نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب الذبائح والصيد

          (╖) رقم في الفرع وأصلِه على البسملة علامة سقوطها في رواية أبي ذرٍّ، وفي «فتح الباري»: ثبوتها لأبي الوقت سابقة على اللَّاحق، وبعده للنَّسفي.
          ░░72▒▒ (كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ، وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الصَّيْدِ) هكذا وَقَعَ في رواية الأَصيلي وكريمة وأبي ذرٍّ في رواية، وفي أُخرى له ولأبي الوقت: <باب> بدل: كتاب، وفي رواية ابن عساكر: <باب التَّسمية على الصَّيد>. والذَّبائح: جمع ذبيحة بمعنى مذبوحة، والصَّيدُ مصدر من صاد يَصِيد صَيْداً، فهو صائد وذاك مصيد، وقد أُطْلِقَ على المصيد نفسه تسمية بالمصدر، كما في قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1]. قيل: لا يقال للشَّيء صيد حتَّى يكون ممتنعاً حلالاً لا مالك له، والمراد في هذه التَّرجمة أحكام المصيد أو أحكام الصَّيد الذي هو المصدر.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيْكُم وَرِمَاحُكُم} [المائدة:94] الآية) كذا في رواية ابن عساكر، وفي رواية غيره: بعد قوله: {مِنَ الصَّيْدِ} <إلى قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ}>. ومعنى: يبلو: يختبر، وهو من الله تعالى لإظهار ما عَلِمَ من العبد على من لم يَعْلَم، ومن للتَّبعيض، إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس، و{تَنَالُهُ} صفة شيءٍ.
          وتمام الآية: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94] أي: فمَن اعتدى بعد الإعلام والإنذار فله عذابٌ أليمٌ لمخالفةِ أمر الله وشرعِهِ، والآية نزلت في عُمرة الحديبية، فكانت الوحشُ والطَّير والصَّيد تغشاهُم في رحالهم يتمكَّنون من أخذِهِ بالأيدي والرِّماح جَهْراً وسِرّاً لتظهر طاعة من يُطيع منهم في سرِّه وجهره.
          وعن ابن عبَّاس ☻ قال: «هو الضَّعيف من الصَّيد وصغيره / يبتلي الله به عبادَهُ في إحرامهم حتَّى لو شاؤوا لتناولوه بأيديهم فنهاهُم الله تعالى أن يقربوه». قال مجاهد: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة:94] يعني: صغار الصَّيد وفراخه {وَرِمَاحُكُمْ} يعني: كباره.
          (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ}) البهيمة: كلُّ ذات أربع قوائم في البرِّ والبحر. وقال الحسن وقتادة: هي الإبلُ والبقر والغنم؛ يعني: هي الأزواجُ الثَّمانية، وقيل: {بَهِيمَةَ الأَنْعَامِ} الظَّباء وبقر الوحش ونحوها، وإضافتها إلى الأنعام للبيان ({إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}) استثناء من قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} [المائدة:1]. قال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ يعني بذلك الميتة والدَّم ولحم الخنزير إلى قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ} [المائدة:3] فإنَّ هذه وإن كانت من الأنعام إلَّا أنَّها تحرم بهذه العوارض، ولهذا قال: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] وما ذُبح على النُّصب فإنَّه حرامٌ لا يمكن استدراكُه. وتمام الآية قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1] نصب على الحال، والمراد بالأنعام ما يعمُّ الإنسيَّ من الإبل والبقر والغنم والوحشيِّ كالظِّباء ونحوها، فاستثنى من الإنسيِّ ما تقدَّم، واستثنى من الوحشي الصَّيدَ في حال الإحرام، والحُرُمُ جَمْعُ حَرام {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] يعني: إنَّ الله حكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَونِ} [المائدة:3]) وتمام الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} استثنى منها السَّمك والجراد {وَالدَّمُ} يعني: المسفوح {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} سواء كان إنسياً أو وحشيًّا، واللَّحم يعمُّ جميع أجزائه {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي: وما ذُبح وذُكِرَ عليه اسمُ غيرِ الله من صنمٍ أو وثنٍ أو طاغوتٍ أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنَّه حَرام بالإجماع {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وهي التي تموت بالخنق إمَّا قصداً أو اتِّفاقاً بأن تَتَخَبَّلَ في وثاقها فتموت فهي حرام، {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي التي تضرب بشيءٍ ثقيل غير محدود حتَّى تموت، وقال قتادة: كان أهلُ الجاهليَّة يضربونها بالعصا حتَّى إذا ماتت أكلوها {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} وهي التي تقعُ من شاهقٍ فتموت بذلك فتحرم. وعن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّها التي تسقط من جبل»، وقال قتادة: هي التي / تتردَّى في بئر {وَالنَّطِيحَةُ} وهي التي تموت بسبب نطحِ غيرها لها، وإن جرحَها القرنان فسال منها الدَّم ولو من مذبحها {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي: ما عدَا عليها أسدٌ أو فهدٌ أو نمرٌ أو ذئبٌ أو كلبٌ فأكل بعضَها فماتت بذلك فهي حرامٌ بالإجماع، وإن كان قد سالَ منها الدِّماء ولو من مذبحها {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} عائد على ما يتمكَّن عوده عليه ممَّا اتَّفق سبب موته وأمكن تداركه، وفيه حياة مستقرَّة.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «إلَّا ما ذبحتُم من هذه الأشياء، وفيه روح فكلوهُ فهي ذكي»، وكذا روي عن سعيد بن جُبير والحسن البصري والسُّدِّي، ورُوي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضَّحَّاك وغيرُ واحد أنَّ المذكَّاة متى تحرَّكت حركةً تدلُّ على بقاء الرُّوح فيها بعد الذَّبح فهي حلالٌ، وهذا مذهبُ جمهورِ الفقهاء، وبه يقول أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد رحمهم الله.
          {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال مجاهد وابن جريج: كانت النُّصب حجارة حول الكعبة. قال ابنُ جريج: وهي ثلاثمائة وستون نُصُباً كانت العرب في جاهليتها يذبحونَ عندها وينضحونَ ما أقبل منها إلى البيت بدماءِ تلك الذَّبائح ويشرحون اللَّحم ويضعونه على النُّصب.
          {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} أي: وحرِّم عليكم أيُّها المؤمنون الاستقسام بالأزلام، وهو جمع زَلَم، بفتح الزاي واللام، وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوبٌ: افعل، وعلى الآخر: لا تفعلْ، والثَّالث غفل ليس عليه شيءٌ. وقيل: مكتوبٌ على الواحد: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربِّي، والثَّالث غفل ليس عليه شيءٌ، فإذا جاء السَّهم الآمر فعله أو النَّاهي تركه، وإن طلعَ الفارغ أعاد الاستقسام، وقيل: هو استقسامُ الجزور بالأقداحِ على الأنصباءِ المعلومة.
          {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أي: تعاطيه فسقٌ وغيٌّ وضلالٌ وجهالةٌ وشركٌ {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3] يعني: يئسوا أن تراجعوا دينهم. وقيل: يئسوا من مشابهة المسلمين بما يميز به المسلمون من هذه الصِّفات المخالفة / للشِّرك وأهله، ولهذا أمرَ الله عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفَّار، ولا يخافوا أحداً إلَّا الله تعالى فقال: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3] حتَّى أنصركُم عليهم وأظفركُم بهم، وأشفي صُدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدُّنيا والآخرة.
          ثمَّ إنَّ هذه الآيات الثَّلاث في سورة المائدة، وقد اختلفتْ نُسَخُ البُخاريِّ في ترتيب ذِكْرِها، وما ذكرناه رواية أبي ذرٍّ، وقدَّم وأخَّر في رواية كريمة والأَصيلي وزاد بعد قوله: {أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}: <إلى قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94] >. وعند النَّسفي في قوله: <{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة:1] الآيتين>، وكذا لأبي الوقت لكن قال: <إلى قوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3] > وفرَّقهما في رواية كريمةَ والأَصيلي.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (الْعُقُودُ: الْعُهُودُ، مَا أُحِلَّ وَمَا حُرِّمَ) على البناء للمفعول فيهما؛ أي: قال ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] العقود: العهودُ ما أُحلِّ وما حُرِّم، فسَّره به، وحكى ابنُ جرير الإجماع على ذلك. وقال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : العقود: يعني: ما أحلَّ الله وما حرَّم، وما جاء في القرآن كلِّه ولا تغدروا ولا تنكثوا.
          ({إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة:1] مِنَ الْخِنْزِيرُ) أي: قال ابن عبَّاس ☻ في بيان ما يُتلى عليكم من الخنزير، ولفظ ابن أبي حاتم: يعني: الميتة والدَّم ولحم الخنزير، وقد مرَّ تفسيرُه عن قريب ({يَجْرِمَنَّكُمْ} يَحْمِلَنَّكُمْ. {شَنَآنُ} عَدَاوَةُ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة:2] أي: لا يحملنَّكم بغضُ قَوْمٍ على العدوان. وقرأ الأعْمشُ: بضم الياء في (▬يُجْرِمَنَّكُمْ↨) وفسَّر قوله: {شَنَآَنُ} بقوله: عداوة. وقرأ ابن عامر وشعبة: بسكون النون، وأنكر السُّكون من قال: لا يكون المصدر على فعلان، فافهم.
          ({الْمُنْخَنِقَةُ} تُخْنَقُ فَتَمُوتُ) أي: هي التي تُخنق فتموت ({الْمَوْقُوذَةُ} تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ يُوقِذُهَا) من أَوقذ، والموقوذةُ من وَقَذ يقال: وَقَذه وأَوْقَذه، والوَقْذ، بالذال المعجمة في الأصل: الضَّرب المثخن والكَسْرُ. /
          وفي رواية الأَصيلي: <توقَذ> بالفوقيَّة وفتح القاف؛ أي: التي تضرب بعصا أو حجر (فَتَمُوتُ، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} تَتَرَدَّى مِنَ الْجَبَلِ {وَالنَّطِيحَةُ} تُنْطَحُ الشَّاةُ) بضم الفوقية وفتح الطاء، والشَّاة بالرَّفع؛ أي: هي التي تموت بسبب نطح غيرها لها (فَمَا أَدْرَكْتَهُ) بتاء الخطاب حال كونه (يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ) بفتح النون (أَوْ بِعَيْنِهِ، فَاذْبَحْ وَكُلْ) وما لا فلا، وسقط الواو من المترديَّة والنَّطيحةِ في رواية أبي ذرٍّ.