نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب المظالم

          ░░46▒▒ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، كِتَابٌ فِي الْمَظَالِمِ وَالغَصْبِ) هكذا في رواية المستملي، وسقط في رواية غيره لفظ: «كتاب»، هكذا: <في المظالم والغصب>، وفي رواية النسفي: <كتاب الغصب، باب في المظالم> والمظالم: جمع مظلمة مصدر ميميٌّ، من ظلم / يظلم ظلماً، وأصله الجور ومجاوزة الحدِّ، ومعناه الشَّرعي: وضع الشَّيء في غير موضعه الشَّرعي. وقيل: التَّصرف في ملك الغير بغير إذنه، والمظلمة أيضاً اسم ما أخذ منك بغير حقٍّ.
          وفي «المُغرِب»: المظلمة: الظُّلم، واسمٌ للمأخوذ في قولهم عند فلانٍ مظلمتي وظلامتي؛ أي: حقِّي الذي أخذ منِّي ظلماً، والغصب: أخذُ مال الغير ظلماً وعدواناً، يقال: غصبه يغصبه غصباً، وقيل: الغصبُ الاستيلاء على مال الغير ظلماً، وقيل: أخذ حقِّ الغير بغير حقٍّ.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على ما قبله ({وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}) <إلى قوله ╡: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم:42-47] >، كذا في رواية أبي ذرٍّ وهي ستُّ آياتٍ في سورة إبراهيم ◙وساق غيره الآية فقط.
          ثمَّ إن كان الخطاب في قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} للرَّسول صلعم فمعناه التَّثبيت على ما كان عليه من أنَّه مطَّلع على أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافيةً، والوعد بأنَّه معاقبهم على قليله وكثيرهِ لا محالة كما في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87]. وإن كان الخطاب لغيره ممَّن يجوز أنَّه يحسبه غافلاً ويتوهَّم غفلته جهلاً بصفاته واغتراراً بإمهاله فلا يحتاج إلى شيءٍ.
          وقال الزُّمخشري: ويجوز أن يرادَ: ولا تحسبنَّه معاملهم معاملة الغافل عمَّا يعملون، ولكن معاملة الرَّقيب عليهم المحاسب لهم بالنَّقير والقطمير، وقيل: إنَّه تسليةٌ للمظلوم وتهديدٌ للظَّالم.
          ({إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ}) أي: يؤخِّر عذابهم، وعن أبي عمرو في روايةٍ شاذَّة بالنون ({لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}) أي: تشخص أبصارهم لا تقرُّ في أماكنها من هول ما ترى ({مُهْطِعِينَ}) أي: مسرعين إلى الدَّاعي، أو مقبلين بأبصارهم على المرئي، ومديمين النَّظر إليه لا يطرفون هيبةً وخوفاً، وأصل الكلمة هو الإقبال على الشَّيء.
          ({مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ}) وقوله: (رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ) تفسيرٌ من المصنف، وكذا فسَّره مجاهدٌ أخرجه الفريابيُّ من طريقه، وهو قول أكثر أهل اللغة والتَّفسير، وكذا قاله أبو عبيدة في «المجاز»، واستشهد بقول الرَّاجز:
أَنْهَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا                     كَأنَّمَا أَبْصرَ شَيْئاً أَطْمَعَا
          وحكى ثعلب: أنَّه مشتركٌ، يُقال: أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا طأطأ، ويحتمل الوجهين هنا؛ أي: يرفع رأسه ينظر ثمَّ يطأطئه ذلًّا وخضوعاً قاله ابن التِّين، وسقط للمستملي والكُشميهني قوله: «رافعي رؤوسهم».
          (الْمُقْنِعُ / وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ) أي: هذه الكلمة _بالنون والعين وبالميم والحاء_ معناهما واحدٌ وهو رفع الرَّأس، ذكره أبو عبيدة في «المجاز».
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُهْطِعِينَ}: مُدِيْمِي النَّظَرِ، وَيُقَالُ: مُسْرِعِينَ) ثبت هذا هنا في رواية غير أبي ذرٍّ، ووقع له في ترجمة الباب الذي بعده، وتفسير مجاهدٍ أخرجه الفريابيُّ عنه، وأمَّا قوله: «ويُقال» فالمراد مِنْ قائله هو أبو عبيدة، وهو قول قتادة والمعروف في اللغة، ويحتمل أن يكون المراد كلا الأمرين، وقال ثعلب: المهطع الذي ينظر في ذلٍّ وخشوعٍ، وقال خليل بن أحمد: المهطع: الذي قد أقبل إلى الشَّيء ينظره لا يرفع عنه بصره، مُقنعي رؤوسهم: رافعي رؤوسهم مادي أعناقهم.
          ({لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}) أي: لا يطرفون بل بقيت عيونهم شاخصةً مفتوحةً ممدودةً من غير تحريك الأجفان، أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم؛ يعني: لا يستطيعون أن يطرفوا أو ينظروا في أنفسهم.
          وقال البيضاويُّ في سورة النَّمل: الطَّرف: تحريك الأجفان للنَّظر فوضع موضعه، ولما كان النَّاظر يوصف بإرسال الطَّرف وصف بردِّ الطَّرف والطَّرف بالارتداد.
          ({وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43]) وقوله: (يَعْنِي: جَوْفاً لَا عُقُولَ لَهُمْ) كذا فسَّره أبو عبيدة في «المجاز»، واستشهد بقول حسَّان ☺:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيانَ عَنِّي                     فأنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ
          والجُوف: بضم الجيم جمع أجوف، والهواء: الخلاء الذي لا تشغله الأجرام، فوُصِف به، فقيل: قلب فلانٍ هواء، إذا كان جباناً لا قوَّة فيه ولا جراءة، فالمعنى: لا قوَّة في قلوبهم ولا جراءة.
          وقال البيضاويُّ: هواء: خلاء؛ أي: خاليةً عن الفهم لفرط الحيرة والدَّهشة، ومنه يقال للأحمق وللجبان: قلبه هواءٌ؛ أي: لا رأي فيه ولا قوَّة.
          وقال ابنُ عرفة: معناه: نزعت أفئدتهم من أجوافهم، وعن ابنِ جريج: هواء؛ أي: صفر عن الخير خالٍ عنه.
          وقال السُّدي: هوتْ أفئدتهم بين موضعها وبين الحنجرة، فلم ترجعْ إلى موضعها ولم تخرج، كقوله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر:18]، وهكذا قال مقاتلٌ.
          ({وَأَنْذِرِ النَّاسَ} [إبراهيم:44]) يعني: أهل مكَّة، والخطاب للرَّسول صلعم ({يَوْمَ يَأْتِيهُمُ الْعَذَابُ}) يعني: يوم القيامة أو يوم الموت فإنَّه أوَّل أيَّام عذابهم، وهو مفعول ثانٍ لـ«أنذر» ({فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا}) بالشِّرك والتَّكذيب ({رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}) أي: أخِّر العذاب عنَّا، وردَّنا إلى الدُّنيا وأمهلنا إلى حدٍّ من الزَّمان قريب، أو أخِّر آجالنا وأبقنا مقدار ما نتدارك ما فرَّطنا فيه من إجابة دعوتك واتِّباع رسلك، وقوله تعالى: {نُجَبِ} [إبراهيم:44] وكذا ما عطف عليه جواب للأمر ونظيره قوله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
          ({أَوَ لَمْ تَكُوْنُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44]) على إرادة القول؛ / أي: يُقال لهم: أولم تكونوا أقسمتُم، وفيه وجهان:
          أحدهما: أن يقولوا ذلك بطراً وأشراً، ولِمَا استولى عليهم من عادة الجهل والسَّفه.
          والثَّاني: أن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا أبنية (1) محكمةً، وأمَّلوا آمالاً بعيدةً، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} جواب القسم، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لمطابقة قوله: «أقسمتُم»، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: «ما لنا من زوالٍ».
          والمعنى: أقسمتم وحلفتم أنَّكم باقون في الدُّنيا لا تزالون بالموت والفناء، وقيل: لا ينتقلون إلى دارٍ أخرى وأنَّهم إذا ماتوا لا يزولون عن تلك الحالة إلى حالةٍ أُخرى؛ يعني: كفرهم بالبعث كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38].
          ({وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم:45]) أي: نزلتُم في منازل الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي كعادٍ وثمود، يقال: سكن الدَّار وسكن فيها، ومنه قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} لأنَّ السُّكنى من السُّكون الذي هو اللُّبث، والأصل تعدِّيه بـ«في»، كقولك: قرَّ في الدَّار وغنى فيها وأقام فيها، ولكنَّه لمَّا نقل إلى سكونٍ خاصٍّ هو الإقامة والتَّبوء تصرف فيه، فقيل: سكن الدَّار، كما قيل: تبوَّأها وأوطنها، ويجوز أن يكون من السُّكون؛ أي: قرُّوا فيها واطمأنُّوا طيِّبي النُّفوس سائرين سيرة مَن قبلهم في الظُّلم والفساد لا يحدِّثونها بما لقي الأوَّلون من أيَّام الله، وكيف كان عاقبة ظلمهم فيعتبروا ويرتدعوا.
          ({وَتَبَيَّنَ لَكُمْ}) أي: ظهرَ لكم ({كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}) أي: كيف أهلكنَاهم وانتقمنَا منهم بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزلَ بهم، وما تواتر عندكُم من أخبارهم، وقرئ في الشَّواذ: <▬ونبين لكم↨> بالنُّون.
          ({وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:45]) من أحوالهم؛ أي: بيَّنا لكم أنَّكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب أو صفات ما فعلوا وما فُعِل بهم، التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكلِّ ظالمٍ؛ يعني: أنَّكم شاهدتُم أو سمعتُم هذا كله في الدُّنيا فلم تعتبروا، فلو رجعتم بعد هذا اليوم لن ينفعكم الوعظ أيضاً.
          ({وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ}) أي: مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم لإبطال الحقِّ وتقرير الباطل، حتَّى همُّوا بقتل النَّبي صلعم ({وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}) لا يخلوا إمَّا أن يكون مضافاً إلى الفاعل كالأول على أنَّ المعنى: ومكتوب عند الله مَكرهم فهو مجازيهم عليه بمكرٍ هو أعظم منه، أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى: وعند الله مَكرهم الذي يمكرهم به جزاءً لمكرهم وإبطالاً له، / وهو عذابهم الذي يستحقُّونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون.
          ({وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ}) مسوًّى ومُعدًّا ({لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46]) أي: لإزالة الجبال؛ أي: وإن عَظُم مكرهم وتتابع في الشدة كما البحر المحيط في الشِّدة فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدَّته، ويُقال: قد كانوا يمكرون في دار النَّدوة في زوال أمر النَّبي صلعم وأمر دين الإسلام، وثبوتُه كثبوت الجبال، لأنَّ الله تعالى وعد نبيَّه بإظهار دين الإسلام، وقد تجعل «أن» نافية واللام مؤكدة كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] والمعنى: ومحالٌ أن تزولَ الجبال بمكرهم، على أنَّ الجبال مثُلُ لآيات الله وشرائعه، لأنَّها بمنزلة الجبال الرَّاسية ثباتاً وتمكُّناً، وتنصره قراءةُ ابن مسعودٍ ☺: <وما كان مكرهم>، وقيل: مخفَّفة من الثَّقيلة، والمعنى: أنَّهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الرَّاسية من آيات الله وشرائعه.
          وقرأ الكسائيُّ: <لَتَزول> بالفتح والرفع على أنَّها المخففة واللام هي الفاصلة، ومعناه: تعظيم مكرهم؛ أي: وإن كان مكرهم من الشِّدة بحيث تزول منه الجبال وتنقلع عن أماكنها، وقرئ: بالفتح والنصب على لغة من يرى فتح لام «كي»، وقرأ عليٌّ وعمر ☻ : <وإن كاد مكرهم> بالدال بدل النون.
          ({فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم:47]) يعني قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51]، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، والأصل: مخلف رسله وعده، فقدَّم المفعول الثَّاني على الأول إيذاناً بأنَّه لا يخلف الوعد كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9] وإذا لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلفه رسله الذين هم خِيَرته وصفوته ({إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [إبراهيم:47]) غالبٌ لا يماكر، قادرٌ لا يدافع ({ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم:47]) لأوليائه من أعدائه.


[1] في هامش الأصل: حيث بنوا شديداً وأملوا بعيداً. نسخة.