نجاح القاري لصحيح البخاري

{فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا}

          ░3▒ (باب قَوْلِهِ) وسقط هذا في رواية غير أبي ذرٍّ ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}) كذا في الأصول، وزعم ابن التِّين وتبعه بعض الشُّرَّاح المتأخِّرين أنَّه / وقع هنا: فإن لم تجدوا ماءً، ورُدَّ عليه بأنَّ التِّلاوة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}. وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطف على ما قبله، والمعنى: أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النِّساء، فطلبتم الماء لتتطهَّروا به فلم تجدوه بثمنٍ ولا بغيره.
          ({فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}) أي: ترابًا طاهرًا، ولعلَّ ذكر الكلام في التَّيمم ثانيًا لتحقيق شموله للجنب والمحدث حيث ذكر عقيب قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فإنَّه نقل عن عمر وابن مسعود ☻ عند ذكر الأولى التَّخصيص بالمحدث (تَيَمَّمُوا: تَعَمَّدُوا) أشار به إلى أنَّ معنى قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا} تعمدوا؛ لأنَّ معنى التَّيمم في اللُّغة القصد، والعمدُ هو القصد، وكذا روي عن سفيان رواه ابن المنذر عن زكريا: حدثنا أحمد بن خليل: حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عنه. وقد سقط هذا في رواية غير المستملي.
          ({آمِّينَ}: عَامِدِينَ، أمَّمْتُ وَتَيَمَّمْتُ وَاحِدٌ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] وفسَّر: {آمِّينَ} بقوله: «عامدين»؛ أي: قاصدين؛ لأنَّه من الأم وهو القصد؛ أي: ولا تستحلُّوا قتال آمين البيت الحرام الذي من دخله كان آمنًا، وقوله: «أمَّمْتُ وتَيَمَّمْتُ واحدٌ»؛ أي: في المعنى قال الشَّاعر:
إِنِّي كَذَاكَ إِذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ                     يَمَّمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدًا
          وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي: فتعمَّدوا، وقال في قوله تعالى: {وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي: ولا عامدين، ويُقال: أممت، وبعضهم يقول: يممت، وقرأ الأعمش: (▬ولا آمي البيت الحرام↨)، بحذف النون مضافًا كقوله: {مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة:1].
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَسْتُمْ وَ{تَمَسُّوهُنَّ} وَ{اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَالإِفْضَاءُ: النِّكَاحُ) أشار به إلى أنَّ معنى الألفاظ الأربعة في القرآن واحد وهو النِّكاح؛ أي: الوطء، وقوله: «لمستم» في محل الرفع على الابتداء بتقدير: قوله: لمستم، وما بعده عطفٌ عليه، وقوله: «النِّكاح» مرفوع على أنه خبر، وقد ذكر هذا عن ابن عبَّاس ☻ بطريق التَّعليق، وقد وصل قوله: «لمستم» إسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» من طريق مجاهد عن ابن عبَّاس ☻ / في قوله تعالى: ((أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ)) قال: هو الجماع.
          وروى ابن المنذر: حدثنا محمد بن علي: حدثنا سعيد: حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بشر عن ابن جُبير عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ اللَّمس والمسَّ والمباشرة: الجماع. وأخرج ابنُ أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير عنه بإسنادٍ صحيحٍ نحوه. وقال ابن أبي حاتم في «تفسيره»: وروي عن عليِّ بن أبي طالب وأبي بن كعب ومجاهد والحسن وطاوس وعبيد بن عُمير وسعيد بن جُبير والشَّعبي وقَتَادة ومقاتل نحو ذلك.
          وأخرج عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قَتَادة عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: هو الجماع، ولكنَّ الله يعفُّ ويُكنِّي. وقرأ حمزة والكسائي، وكذا الأعمش ويحيى بن وثاب: ({لمستم}) بحذف الألف، وقرأ الحرميان وأبو عَمرو وابن عامر وعاصم: {لَامَسْتُمْ} بالألف.
          وأمَّا {تَمَسُّوهُنَّ} فروى ابنُ أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:236] أي: تنكحوهنَّ. ووصله ابن المنذر أيضًا، وقد مرَّ الآن.
          وأمَّا قوله: {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فروى ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}[النساء:23] قال: الدُّخول النِّكاح.
          وأمَّا قوله: «والإفضاء»: فروى ابن أبي حاتم من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] قال: الإفضاء: الجماع، وروى عبد بن حميد من طريق عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: الملامسة والمباشرة والإفضاء والرَّفث والغشيان والجماع كلُّه النِّكاح، ولكنَّ الله يُكنِّي.
          وروى عبد الرَّزَّاق من طريق بكرٍ المزني عن ابن عبَّاس ☻ قال: إنَّ الله حيي كريمٌ يُكني عمَّا شاء، فذكر مثله لكن قال: التَّغشِّي بدل: الغشيان. وإسناده صحيحٌ، قال الإسماعيلي: أراد بالتغشِّي قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] وسيأتي شيءٌ من هذا في «النكاح».