نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب القدر

          ░░82▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتَابُ القَدَرِ) زاد أبو ذرٍّ عن المستملي: <باب في القدر> وكذا في رواية الأكثرين، وهو بفتح القاف والدال المهملة وقد تُسكَّن. قال الرَّاغب: القدرُ: هو التَّقدير، والقضاء: / هو التَّفصيل والقطعُ، فالقضاء أخصُّ من القدر؛ لأنَّه الفصلُ بين التَّقدير، فالقدرُ كالأساس، والقضاء هو التَّفصيل والقطع، وذكر بعضُهم أنَّ القدر بمنزلة المعدِّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل.
          ولهذا ما قال أبو عبيدة لعمر ☺ لمَّا أراد الفرار من الطَّاعون بالشَّام: أتفرُّ من القضاء، قال: أفرُّ من قضاء الله إلى قدرِ الله، تنبيهاً على أنَّ القدر ما لم يكن قضاء فمرجوٌّ أن يدفعه الله، فإذا قضي فلا مدفع له، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] و{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] تنبيهاً على أنَّه صار بحيث لا يمكن تلافيه.
          وقال الرَّاغب أيضاً: القدر بوضعه يدلُّ على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم ويتضمَّن الإرادة عقلاً والقول نقلاً.
          وحاصله: وجودُ شيءٍ في وقتٍ، وعلى حال توافقُ العلم والإرادة والقول، وقدَّر الله الشَّيء _بالتشديد_ قضاه، ويجوز بالتخفيف.
          وقال ابنُ القطَّاع: قدَّر الله الشَّيء: جعلَه بقدرٍ، والرِّزق صنعه وعلى الشَّيء ملكَهُ.
          وقال الكرمانيُّ: المراد بالقدرِ حُكم الله، وقالوا؛ أي: العلماء القضاء وهو الحكم الكليُّ الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيَّات ذلك الحكم وتفاصيله.
          ويذكر: أنَّ عبدَ الله بن طاهر أمير خراسان للمأمون دعا الحسين بن الفضل، فقال: أشكل عليَّ قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وقال النَّبي صلعم ((جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ)) [خ¦5076] فقال: هو شؤون يُبديها لا شؤون يبتديها، فقام إليه وقبَّل رأسه.
          وقال أهل السُّنَّة: إنَّ الله تعالى قدَّر الأشياء؛ أي: علم مَقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثمَّ أوجد منها ما سبقَ في علمه تعالى، فلا مُحْدَث في العالم العلوي والسُّفلي إلَّا وهو صادرٌ عن علمه تعالى وقدرتهِ وإرادتهِ خلقه، وأنَّ الخلقَ ليس لهم فيه إلَّا نوع اكتسابٍ، ومحاولة ونسبة وإضافة، وأنَّ ذلك كلُّه إنَّما حصل [لهم] بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه لا إله إلا هو ولا خالق غيره، كما نصَّ عليه القرآن والسُّنَّة.
          وقال أبو المظفَّر ابن السَّمعاني: سبيلُ معرفة هذا الباب التَّوقيف / من الكتاب والسُّنَّة دون محضِ القياس والعقل، فمن عدلَ عن التَّوقيف فيه ضلَّ وتاهَ في بحارِ الحيرة، ولم يبلغ شفاء ولا ما يَطمئن به القلب؛ لأنَّ القدر سرٌّ من أسرارِ الله تعالى، اختصَّ العليم الخبير به، وضربَ دونه الأستارَ وحجبه عن عقولِ الخلق ومعارفهم؛ لِمَا علمَهُ من الحكمة، ولم يَعلمه نبيٌّ مرسلٌ، ولا مَلَك مقرَّب. وقيل: إنَّ سرَّ القدر ينكشفُ لهم إذا دخلوا الجنَّة، ولا ينكشفُ قبل دخولها. انتهى.
          وقد أخرج الطَّبراني بسندٍ حسنٍ من حديث ابن مسعودٍ ☺ رفعه: ((إذا ذُكِر القدر فأمسكوا)). وأخرج مسلم من طريق طاوس: أدركتُ أناساً من أصحاب رسول الله صلعم ، فقالوا عن رسولِ الله صلعم : ((كلُّ شيءٍ بقدر حتَّى العجزَ والكيس)).
          قال الحافظُ العسقلاني: والكَيس _بفتح الكاف_ ضدُّ: العجز، ومعناه: الحذقُ في الأمور ويتناول أمور الدُّنيا والآخرة، ومعناه: أنَّ كلَّ شيءٍ لا يقعُ في الوجود إلَّا وقد سبق به علم الله تعالى ومشيئته، وإنَّما جعلهما في الحديث غاية لذلك؛ للإشارة إلى أنَّ أفعالنا وإن كانت معلومةً لنا ومُرادة [منّا] فلا تقعُ منافع ذلك إلَّا بمشيئةِ الله تعالى، وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعاً وموقوفاً مطابقٌ لقوله ╡: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فإنَّ هذه الآية نصٌّ في أنَّ الله تعالى خالقُ كلِّ شيءٍ ومقدِّره، وهو أنصُّ من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:102]، وقوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
          واشتهر على ألسنة السَّلف والخلف: أنَّ هذه الآية نزلت في القدريَّة، وأخرج مسلمٌ من حديث أبي هريرة ☺: جاء مشركو قريشٍ يخاصمون النَّبي صلعم في القدر فنزلت. وثبتَ أنَّ الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21].
          والحاصل: أنَّ مذهب أهل الحقِّ أنَّ الأمور / كلَّها من الإيمان والكفر والخير والشَّرِّ والنَّفع والضُّرِّ بقضاء الله وقدره، ولا تجري في ملكه إلَّا مقدراته.