نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب التعبير

          (╖) ثبتت البسملة هنا في جميع الرِّوايات.
          ░░91▒▒ (كِتَابُ التَّعْبِيْرِ وأَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلعم مِنَ الْوَحْيِ) إليه (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) أي: الحسنة أو الصَّادقة، والمراد بها: صحَّتها، هكذا في رواية النَّسفيّ والقابسيّ، وكذا في رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهنيّ والحمويي، وفي روايته عن المستملي: <كتاب التعبير، باب أوَّل ما بدئ به رسولُ الله صلعم ...> إلى آخره، وفي رواية غيرهم: <باب التعبير وأول ما بدئ به رسول الله صلعم > ثمَّ التَّعبير خاصٌّ بتفسير الرُّؤيا وهو العبورُ من ظاهرها إلى باطنها، قاله الرَّاغب.
          وقال الكرمانيُّ: المنقح العبارة لا التَّعبير، وهي التَّفسير والإخبار بآخر ما يؤولُ إليه أمر الرُّؤيا، وقيل: النَّظر في الشَّيء فيعتبر بعضُه ببعضٍ حتَّى يحصل على فهمه، حكاه الأزهريّ.
          قال الرَّاغب: وأصله من العبر بفتح ثم سكون وهو التَّجاوز من حالٍ إلى حال، وخصُّوا تجاوز الماء بسباحة أو في سفينة أو غيرها بلفظ العبور بضمّتين، وعبَر القوم إذا فاتوا كأنَّهم / جازوا القنطرة من الدُّنيا إلى الآخرة، قال: والاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصَّل بها من معرفةِ المشاهد إلى ما ليس بمشاهد.
          وقال في «المدارك»: حقيقة عبرت الرُّؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر إذا قطعته حتَّى تبلغ آخر عرضه، ونحوه: أوَّلت الرُّؤيا: إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها.
          وقال البيضاوي: عبارة الرُّؤيا الانتقال من الصُّور الخياليَّة إلى المعاني النَّفسانية الَّتي هي مثالها من العبور وهو المجاوزة، انتهى.
          وعبَرت الرُّؤيا بالتَّخفيف هو الَّذي اعتمده الإثبات وأنكروا التَّشديد. لكن قال الزَّمخشري: عثرت على بيتٍ أنشدهُ المبرّد في كتاب «الكامل» لبعض الأعراب:
رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُهَا                     وَكُنْتُ لِلْأَحْلَامِ عَبَّارَاً
          وقال غيره: يقال: عَبَرْتَ الرؤيا _بالتخفيف_: إذا فسَّرتها وعبَّرتها _بالتّشديد_ للمبالغة في ذلك، وفي التَّنزيل: إن كنتم للرُّؤيا تَعبُرون بالتخفيف، وأمَّا الرُّؤيا فهي ما يراه النائم في منامه، وهي بوزن فُعلى وقد تسهّل الهمزة.
          وقال الواحديُّ: هي في الأصل مصدر كاليُسرى، فلمَّا جُعلت اسماً لما يتخيَّله النَّائم أُجريت مُجرى الأسماء. وقيل: الرُّؤيا كالرُّؤية غير أنَّها مختصَّةٌ بما يكون في النَّوم ففرَّق بينهما بتاء التأنيث كالقُربة والقُربى.
          وقال الرَّاغب: الرُّؤية _بالهاء_: إدراك المرء بحاسَّة البصر، وتطلق على ما يدرك بالتَّخيُّل نحو أرى أنَّ زيداً سافر، وعلى التَّفكُّر النَّظري نحو: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال:48] وعلى الرَّأي وهو اعتقاد أحد النَّقيضين على غلبة الظَّنِّ. انتهى.
          وقال القرطبي في «المفهم»: قال بعض العلماء: تجيء الرُّؤيا بمعنى: الرُّؤية، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] فزعم أنَّ المراد بها ما رآه النَّبي صلعم ليلة الإسراء من العجائب، وكان الإسراءُ جميعه في اليقظة، / وعكسه بعضُهم فزعم أنَّها حجَّةٌ لمن قال: إنَّ الإسراء كان مناماً والأوَّل هو المعتمدُ، وقد تقدم في ((تفسير الإسراء)) [خ¦4716] قول ابن عباس ☻ : إنَّها رؤيا عينٍ. ويحتمل أن تكون الحكمة في تسمية ذلك رؤيا لكون أمور الغيب مخالفةٌ لأمور الشَّهادة فأشبهت ما في المنام.
          قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: الرُّؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملكٍ أو شيطانٍ، إمَّا بأسمائها؛ أي: حقيقتها، وإمَّا بكناها؛ أي: بعبارتها، وإمَّا تخليطٌ، ونظيرها في اليقظةِ الخواطر فإنَّها قد تأتي على نسقٍ في قصدِ، وقد تأتي مسترسلةً غير محصّلة، هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق.
          قال: وذهبَ القاضي أبو بكر بن الطَّيِّب إلى أنَّها اعتقادات، واحتجَّ بأنَّ الرَّائي قد يرى نفسه بهيمةً أو طائراً مثلاً، وليس هذا إدراكاً، فوجب أن يكون اعتقاداً؛ لأنَّ الاعتقادَ قد يكون على خلاف المعتقد.
          قال ابنُ العربي: والأوَّل أولى، والَّذي يكون من قبيل ما ذكرهُ ابن الطَّيِّب من قبيل المثل، فالإدراك إنَّما يتعلَّق به لا بأصل الذَّات. وقال المازريُّ: كثر كلام النَّاس في حقيقة الرُّؤيا. وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرةٌ منكرةٌ؛ لأنَّهم حاولوا الوقوف على حقائقِ لا تُدرَك بالعقل، ولا يقوم عليها برهانٌ، وهم لا يصدِّقون بالسَّمع فاضطربت أقوالهم.
          فمن ينتمي إلى الطِّبِّ ينسب جميع الرُّؤيا إلى الأخلاط فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنَّه يسبح في الماء، ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصَّفراء رأى النِّيران والصُّعود في الجوّ، وهكذا إلى آخره، وهذا وإن جوَّزه العقل وجاز؛ أي: يجري الله العادة به، لكنَّه لم يقم عليه دليلٌ، ولا اطَّردت به عادةٌ، والقطع في موضع التَّجويز غلط.
          ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صوَّر ما يجري في الأرض هي في العالم العلويِّ كالنُّقوش فما حاذى بعض النُّقوش منها انتقشَ فيها، وهذا أشدُّ فساداً من الأوَّل لكونه تحكّماً لا برهان عليه، والانتقاشُ من صفات الأجسام، / وأكثر ما يجري في العالم العلويِّ الأعراض، والأعراضُ لا ينتقش فيها.
          قال: والصَّحيح ما عليه أهل السُّنَّة أنَّ الله يخلقُ في قلب النَّائم اعتقادات كما يخلقُ في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنَّه جعلها علماً على أمورٍ أخرى يخلقُها في ثاني الحال، ومهما وقعَ منها على خلاف المعتقد الحقِّ، فهو كما يقعُ لليقظان، ونظيره أنَّ الله خلقَ الغيم علامةً على المطر وقد يتخلَّف، وتلك الاعتقادات تقع تارةً بحضرة المَلَك، فيقعُ بعدها ما يسرُّ، أو بحضرة الشَّيطان فيقعُ بعدها ما يضرُّ، والعلم عند الله تعالى.
          وروى الحاكمُ والعقيليّ من رواية محمَّد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ☻ قال: لقي عمرُ عليًّا ☻ فقال: يا أبا الحسن، الرَّجل يرى الرُّؤيا فمنها ما يَصْدقُ، ومنها ما يَكْذِبُ، قال: نعم سمعت رسول الله صلعم يقول: ما من عبدٍ ولا أمةٍ ينام فيمتلئ نوماً إلَّا يخرج بروحه إلى العرش، فالَّذي لا يستيقظُ دون العرش فتلك الرُّؤيا التي تَصْدُق، والَّذي يستيقظ دون العرش فتلك الرُّؤيا التي تَكْذِب.
          قال الذَّهبيّ في «تلخيصه»: هذا الحديث منكرٌ ولم يصحِّحه المؤلف، ولعلَّ الآفة من الرَّاوي عن ابن عجلان وهو أزهرُ بن عبد الله الأزديّ الخراسانيّ، ذكره العقيليّ في «ترجمته» وقال: إنَّه غير محفوظٍ.
          وقال ابنُ الأثير: الرُّؤيا والحلم عبارةٌ عمَّا يراه النَّائم في النَّوم من الأشياء، لكن غلبت الرُّؤيا على ما يراه من الخير والشَّيء الحسن، وغلبَ الحلم على ما يراهُ من الشَّرّ والشَّيءِ القبيح، ومنه قوله تعالى: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} [الأنبياء:5] وتضم لام الحلم وتسكّن.
          وفي الحديث: ((الرُّؤيا من الله، والحلمُ من الشَّيطان)). وقال التَّوربشتي: الحلم عند العرب مستعملٌ استعمال الرُّؤيا، والتَّفريق بينهما إنَّما كان في الاصطلاحات الشَّرعيَّة التي لم يعطها بليغ ولم يهتد إليها حكيمٌ، بل سنَّها صاحب الشَّرع للفصلِ بين الحقِّ والباطل، كأنَّه كره أن يسمِّي ما كان من الله، وما كان من الشَّيطان باسمٍ واحدٍ، فجعل الرُّؤيا عبارةً عمَّا كان من الله، / والحلم عمَّا كان من الشَّيطان؛ لأنَّ الكلمة لا تستعملُ إلَّا فيما يخيَّل للحالم في منامهِ من قضاء الشَّهوة ممَّا لا حقيقةَ له.
          قال الطِّيبيّ: ولعلَّ التُّوْرِبشتي أراد بقوله: ولم يهتد إليها حكيم ما عرّفتها الفلاسفة على ما نقله القاضي البيضاويّ في «تفسيره» الرُّؤيا انطباع الصُّورة المنحدرة من أفق المتخيِّلة إلى الحسِّ المشترك والصَّادقة منها إنَّما تكون باتِّصال النَّفس بالملكوت لما بينهما من التَّناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصوَّر بما فيها ممَّا يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثمَّ إنَّ المتخيلة تحاكيه بصورةٍ تناسبه فترسلها إلى الحسِّ المشترك فتصير مشاهدةً، ثمَّ إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التَّفاوت إلَّا بأدنى شيءٍ استغنت الرُّؤيا عن التَّعبير وإلَّا احتاجت إليه، انتهى.
          قال بعضُ أهل التَّفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] قال: أو من وراء حجاب؛ أي: في المنام، ورؤيا الأنبياء وحيٌ بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خللٌ؛ لأنَّه محروسٌ بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنَّها قد يحضرها الشَّيطان.
          وقال الحكيم التِّرمذيّ: وكَّل الله بالرّؤيا ملكاً اطَّلع على أحوال بني آدم من اللَّوح المحفوظ، فينسخ منها ويضرب لكلٍّ على قصّته مثلاً، فإذا نام مثّل له تلك الأشياء على طريق الحكمة ليكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدميُّ قد يسلّط عليه الشَّيطان لشدَّة العداوة بينهما فهو يكيده بكلِّ وجهٍ، ويريد إفساد أموره بكلِّ طريقٍ، فيلبّس عليه رؤياه، إمَّا بتغليطه فيها، وإمَّا بغفلته عنها، ثمَّ جميع المرئي ينحصرُ في قسمين:
          الصَّادقة: وهي رؤيا الأنبياء، ومن تبعهم من الصَّالحين، وقد تقعُ لغيرهم بندورٍ، وهي الَّتي تقع في اليقظة على وفقِ ما وقعت في النَّوم.
          والأضغاث: وهي أنواعُ:
          الأول: تلاعبُ الشَّيطان ليحزن الرَّائي كأن يرى أنَّه قطعَ رأسه وهو يتبعه، أو رأى أنَّه وقع في هولٍ ولا يجد من ينجده ونحو ذلك.
          الثَّاني: / أن يرى أنَّ بعضَ الملائكة يأمره أن يفعل المحرَّمات مثلاً ونحوه من المحال عقلاً.
          الثَّالث: ما تنجذبُ به نفسه في اليقظة، أو يتمنَّاه فرآه، كما هو في المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو يغلب على مزاجه، ويقعُ في المستقبل غالباً، وعن الحال كثيراً، وعن الماضي قليلاً.