نجاح القاري لصحيح البخاري

أبواب العمرة

          ░░26▒▒ (بسم الله الرحمن الرحيم أَبْوَابُ العُمْرَةِ باب وُجُوبُ الْعُمْرَةِ وَفَضْلُهَا) وليست البسملة مذكورةٌ في رواية أبي ذرٍّ، وإنَّما الترجمة في روايته هكذا: <أبواب العمرة باب وجوب العمرة وفضلها>، وعند المستملي في رواية غير أبي ذرٍّ سقط قوله: <أبواب العمرة>، ولأبي نعيم في «المستخرج»: ((كتاب العمرة))، وفي رواية الأصيليِّ وكريمة: <باب العمرة وفضلها> فقط.
          والعُمْرة _بضم العين وسكون الميم أو: ضمها وبفتح العين وإسكان الميم_ هي في اللغة الزِّيارة يقال: اعتمر فهو معتمرٌ؛ أي: زاد وقصد. وقيل: هي القصدُ إلى مكانٍ عامرٍ، وقيل: إنَّها مشتقةٌ من عمارة المسجد الحرام، وفي الشَّرع زيارة البيت الحرام بشروطٍ مخصوصةٍ ذكرت في كتب الفقه.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطَّاب ( ☻ : لَيْسَ أَحَدٌ) من المكلَّفين (إِلاَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) واجبتان مع الاستطاعة لمَّا كانت التَّرجمة مشتملةٌ على بيان وجوب العمرة وبيان فضلها قدَّم بيان وجوبها أولاً، واستدلَّ عليه بهذا التَّعليق الذي ذكره عن عبد الله بن عمر ☻ ، ووصله ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن ابن جريج عن نافع: أنَّ ابن عمر ☻ كان يقول: ليس من خلق الله تعالى أحدٌ إلَّا وعليه حجَّة وعمرة واجبتان. ورواه ابن خزيمة والدَّارقطني والحاكم من طريق ابن جريج عن نافعٍ عنه مثله بزيادة: من استطاع إلى ذلك سبيلاً، فمن زاد على هذا فهو تطوُّع وخير.
          وقال سعيد بن عَرُوبة في «المناسك»: عن أيُّوب عن نافع عن ابن عمر ☻ قال: الحجُّ والعمرة فريضتان.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وجزم المصنف بوجوب العمرة وهو متابعٌ في ذلك للمشهور عن الشَّافعي وأحمد وغيرها / من أهل الأثر، والمشهور عن المالكيَّة أنَّ العمرة تطوُّع، وهو قول الحنفيَّة هذا قال التِّرمذي: قال الشَّافعي: العمرة سنَّة لا نعلم أحداً رخَّص في تركها وليس فيه شيءٌ ثابتٌ بأنَّها تطوُّع، وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقي: ما حكاه التِّرمذي عن الشَّافعي لا يريد به أنَّها ليست بواجبةٍ بدليل قوله: لا نعلم أحداً رخَّص في تركها؛ لأنَّ السنة التي يراد بها خلاف الواجب يرخَّص في تركها قطعاً والسُّنة تطلق، ويراد بها الطَّريقة وغير سنَّة الرَّسول صلعم .
          هذا قال العينيُّ: كان الشَّيخ حمل قول الشَّافعي العمرة سنَّة على معنى أنَّها سنَّة لا يجوز تركها بدليل قوله: ليس فيها شيءٌ ثابتٌ بأنَّها تطوُّع، وذلك لأنَّه إذا لم يثبت أنَّها تطوُّع يكون معنى قوله: أنَّها سنَّة؛ أي: سنَّة واجبة لا يرخَّص في تركها.
          والذي أشار إليه الشَّافعي أنَّه ليس بثابتٍ هو مرسل أبي صالح الحنفيِّ، فقد روى الرَّبيع عن الشَّافعي أنَّ سعيد بن سالم القداح قد احتجَّ بأنَّ سفيان الثَّوري أخبره عن يعقوب بن إسحاق عن أبي صالحٍ الحنفيِّ أنَّ رسول الله صلعم قال: ((الحجُّ جهادٌ والعمرة تطوُّع))، وهذا منقطعٌ فصحَّ قوله: أنَّه ليس بثابتٍ.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : إِنَّهَا) أي: العمرة (لَقَرِينَتُهَا) أي: لقرينة الحجَّة (فِي كِتَابِ اللَّهِ ╡: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}): يعني: أنَّهما مذكورتان معاً في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، وقد أمر الله تعالى بإتمامهما والأمر للوجوب.
          وهذا التَّعليق وصله الشَّافعي في «مسنده» وسعيد بن منصورٍ كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: سمعت طاوساً يقول: سمعت ابن عبَّاس ☻ يقول: والله إنَّها لقرينتها في كتاب الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
          وللحاكم من طريق عطاء عن ابن عبَّاس ☻ : الحجُّ والعمرة فريضتان. وإسناده ضعيفٌ.
          وقال المانعون للوجوب: ظاهر السِّياق إكمال أفعالها بعد الشروع فيهما ولهذا قال بعده: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:196]؛ أي: صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامها، ولهذا اتَّفق العلماء على أنَّ الشُّروع في الحجِّ والعمرة يلزم سواءٌ قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها. /
          وقال شعبة: عن عمرو بن مرَّة عن عبد الله بن أبي سلمة عن عليٍّ ☺ أنَّه قال في هذه الآية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] قال: أن تحرم من دويرة أهلك لا تريد إلَّا الحجَّ والعمرة وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارةٍ ولا لحاجةٍ حتَّى إذا كنت قريباً من مكَّة قلت: لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزئ، ولكن التَّمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره.
          وقرأ الشَّعبي: ((وأتموا الحج والعمرةُ لله)) برفع العمرة، قال: وليست بواجبةٍ، وممَّن قال بفرضية العمرة من الصَّحابة عمر بن الخطَّاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعودٍ، وجابر ♥ .
          ومن التَّابعين وغيرهم: عطاء وطاوس ومجاهد وعلي بن الحسين وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وعبد الله بن شداد وابن الحبيب، وابن الجهم، واحتجَّ هؤلاء أيضاً بأحاديث أخرى.
          منها ما رواه الدَّارقطني من رواية إسماعيل بن مسلم عن محمَّد بن سيرين عن زيد بن ثابتٍ ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((إنَّ الحجَّ والعمرة فريضتان لا يضرُّك بأيُّهما بدأت)).
          هذا والصَّحيح أنَّه موقوفٌ رواه هشام بن حسَّان عن ابن سيرين عن زيد ☺.
          ومنها: ما رواه ابن ماجه من رواية حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة ♦ قالت: قلت: يا رسول الله! على النِّساء جهادٌ؟ قال: ((نعم عليهنَّ جهادٌ لا قتال فيه الحجُّ والعمرة)). هذا وقد أخرجه البخاريُّ ولم يذكر فيه العمرة [خ¦1520].
          ومنها: ما رواه ابن عديٍّ في «الكامل» من رواية قتيبة عن ابن لهيعة عن عطاء عن جابر ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((الحجُّ والعمرة فريضتان واجبتان)). هذا قال ابن عدي: هو عن ابن لهيعة عن عطاء غير محفوظٍ، وأخرجه البيهقيُّ، وقال ابن لهيعة غير محتجٍّ به.
          ومنها: ما رواه التِّرمذي من حديث عمر بن أوس عن أبي رَزين لقيط بن عامر العُقَيْلي أنَّه أتى النَّبي صلعم فقال: يا رسول الله! إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحجَّ والعمرة ولا الظعن، قال: ((حُجَّ عن أبيك واعتمر))، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. /
          هذا وفيه أنَّه صلعم أمره بأن يعتمر عن أبيه ولا يقتضي ذلك الوجوب عليه.
          ومنها: ما أخرجه الدَّارقطني عن يحيى بن يعمر عن أبيه عن ابن عمر عن عمر بن الخطَّاب ☻ قال: بينا نحن جلوسٌ عند رسول الله صلعم في أناسٍ إذ جاء رجلٌ ليس عليه سَحْناء سفر. فذكر الحديث. وفيه: فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ فقال: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصَّلاة، وتؤتي الزَّكاة، وتحجَّ وتعتمر)). قال الدَّارقطني: هذا إسنادٌ ثابتٌ أخرجه مسلم بهذا الإسناد، وقال ابن القطَّان: زيادةٌ صحيحةٌ وخرَّجه أبو عوانة والجوزقيُّ والحاكم أيضاً.
          هذا والمراد بإخراج مسلم له أنَّه أخرج الإسناد هكذا ولم يسق لفظ هذه الرِّواية، وإنَّما أحال به على الطُّرق المتقدِّمة إلى يحيى بن يعمر بقوله: كنحو حديثهم.
          وذكر أبو عمر عن الشَّافعي وأحمد في رواية: أنَّ العمرة ليست بواجبةٍ. وروي ذلك عن ابن مسعود ☺، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وعنه أنَّه سنة، واحتجُّوا بما رواه التِّرمذي من حديث الحجَّاج بن أرطاه عن محمد بن المنكدر عن جابر ☺: أتى أعرابيٌّ النَّبي صلعم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة أواجبةٌ هي؟ فقال صلعم : ((لا وأن تعتمر خيرٌ لك)) وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
          قال المنذريُّ: وفي تصحيحه له نظرٌ، فإنَّ في سنده الحجَّاج بن أرطاة ولم يحتجَّ به الشَّيخان في «صحيحيهما»، وقال ابن حبان: تركه ابن المبارك ويحيى القطَّان وابن معين وأحمد. وقال الدَّارقطني: لايحتجُّ به، وإنَّما روى هذا الحديث موقوفاً على جابر ☺، وقال البيهقيُّ: ورفعه ضعيفٌ. وقال الشَّيخ تقي الدِّين ابن دقيق العبد في كتاب «الإمام»: وهذا الحكم بالتَّصحيح في رواية الكرخي لكتاب التِّرمذي، وفي رواية غيره: حسنٌ لا غير.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقي: لعلَّ التِّرمذي إنَّما حكم عليه بالصِّحة لمجيئه من وجهٍ آخر، فقد رواه يحيى بن أيُّوب عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزُّبير عن جابرٍ ☺ قلت: يا رسول الله! العمرة فريضة كالحجِّ؟ قال: ((لا وأن تعتمر خيرٌ لك)). ذكره صاحب «الإمام»، وقال: اعترض عليه بضعف عبد الله بن عمر العمري.
          ورواه الدَّارقطني من رواية يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن المغيرة / عن أبي الزُّبير عن جابر ☺ قال: قلت: يا رسول الله! العمرة واجبةٌ فريضتها كفريضة الحجِّ؟ قال: ((لا وأن تعتمر خيرٌ لك)).
          ورواه البيهقيُّ من رواية يحيى بن أيُّوب عن عبيد الله _غير منسوبٍ_ عن أبي الزُّبير قال: وهو عبيد الله بن المغيرة تفرَّد به عن أبي الزُّبير، ووهم الباغنديُّ في قوله: عبيد الله بن عمر.
          هذا وقال في «شرح المهذب»: اتَّفق الحفَّاظ على أنَّ حديث الحجَّاج بن أرطاة حديثٌ ضعيفٌ ولا تغترَّ بقول التِّرمذي فيه: حسنٌ صحيحٌ.
          وقال الفاضل الكمال ابن الهمام في «فتح القدير شرح الهداية»: إنَّه لا ينزل عن كونه حسناً والحسن حجَّة اتِّفاقاً، وإن قال الدَّارقطني: الحجَّاج بن أرطاة لا يحتجُّ به، فقد اتَّفقت الرِّوايات عن التِّرمذي على تحسين حديثه. هذا وقد رواه ابن جريج عن محمَّد بن المنكدر عن جابرٍ ☺، وأخرجه الطَّبراني في «الصغير» والدَّارقطني بطريقٍ آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب وضعَّفه. وروى عبد الباقي بن قانع عن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((الحجُّ جهادٌ والعمرة تطوُّع)) وهو أيضاً حجَّة.
          وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود ☺: الحجُّ فريضةٌ والعمرة تطوُّع، وكفى بعبد الله قدوةٌ، وتعدد طرق حديث التِّرمذي الذي اتَّفقت الرِّوايات على تحسينه ترفعه إلى درجة الصَّحيح، كما أنَّ تعدُّد طرق الضَّعيف ترفعه إلى درجة الحسن، فقام ركن المعارضة والافتراض لا يثبت مع المعارضة؛ لأنَّ المعارضة تمنعه عن إثبات مقتضاه.
          ولا يخفى أنَّ المراد من قول الشَّافعي الفرض الظَّني هو الوجوب عندنا، ومقتضى ما ذكرناه أن لا يثبت مقتضي ما رويناه أيضاً للاشتراك في موجب المعارضة. فحاصل التَّقرير حينئذٍ تعارض مقتضيات الوجوب والنَّفل فلا يثبت ويبقى مجرَّد فعله صلعم وأصحابه والتَّابعين، وذلك يوجب السُّنية فقلنا بها. انتهى كلام المحقِّق.
          ثمَّ اعلم أنَّ الشَّافعي ذهب إلى استحباب تكرار العمرة في السَّنة الواحدة مراراً، وقال مالك وأصحابه: يكره أن يعتمر في السَّنة الواحدة أكثر من عمرةٍ واحدةٍ. واستدلَّ لهم بأنَّه صلعم لم يفعلها إلَّا من سنةٍ إلى سنةٍ وأفعاله على الوجوب أو النَّدب، وتعقِّب بأنَّ المندوب لم ينحصرْ في أفعاله صلعم ، فقد كان يترك الشَّيء وهو يستحبُّ فعله لرفع المشقَّة عن أمَّته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييدٍ.
          وقال ابن قدامة: قال آخرون: لا يعتمر في شهرٍ أكثر من عمرةٍ واحدةٍ، واتَّفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبساً بأعمال الحجِّ. /
          وعند أبي حنيفة: تكره العمرة في خمسة أيامٍ يوم عرفة ويوم النَّحر وأيَّام التَّشريق، وقال أبو يوسف: يكره في أربعة أيام عرفة والتَّشريق، ونقل الأثرم عن أحمد إذا اعتمر فلا بدَّ أن يحلق أو يقصر فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيَّام ليمكن حلق الرَّأس فيها.
          قال ابن قدامة: هذا يدلُّ على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام.
          تذييل: ذهب ابن عبَّاس وعطاء وأحمد إلى أنَّ العمرة لا تجب على أهل مكَّة وإن وجبت على غيرهم.