نجاح القاري لصحيح البخاري

{هل أتاك حديث الغاشية}

          ░░░88▒▒▒ (سُوْرَةُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}) وسقط لفظ: <سورة> في رواية غير أبي ذرٍّ، وفي بعض النُّسخ: <سورة {هَلْ أَتَاكَ}>، وفي بعضها: <{هَلْ أَتَاكَ}> فقط، وفي بعضها: <سورة الغاشية> وهي مكيَّةٌ بالإجماع، وهي ثلاثمائة وواحد وثلاثون حرفًا، واثنتان وتسعون كلمة، وست وعشرون آية.
          والغاشية من أسماء يوم القيامة؛ يعني: تغشى كلَّ شيءٍ بالأهوال، قاله أكثر المفسِّرين، وعن محمَّد بن كعب: الغاشية النَّار، دليله قوله تعالى: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50].
          (╖) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ وحدَه.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} النَّصَارَى) أي: فسَّر ابن عبَّاس ☻ قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2-3] بقوله: «النَّصارى»، رواه ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ وزاد: اليهود، وذكره الثَّعلبي من رواية أبي الضُّحى عن ابن عبَّاس ☻ قال: الرُّهبان، وقوله تعالى: {يَوْمَئذٍ} أي: يوم القيامة ((خاشعةٌ)) ذليلةٌ، وقيل: خاشعةٌ في النَّار، وقوله: {عَامِلَةٌ} يعني: في النَّار و{نَاصِبَةٌ} فيها تعمل ما تتعب فيه (1) كجرِّ السَّلاسل، وخوضها في النَّار خوض الإبل في الأرض، والوحل (2) والصُّعود والهبوط في تلالها وواديها، وقيل: إنَّهم عملوا ونصبوا في الدِّين على غير دين الإسلام، فعن الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدُّنيا فأعملها وأنصبها في النَّار بمعالجة السَّلاسل والأغلال، وهي روايةٌ عن ابن عبَّاس ☻ .
          وعن قتادة: تكبَّرت في الدُّنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها وأنصبها في النَّار. وعن الضَّحَّاك: يكلفون ارتقاء جبلٍ من حديد في النَّار، والنَّصب: الدأب في العمل. وعن عكرمة: عاملة في الدُّنيا بالمعاصي ناصبة في النَّار يوم القيامة.
          وعن سعيد بن جُبير، وزيد بن أسلم: هم الرُّهبان / وأصحاب الصَّوامع، وهي روايةٌ عن ابن عبَّاس ☻ .
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عَيْنٍ آنِيَةٍ} بَلَغَ إِنَاهَا، وَحَانَ شُرْبُهَا {حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن :44] بَلَغَ إِنَاهُ) أي: فسَّر {آنِيَةٍ} في قوله تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] بقوله: «بلغ إِنَاها» _بكسر الهمزة وبعد النون ألف غير مهموز_؛ أي: وقتها يُقال: أنى يأني إناء؛ أي: حان.
          وقال الجوهريُّ: أنى الحميمُ؛ أي: انتهى حرُّه، ومنه قوله تعالى: {حَمِيْمٍ آنٍ} وقال أبو ذرٍّ: إناها حينها، وفي الخبر لو وقعت منها قطرةٌ على جبال الدُّنيا لذابت، وقوله: «وحان شربها»؛ أي: أدرك شُربها، وقد وصله الفريابيُّ من طريق مجاهدٍ مفرقًا في مواضعه، ورواه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاءَ عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وعن الحسن البصري: ما ظنُّكَ بقومٍ قاموا لله ╡ على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنةٍ لم يأكلوا فيها أكلةً، ولم يشربوا فيها شربةً حتَّى إذا انقطعتْ أعناقهم عطشًا فاحترقتْ أجوافهم جوعًا انصرفَ بهم إلى النَّار فسقوا من عينٍ آنيةٍ قد أَنَى حرُّها، واشتدَّ نضجُها. وعن قتادة: أَنَى طبخُها منذ خلقَ الله السَّموات والأرض.
          وقال مقاتل: {عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] تخرج من أصل جبل طولها مسيرة سبعين عامًا أسود كدردي الزَّيت، كدرٍّ غليظ كثير الدَّعاميصِ، يسقيهِ إيَّاه الملك في إناءٍ من حديدٍ من نار، إذا جعله على فيه أحرق شدقيه، وتناثرت أنيابه وأضراسه، فإذا بلغ صدره نضجَ قلبه، فإذا بلغ بطنه ذابَ كما يذوبُ الرَّصاص.
          هذا والدَّعاميص جمع: دُعموص، وهي دويبةٌ تكون في مستنقعِ الماء، وهو بالدال والعين المهملتين.
          ({لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية:11] شَتْمًا) أي: لا تسمع في الجنَّة لاغيةً؛ أي: شتمًا؛ أي: فسَّر مجاهد قوله تعالى: {لَاغِيَةً} [الغاشية:11] بقوله: شتمًا، وصله الفريابي أيضًا عن مجاهد.
          وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة: لا تسمع فيها باطلًا ولا مأثمًا، وقيل: كلمة لغو، واللاغية مصدر كالعافية، وقيل: لا تسمع فيها كذبًا وبهتانًا وكفرًا، وقيل: معصية، / وقيل: لا تسمع في كلامهم كلمة تلغى؛ لأنَّ أهل الجنَّة لا يتكلَّمون إلَّا بالحكمة.
          وقرأ ابن كثير وأبو عَمرو: بضم المثناة التحتية ورفع لاغية، وكذا نافع إلَّا أنَّه قرأ: بالمثناة الفوقية، والباقون: بفتح المثناة الفوقية ونصب لاغية.
          (وَيُقَالُ) وفي رواية غير أبي ذرٍّ: <يُقال> بدون الواو، وفي نسخة سقط هذا اللَّفظ (الضَّرِيعُ نَبْتٌ يُقَالَ لَهُ: الشِّبْرِقُ) بكسر المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة (يُسَمِّيْهِ أَهْلُ الْحِجَازِ: الضَّرِيعَ إِذَا يَبِسَ، وَهْوَ سَمٌّ) هو كلام الفرَّاء بلفظه. والشِّبرق
          قال الخليل بن أحمد: هو نبتٌ أخضر منتنُ الرَّائحة، يرمي به البحر، وأخرج الطَّبري من طريق عكرمة ومجاهد قالا: الضَّريع: الشِّبرق، ومن طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ قال: الضَّريع: شجرٌ من نارٍ، ومن طريق سعيد بن جُبير قال: الحجارة. وقال ابن التِّين السَّفاقسي: كأن الضَّريع مشتقٌّ من الضَّارع وهو الذَّليل، وقيل: هو السُّلَّا _بضم المهملة وتشديد اللام_ وهو شوك النَّخل.
          وقال المفسِّرون: لمَّا نزلت هذه الآية قال المشركون: إنَّ إبلنا لتسمن على الضَّريع، فأنزلَ الله تعالى: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوْعٍ} [الغاشية:7] وكذَبوا، فإنَّ الإبل إنَّما ترعاه إذا كان رطبًا، فإذا يبس لا تأكله، ورطبه يسمَّى شِبرقًا لا ضريعًا. فإن قيل: وقع في سورة الحاقة: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] فكيف التَّوفيق.
          أُجيب: بأنَّ العذابَ ألوان، والمعذَّبون طبقاتٌ، فمنهم أكلة الزَّقُّوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضَّريع.
          ({بِمُسَيْطِرٍ} بِمُسَلَّطٍ، وَيُقْرَأُ بِالصَّادِ وَالسِّينِ) أشار به إلى قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:22] وفسَّر: المسيطر، بالمسلَّط؛ أي: لست عليهم بمسلَّط فيقتلهم ويكرههم على الإيمان، فلا تتجاوز عن التَّذكير، وإنَّما كان ذلك بمكة قبل أن يهاجرَ ويؤذنُ له في القتال، ثمَّ نُسخَ بآية القتال.
          وقوله: «ويقرأ بالصاد والسين» قرأ الجمهور بالصاد، وقرأ ابن عامر في رواية هشام بالسين، وقرأ حمزة بإشمام الصاد زايًا، وفي رواية خلاد عند خلف؛ أي: بالإشمام / وبالصاد الخالصة.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({إِيَابَهُمْ} مَرْجِعَهُمْ) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25] وفسَّره ابن عبَّاس ☻ بقوله: «مرجعهم»، وصله ابن المنذر من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبَّاس ☻ . وذكره ابن أبي حاتم عن عطاء لم يجاوز به.
          ولم يذكر البخاري في هذه السُّورة حديثًا مرفوعًا، ويدخلُ فيها حديث جابر ☺ رفعه: ((أُمرت أن أقاتلَ النَّاس حتَّى يقولوا: لا إله إلا الله)) الحديث وفي آخره: ((وحسابهم على الله)) ثمَّ قرأ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] إلى آخر السُّورة، أخرجه الترمذي والنَّسائي والحاكم وإسنادهُ صحيحٌ.


[1] في هامش الأصل: الضمير للموصول. منه.
[2] في هامش الأصل: أي: الطين الرقيق. منه.