نجاح القاري لصحيح البخاري

{عم يتساءلون}

          ░░░78▒▒▒ (سُوْرَةُ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}) وتُسمَّى أيضًا سورة النَّبأ، وهي مكيَّةٌ وهي سبعمائة وسبعون حرفًا، ومائة وثلاث وسبعون كلمة، وأربعون آية. قوله: {عَمَّ} أصله عمَّا حذفت الألف للتخفيف، وبه قرأ الجمهور. وعن ابن كثير رواية بالهاء، وهي هاء السَّكت وقفًا، وهي رواية البزيِّ في أحد وجهيهِ عنه. وعن أبيِّ بن كعب وعيسى بن عمر بإثبات الألف على الأصل، وهي لغةٌ نادرةٌ، والمعنى: عن أيِّ شيءٍ يتساءل هؤلاء المشركون.
          (قَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ سقط قوله: <قال مجاهد>، وفي نسخة: <وقال> بالواو (مُجَاهِدٌ {لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} لاَ يَخَافُونَهُ) أي: فسَّر مجاهد قوله: {لَا يَرْجُونَ} في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ:27] بقوله: «لا يخافونه»؛ أي: لإنكارهم البعث. وقد وصله الفريابيُّ من طريق مجاهدٍ كذلك، ورواه عبد بن حميد عن شبابة عن ورقاء عن ابنِ أبي نجيح، عنه، ولفظه: لا يُبالون فيصدِّقون بالبعثِ، والرَّجاء يستعمل في الأملِ والخوف.
          ({لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} لاَ يُكَلِّمُونَهُ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ) أشار به إلى قوله تعالى: { رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ:37] وفسَّر قوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ} بقوله: لا يلكمونه إلَّا أن يأذنَ لهم في الكلام وذلك خوفًا منه تعالى، والضَّمير في ((لا يملكون)) لأهل السَّموات والأرض، / كذا في رواية المستملي، وفي رواية غيره: <لا يملكونه> بدل: لا يكلمونه؛ أي: ليس في أيديهم ما يخاطبُ به الله تعالى، وقيل: لا يملكون أن يخاطبوه بشيءٍ من نقصِ العذاب، أو زيادة الثَّواب إلَّا أن يأذنَ لهم في ذلك، والرِّواية الأولى أوجه.
          ({صَوَابًا} [النبأ:38] حَقًّا في الدُّنْيَا وعَمِلَ بِهِ) وفي نسخة سقط لفظ: <به> أشار به إلى قوله تعالى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38] وفسَّره بقوله: «حقًّا في الدُّنيا وعَمِل به»؛ أي: جمع بين القول والعمل، وقد أخرجه الفريابي من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ:37] قال: كلامًا إلَّا من قال صوابًا، قال: حقًّا في الدُّنيا وعَمِل به، ووقع في رواية غير أبي ذرٍّ نسبةُ هذا إلى ابن عبَّاس ☻ كالَّذي بعده وفيه نظرٌ. وقال أبو صالح: قال: لا إله إلا الله في الدُّنيا.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({ثَجَّاجًا} [النبأ:14] مُنْصَبًّا) أي: فسَّر ابن عبَّاس ☻ {ثَجَّاجًا} في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14] بقوله: «منصبًا»، وكذا فسَّره أبو عبيدة، وثبتَ هذا للنَّسفي وحدَه وقد تقدَّم في «المزارعة» [خ¦42/1-3672].
          ({أَلْفَافًا} [النبأ:16] مُلْتَفَّةً) أشار به إلى قوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:16] وفسَّره بقوله: «ملتفة»، وهو قول أبي عبيدة أيضًا، وثبت هذا في رواية النَّسفي وحدَه أيضًا. وقال الثَّعلبي: {أَلْفَافًا} ملتفًا بعضُها ببعض، واحدها ألف في قول نحاة البصرة، وليس بالقويِّ. وقال آخرون: واحدها لفيفٌ، وقيل: هو جمع الجمع، ويقال: جنَّة لفاء، ونبت لف، وجنان لُف _بضم اللام_، ثمَّ يجمع اللَّف: ألفافًا.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({وَهَّاجًا} مُضِيئًا) أي: فسَّر ابن عبَّاس ☻ {وَهَّاجًا} في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13] بقوله: مضيئًا من وهجت النَّار: إذا أضاءت، رواه ابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ .
          ({كَوَاعِبَ} [النبأ:33] نَوَاهِدَ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33] وفسَّره بقوله: «نواهد» وثبت هذا في رواية النَّسفي وحدَه، وقد تقدَّم في «بدء الخلق» [خ¦59/8-5029].
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير ابن عبَّاس ☻ ({غَسَّاقًا} [النبأ:25] غَسَقَتْ / وَيَغْسِقُ الْجُرْحَ يسيل، كَأَن الغَسَّاق والغَسِيْق وَاحِدٌ) يعني: أنَّه قال في قوله تعالى: {لَا يَذُوْقُونَ فِيْهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيْمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:24-25] غسقت عينه؛ أي: سالت، ويغسِقُ الجرح: يسيل، وكأن الغسَّاق والغسيق واحدٌ.
          قال أبو عبيدة: يُقال: تغسق عينه؛ أي: تسيل، ووقع عند النَّسفي والجرجاني: وقال مَعمر فذكره، ومَعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنَّى المذكور، وقوله: «ويغِسقُ الجرح» إلى آخره سقط هنا في رواية غير أبي ذرٍّ، وقد تقدَّم في «بدء الخلق» [خ¦59/10-5048]، ويُقال أيضًا: غسق غسقًا؛ أي: أظلم. وقال الثَّعلبي: الغسَّاق: الزَّمهرير يحرقهم برده، وروي ذلك عن ابن عبَّاس ☻ ، وقيل: هو صديدُ أهل النَّار، وقيل: دموعهم.
          وعن شهرِ بن حوشب: وادٍ في النَّار فيه ثلاثمائة وثلاثون شعبًا، في كلِّ شعبٍ ثلاثمائة وثلاثون بيتًا، في كلِّ بيتٍ أربع زوايا، في كلِّ زاويةٍ شجاعٌ كأعظم ما خلق الله تعالى من الخلق، في رأس كلِّ شجاعٍ من السُّمِّ قلَّةٌ. وقال الجوهري: الغسَّاقُ: البارد المنتن، يخفَّف ويشدد، وقُرئ بهما.
          ({عَطَاءً حِسَابًا} جَزَاءً كَافِيًا، أَعْطَانِي مَا أَحْسَبَنِي؛ أَيْ: كَفَانِي) ويُروى: <ما كفاني> بزيادة: <ما> أشار به إلى قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ:36] وفسَّره بقوله: «جزاء كافيًا»، وأشار بقوله: «أعطاني ما أحسبني؛ أي: كفاني» إلى أنَّ لفظ الحساب يأتي بمعنى الكفاية، يُقال: أعطاني فلانٌ ما أحسبني؛ أي: ما كفاني، ويُقال: أحسبت فلانًا؛ أي: أعطيته ما يكفيه حتَّى قال: حسبي.
          قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ:36] أي: جزاءً، ويجيءُ حسابًا بمعنى: كافيًا، وتقول: أعطاني ما أحسبني؛ أي: كفاني.
          وقال عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن قتادة في قوله تعالى: {عَطَاءً حِسَابًا} كثيرًا، وقد اختلفت الأصول في تقديم بعض هذه التَّفاسير وتأخيرها، وحذفها وإثباتها كما عرفت.