إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قوله: {أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام}

          ░3▒ (باب قوله) جلَّ وعلا: ({أَسْرَى بِعَبْدِهِ}) محمَّدٍ صلعم بجسده وروحه يقظةً ({لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[الإسراء:1]) مسجد مكَّة بعينه؛ لحديث أنسٍ المرويِّ في «الصَّحيحين» وسَرَى وأسرى بمعنًى، وقال: { لَيْلاً} بلفظ التَّنكير، قال الزَّمخشري: ليفيد تقليل مدَّة الإسراء، وأنَّه أُسرِيَ به في بعض اللَّيل من مكَّة إلى الشَّام مسيرة أربعين ليلةً، فدلَّ على(1) أنَّ التَّنكير دلَّ على البعضيَّة، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة: ▬من اللَّيل↨ أي: بعضه؛ كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ}[الإسراء:79]. انتهى. قال صاحب «الدُّرِّ»: فيكون سرى وأسرى؛ كسقى وأسقى، والهمزة ليست للتَّعدية، وإنَّما المعدِّي الباءُ في {بِعَبْدِهِ} وقد تقرَّر أنَّها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور خلافًا للمبرِّد، وزعم ابن عطيَّة: أنَّ مفعول {أَسْرَى} محذوفٌ، وأنَّ التَّعدية بالهمزة، أي: أسرى الملائكةَ بعبده؛ لأنَّه يقلق(2) أن يُسنِد «أسرى» وهو بمعنى «سرى» إلى الله تعالى؛ إذ هو(3) فـعلٌ يقتضي النُّقلة؛ كمشى وانتقل، فلا يحسن إسناد شيءٍ من هذا مع وجود مندوحةٍ عنه، فإذا وقع في الشَّريعة(4) شيءٌ من ذلك تأوَّلناه؛ نحو: «أتيته هرولةً» قال شهاب الدِّين(5): وهذا كلُّه إنَّما بناه اعتقادًا على أنَّ التَّعدية بالباء تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك، وهذا شيءٌ ذهب إليه المبرِّد، فإذا قلت: قمت بزيد؛ لزم منه قيامك وقيام زيدٍ عنده، وهذا ليس كذلك، التبستْ عنده باءُ التَّعدية بباء الحال، فباء الحال تلزم فيها(6) / المشاركة؛ إذ المعنى: قمت ملتبسًا بزيدٍ، وباء التَّعدية مرادفةٌ للهمزة، فـقمت بزيدٍ والباء للتَّعدية؛ كقولك: أقمت زيدًا، ولا يلزم من إقامتك هو أن تقوم أنت، وأيضًا فموارد القرآن في {فَأَسْرِ} بقطع الهمزة ووصلها تقتضي أنَّهما بمعنًى واحدٍ، ألا ترى أنَّ قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}[هود:81] و {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}[طه:77] قرئ بالقطع والوصل، ويبعد مع القطع تقدير مفعولٍ محذوفٍ؛ إذ لم يصرَّح به في موضعٍ فيستدلُّ‼ بالمصرَّح على المحذوف، قاله أبو حيَّان، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا المذهب، وقال صاحب «فتوح الغيب»: ويمكن أن يُراد بالتَّنكير في { لَيْلاً} التَّعظيم والتَّفخيم، والمقام يقتضيه، ألا ترى كيف افتتح السُّورة بالكلمة المنبئة عنه، ثمَّ وصف المسرَى به(7) بالعبوديَّة، ثمَّ أردف تعظيم المكانين بالحَرَام وبالبركة لِمَا حوله تعظيمًا للزَّمان، ثمَّ تعظيم الآيات بإضافتها إلى صيغة التَّعظيم، وجَمَعَها ليشمل جميع أنواع الآيات، وكلُّ ذلك شاهدُ صدقٍ على ما نحن بصدده، والمعنى: ما أعظمَ شأن مَن أسرى بمَن حُقِّق له مقام العبوديَّة، وصُحِّح استئهاله للعناية السَّرمديَّة، أي: ليلٌ له شأنٌ جليلٌ، ليلٌ(8) دنا فيه الحبيب من المحبوب، وفاز في مقام الشُّهود بالمطلوب {فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} فحينئذٍ ينطبق عليه التَّعليل بقوله: { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الإسراء:1] أي: السَّميع بأحوال ذلك العبد، والبصير بأفعاله العالم بكونها مهذَّبةً خالصةً عن شوائب الهوى، مقرونةً بالصِّدق والصَّفا، مستأهلةً للقرب(9)، وسقط لفظ «باب» لغير أبي ذَرٍّ.


[1] قوله: «على» ليست في (ص).
[2] في (ب) و(س): «يبعدُ»، وفي (د): «يقلُّ».
[3] «هو»: ليس في (د).
[4] في (د): «بالشَّريعة».
[5] هو السمين الحلبي صاحب الدر المصون.
[6] في (د): «يلزم منه».
[7] «به»: ليس في (د).
[8] «ليلٌ»: ليس في (ص).
[9] في (د): «للقربة».