثله من رهبوت وجبروت، والله تعالى أعلم.
          ({جَنَّ}: أظْلَمَ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] وفسَّره بقوله: «أظلم»، وعن أبي عبيدة: أي: غطَّى عليه وأظلم، وما جنَّك من شيءٍ فهو جنانٌ لك؛ أي: غطاءٌ، وهذا في قصَّة إبراهيم ◙.
          ({مُسْتَقَرٌّ}: فِي الصُّلْبِ {وَمُسْتَوْدَعٌ}: فِي الرَّحِمِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام:98] / وقد فسَّر بأنَّ معنى مستقرٌّ في الصُّلب ومستودعٌ في الرَّحم. ومثله قول أبي عبيدة: فمستقرٌّ في صلب الأبِ، ومستودعٌ في رحم الأم.
          وكذا أخرجه عبد بن حميد من حديث محمَّد بن الحنفيَّة، وهذا موافقٌ لما عند المصنِّف، وكذا روي عن ابن مسعودٍ وطائفة. وقال معمر عن قَتادة: مستقرٌّ في الرَّحم، ومستودعٌ في الصُّلب، أخرجه عبد الرَّزَّاق.
          وأخرج سعيد بن منصور من حديث ابن عبَّاس ☻ مثله بإسنادٍ صحيحٍ وصححه الحاكم، وكذا روي عن أبي عبد الرَّحمن السَّلمي وقيس بن أبي حازم ومجاهد وعطاء والنَّخعي والضَّحَّاك والسُّدِّي وعطاء الخراساني.
          وأخرج عبد الرَّزَّاق عن ابن مسعودٍ ☺ أيضًا قال: مستقرَّها في الدُّنيا، ومستودعها في الآخرة، وعنه أيضًا: مستودع حيث يموت، وعن الحسن: فالمستقرُّ الَّذي قد مات فاستقرَّ به عمله.
          وعند الطَّبراني من حديث ابن مسعودٍ ☺: المستقر الرَّحم، والمستودع الأرض، ثمَّ إنَّه قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ((فمستقِر)) بكسر القاف، والباقون بفتحها، وقرأ الجميع مستودَع بفتح الدال إلَّا روايةٌ شاذَّة عن أبي عمرو.
          (الْقِنْوُ: الْعِذْقُ، وَالاِثْنَانِ: قِنْوَانِ، وَالْجَمَاعَةُ أيضًا قِنْوَانٌ، مِثْلُ: صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام:99] وفسَّره بقوله: «العِذْق»، وهو بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة وآخره قاف، العرجون بما فيه من الشَّماريخ، ويُجمع على عذاق، والعَذق _بالفتح_: النَّخلة.
          وقوله: «والاثنان قنوان، والجماعة أيضًا قنوان»؛ يعني: أنَّ تثنية القنو: قنوان، وكذلك جمعه: قِنوان فيستوي فيه التثنية والجمع في اللفظ حالة الرَّفع والوقف. ويقع الفرق بينهما بأنَّ نون التثنية مكسورةٌ في الوصل، ونون الجمع يجري فيه أنواع الإعراب، وكذلك يتنقلبُ ألف التثنية ياء، وفي النصب والجرِّ بخلاف ألف الجمع، وكذا يقعُ الفرق بينهما في الإضافة فإنَّ نون التثنية تسقطُ بالإضافة دون الجمع.
          وقوله: «مثل صنو وصِنوانْ» يعني: أنَّ تثنية صنو وجمعه كذلك / على لفظٍ واحدٍ، والفرقُ بينهما بما ذكر، وهو بكسر الصاد المهملة وسكون النون، هو المثلُ، وأصله أن تطلعَ نخلتان من عرقٍ واحدٍ.
          قال الحافظُ العسقلاني: لم نجد لفظين وقع الاشتراك اللَّفظي بينهما غير هذين، ثمَّ إنه وقع هكذا في رواية غير أبي ذرٍّ، وفي روايته وقع صنوان مكررًا.
          وقد وقع هنا في رواية أبي ذرٍّ وحده: <{وَإِنْ تَعْدِلْ} تُقْسط، ولا يقبل منها في ذلك اليوم>، وأشار به إلى قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام:70] وفسَّر {تَعْدِلْ} بقوله: «تُقسط» _بضم التاء_ من الإقساط، وهو العدل، والضَّمير في «وإن تعدل» يرجع إلى النَّفس الكافرة المذكورة فيما قبله، وفسَّر أبو عبيدة العدل: بالتَّوبة.
          وقوله: «لا يُقبل منها في ذلك اليوم»، يعني: يوم القيامة تفسيرٌ لقوله: {لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} وذلك لأنَّ التَّوبة إنَّما كانت تنفع في حال الحياة الدُّنيا قبل الموت، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91] الآية
          ثمَّ إنَّ هذه التَّفاسير المذكورة هنا قد تقدَّم بعضها على بعضٍ في بعض النُّسخ، وتأخَّر في أخرى، وسقط بعضُها في بعضها، فقيل: هذا الاختلاف من النُّسَّاخ، والظَّاهر أنَّه من المصنِّف فإنَّه ☼ كتب التراجم أولًا، ثمَّ كتب في كلِّ ترجمةٍ ما يُطابقها ممَّا ظفرَ به من الآثار والأحاديث على شرطه، ومن ثمة بقي بعض التَّراجم بلا حديثٍ ولا أثر، والله تعالى أعلم.


[1] كذا في الفتح، وفي معاني القرآن للفراء (اليائس).
[2] انظر هامش الأصل: عسقلاني.