نجاح القاري لصحيح البخاري

{قل هو الله أحد}

          ░░░112▒▒▒ (سُوْرَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <سورة الصمد>، ويُقال لها: سورة الإخلاص، وهي مكيَّةٌ، وقيل: مدنيَّة، وهي سبعة وأربعون حرفًا، وخمس عشرة كلمة، وأربع آيات.
          وجاء في سبب نزولها من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب ☺: أنَّ المشركين قالوا للنَّبي صلعم : انسبْ لنا ربك، فنزلت. أخرجه الترمذي والطَّبري وفي آخره قال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ}؛ لأنَّه ليس شيءٌ يولد إلَّا سيموت، ولا شيءٌ يموت إلَّا يورث، وربُّنا لا يموتُ ولا يُورث، ولم يكن له كفوًا أحد شبيهٌ، ولا عدل.
          وأخرجه التِّرمذي من وجهٍ آخر عن أبي العالية مرسلًا، وقال: هذا أصحُّ.
          وصحَّح الموصول ابن خُزيمة والحاكم، وله شاهدٌ من حديث جابرٍ ☺ عند أبي يعلى والطَّبري والطَّبراني في «الأوسط». ويُقال: الَّذي قال للنَّبي صلعم : انسبْ ربَّك، هو كعبُ بن الأشرف، أو مالك بن الصَّعب، أو عامر بن الطُّفيل العامري، والله تعالى أعلم.
          (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ.
          (يُقَالُ: لاَ يُنَوَّنُ {أَحَدٌ}) أي: قد يحذف التنوين من أحدٍ حال الوصل، فيُقال: أحد الله بحذف النون؛ لالتقاء الساكنين. ورويت: بغير تنوين أيضًا عن نصر بن عاصم، / ويحيى بن أبي إسحاق وزيد بن أبي علي وأبان بن عثمان والحسن، ورويت عن أبي عمرو أيضًا في رواية، وهذا كقول الشاعر:
عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ                     وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
          وقول آخر:
وَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ                     وَلَا ذَاكِر اللَّهَ إِلَّا قَلِيْلًا
          على إرادة التَّنوين فحذف لالتقاء الساكنين فبقي الله منصوبًا لا مجرورًا للإضافة، وذاكر جر عطف على مستعتب؛ أي: راجعٌ بالعتاب من قبح ما فعل.
          وقال الفرَّاء: الذي قرأ بغير تنوين يقول: النون نون إعراب إذا استقبلتها الألف واللام حذفت، وليس ذلك بلازم. انتهى. وقال الدَّاودي: إنما حذف التنوين لالتقاء السَّاكنين وهي لغة.
          (أَيْ وَاحِدٌ) تفسيرٌ لقوله: أحد، يريد أن أحدًا وواحد بمعنى، وهمزة أحد بدل من واو أصله: وَحَد بفتحتين، فأبدلت الواو همزة، وأكثر ما يكون في المكسورة والمضمومة كوجوه ووسادة، قاله ابنُ الأنباري، وهذا قول بعضهم. والصَّحيح: الفرق بينهما من حيث اللَّفظ، والمعنى: أمَّا من حيث اللَّفظ فمن وجوه:
          الأول: أن أحدًا لا يستعملُ في الإثبات في غير الله تعالى، فيُقال: الله أحد، ولا يُقال: زيد أحد، كما يُقال: زيد واحد، وكأنَّه [بُني] لنفي ما يذكر معه من العدد.
          والثاني: أنَّ نفيه يعمُّ ونفي الواحد قد لا يعمُّ، ولذلك صحَّ أن يقال: ليس في الدَّار واحدٌ، بل فيها اثنان، ولا يصحُّ ذلك في أحدٍ، ولذلك قال تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32]، ولم يقل: كواحدة.
          والثالث: أنَّ الواحد يفتتحُ به العدد ولا كذلك الأحد.
          والرابع: أنَّ الواحدَ يلحقه التاء بخلاف الأحد.
          وأمَّا من حيث المعنى فمن وجوه أيضًا:
          الأول: أنَّ أحدًا من حيث الثناء أبلغ من واحد، وكأنَّه من الصِّفات المشبهة التي بنيت لمعنى الثبات، ويشهد له الفروق اللَّفظية.
          والثاني: أنَّ الواحد يُطلق ويراد به الواحد بالعدد وعدم النَّظير كوحدة الشَّمس، وأكثر استعماله في المعنى الأول. وأمَّا الأحد فأغلبُ استعماله في المعنى الثاني، ولذلك لا يجمع. قال الأزهريُّ: سُئل أحمد بن يحيى عن الآحاد أنَّه جمع أحدٍ، فقال: معاذَ الله / ليس للأحدِ جمع. ولا يبعدُ أن يقال: جمع واحدٍ كالأشهادِ في جمع شاهد، ولا يفتتحُ به العدد.
          والثالث: ما ذكره بعضُ المتكلمين في صفاته تعالى خاصَّةً، وهو أنَّ الواحد باعتبار الذات، والأحد باعتبار الصِّفات، وحظ العبد أن يغوص في لجة التوحيد، ويستغرق فيه حتَّى لا يرى من الأزل إلى الأبد غير الواحد الصمد.
          وقال الشَّيخ أبو بكر بن فورك: الواحدُ في وصفه تعالى له ثلاث معان:
          أحدها: أنَّه لا قسم لذاته وأنَّه غير متبعِّض ولا متحيِّز.
          والثاني: أنَّه لا شبيه له، والعرب تقول: فلانٌ واحد عصره؛ أي: لا شبيه له.
          والثالث: أنَّه واحدٌ على معنى أنَّه لا شريك له في أفعاله يقال: فلان متوحِّدٌ في هذا الأمر؛ أي: ليس يشركه فيه أحد.
          ثمَّ قوله «هو» فيه وجهان:
          أحدهما: أنَّه راجعٌ إلى ما يُفهم من السِّياق؛ لما جاء في سبب نزولها عن أبي بن كعب ☺: أنَّ المشركين قالوا للنَّبي صلعم : انسب لنا ربَّك، فنزلت كما تقدَّم. وحينئذٍ يكون {اللَّهُ} مبتدأ و{أَحَد} خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون {اللَّهُ} بدلًا و{أَحَد} الخبر، وأن يكون {اللَّهُ} خبرًا أوَّل و{أَحَدْ} خبرًا ثانيًا، وأن يكون {أَحَد} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أحد.
          والثاني: أنَّه ضمير الشأن؛ لأنَّه موضع، تعظيمٍ، والجملة بعده خبره مفسرة.