حاشية على مختصر ابن أبي جمرة

حديث: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد..

          12- قولُه: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) [خ¦99] تقدَّم / أنَّها كُنيتُه، واختلفَ في اسمِه واسمِ أَبِيه على نحوِ ثلاثين قولاً، والأصحُّ أنَّ اسمَه عبدُ الرَّحمن بنُ صَخْرٍ، ورَوى عنِ النَّبيِّ صلعم خمسةَ آلاف حديثٍ وثلاث مئة وأربعة وسبعين حديثاً.
          وقد قالَ أبو هُريرةَ: «ما كانَ أحدٌ أكثر حدِيثاً مِنِّي عَن رسوْلِ الله صلعم إلَّا عبد الله بن عَمْرِو بنِ العاصي؛ فإنَّه كان يكتُب، وأنا لا أكْتُب».
          وإنَّما اشتهرتِ الرِّوايةُ عن أبي هُريرةَ دونه لكونه سكَن مِصْر، والوافِدون إليها من النَّاس قليلون.
          قوله: (قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ الله).
          وفي بعضِ الرِّواياتِ: «قيْلَ: يا رسولَ الله». قالَ البِرْماويُّ(1): لا يناسِب ما بَعْده من قولِه: (لقد ظَننْتُ)؛ لأنَّ السَّائل هو أبو هُريرة نَفْسُه.
          قوله: (مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ) أي: مَن أوْلاهُم وأحقُّهُم، وهذا يشمل العصاةَ وغيرَهُم من الأُمَّة خلافاً للمُعتزِلة في قولهم: الشَّفاعةُ للمُطيع بزيادةِ الدَّرجاتِ لا لِلْعاصِي، ودخلَ في (مَنْ) الإنسُ والجنُّ والملائكةُ بناءً على أنَّ النَّاسَ مأْخوذٌ مِنْ نَاْسَ إذا تَحرَّكَ، فإنْ أُخذ منَ الإنْسِ فالنَّاسُ لا مفهومَ لَه.
          قوله: (يَوْمَ القِيَامَةِ) بنَصْب (يَوْمَ) على الظَّرفيَّة.
          فإن قلْتَ: لم قيد به مَع أنَّ الشَّفاعةَ مستمرَّةٌ في الدُّنيا والآخرة، فما زال ╕ يَشْفَع ويُشفَّع؟!
          أُجِيْبَ بأنَّه قيد بِه لأنَّ شفاعةَ النَّبيِّ صلعم في الدُّنيا مُعايَنةٌ ومُشاهَدةٌ لأبي هُريرة، فلا معنى للسُّؤال عنها لما فيه منْ تحصيلِ الحاصِل.
          أو قيد به لأنَّ الشَّفاعةَ الواقعةَ فيه أعظَمُ منَ الواقعةِ في دارِ الدُّنيا.
          قوله: (لَقَدْ ظَنَنْتُ) اللَّام مُوطِّئة للقَسَم، أي: والله لقد ظَنَنْت.
          قوله: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) وفي رِوايةٍ: «أبا هُرَيْرةَ» بإسقاط (يا)، وعليها شَرْحُ سَيِّدي عليٍّ الأُجْهُوريِّ.
          قوله: (أنْ لَا يَسْألُنِي) بفَتْح لام (يَسْألَُ) وضمِّها على حدِّ قراءَتَي {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ} [المائدة:71] بالرَّفْع والنَّصْب؛ لوُقوع (أَنْ) بعد الظَّنِّ.
          فعلَى الأوَّل تكون (أَنْ) مصدريَّة عاملةً في الفِعْل النَّصْب.
          وعلى الثَّاني تكون مخفَّفةً من الثَّقيلة.
          قوله: (أَحَدٌ) بالرَّفع فاعلُ (يَسْأل)، وقوله: (أوَّلُ) بالرَّفع صفةٌ ﻟ (أَحَدٌ) أو بدَلٌ مِنْه.
          وبالنَّصْب على الظَّرْفيَّة، وهو خلافُ الظَّاهرِ، والظَّاهرُ أنَّه حالٌ وجاءتِ الحالُ من النَّكِرة لوُقوعِها بَعْد النَّفْي، و(أوَّلُ) بمعنى: أسبق، فهو ممنوعٌ منَ الصَّرْفِ للوصفيَّة ووزْنِ الفِعْلِ.
          قوله: (لمَا رَأَيْتُ) (مَا) موصولٌ حَرْفِيٌّ، وما بعدها في تأويلِ مَصْدرٍ مجرورٍ باللَّام، و(مِنْ) تبعيضيَّة، أي: لرؤيتي بعض حرْصِك.
          ويصحُّ أن تكون (مَا) مَوصولاً اسميّاً والجملةُ بعدها صِلَةً، والعائدُ محذوفٌ، و(مِنْ) بَيانيَّة، أي: لأجْل الذي رأيتُه منْ حرْصِك، أي: حِفْظك.
          ويؤخذُ مِن الحديث أنَّه ينْبغي للعالِم أن يتفرَّسَ في حالِ المتعلِّم، فينظر في كُلِّ واحدٍ ويُعطيه مِقدار فهْمِه، ويُنبِّهُه على حرصِه ليكون باعِثاً لَه على / الاجتهاد في العِلْم وعلى الحرص عليه.
          وفيه دلالةٌ على أنَّ العالِم إذا لم يُسْأل يسكت، ولا يكون كاتماً للعِلْم؛ لأنَّ على الطَّالب أن يسأل، قال اللهُ تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43]، ثمَّ إذا سُئل العالِم فعَلَيه البَيانُ، فإنْ لم يبيِّن بعد السُّؤال فهو آثِمٌ إنْ تعيّن عليه ولم يكن معذوراً؛ وإلَّا فلا يأثم.
          قوله: (أَسْعَدُ النَّاسِ).
          استشكل التَّعبيرُ بأَفْعل التَّفْضيل؛ إذْ مفهومُه أنَّ كُلًّا من الكافرِ الذي لم ينطق بالشَّهادتَين والمنافقِ الذي نطقَ بلسانِه دون قَلْبِه أن يكون سَعيداً، وليس كذلك!؟
          وأُجِيْبَ بأنَّ أفْعل التَّفْضيل ليس على بابِه، بل بمعنى: سعيد النَّاس مَن نطقَ بالشَّهادتَين.
          أو على بابِه، والتَّفضيلُ بحسَبِ المراتبِ، أي: أنَّ مَن وصَلَ المرتبة العالية من الإخْلاص فهو أَسعدُ ممَّن لم يكن في هذه المرتبة، وأمَّا الحاصلُ للكفَّار في القيامة منَ الإراحة من طُول الموْقِف بشفاعة النَّبيِّ صلعم فليس بسعادةٍ لما يعقبُ ذلك من الضَّرَرِ.
          قوله: (مَنْ قَالَ) في موضع رَفْع خَبَر المبتدأ الذي هو (أَسْعَدُ)، و(مَنْ) موصولةٌ، أي: الذي قال.
          فإنْ قلْتَ: إنَّه لا ينفع في الدَّار الآخرةِ إلَّا التَّصْديق القَلْبي وإنْ لم يتلفَّظ بهذه الكلمة!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ المرادَ: مع التَّصْديق بقَلْبِه؛ بقَرينةِ قولِه: (خالِصاً مِنْ قَلْبِه).
          أَوِ المرادَ القولُ النَّفساني، بأن تقول النَّفْسُ: أذْعَنَتُ، وصدَّقْتُ، وقَبِلْتُ ذلك.
          أو بُني ذلك على الغالِب من أنَّ مَن صدَّق بالقَلْب قال باللِّسان، فيكون ما قالَه بلسانِه دالاً على ما في قَلْبِه.
          قوله: (لا إله إلَّا اللهُ) أيْ: مَع محمَّد رسولُ الله.
          وقد وردَ في فضْلِها أحاديثُ كثيرة، منها:
          ما ورَدَ عن أَنسٍ(2): «مَنْ قالَ لا إله إلَّا الله، ومَدَّها، هدمَتْ لَه أربعة آلافِ ذَنْبٍ منَ الكَبائرِ»، قيل: فإنْ لم يكن له هذه الكبائر؟ قال: «يغْفرُ لَه ذُنُوب أَبوَيْه وأَهْلِه وجِيْرانه».
          وهذا يفيدُ أنَّ الكبائرَ مُكفَّرةٌ بالأعمالِ الصَّالحةِ، ولا حَرَجَ على فَضْلِ الله تعالى، لكن الرَّاجِح أنَّه لا يُكفِّرها إلَّا التَّوبة، أوِ الحجّ المبْرور، أو عفو الله تعالى.
          ومنها: ما ورَدَ عنْ أَنسٍ(3) قال: قالَ رسولُ الله صلعم: «إذا قَالَ العَبْدُ المُؤمنُ: لا إله إلَّا الله، خَرقَتِ السَّموات حتَّى تَقِفَ بينَ يَدَي الله تعالى، فَيقُولُ: اسْكُني، فتقول: كَيْفَ أسْكُنُ ولم تَغْفِرْ لِقائلي؟ فيقُول: ما أجْرَيْتُكِ على لِسانِه إلَّا وقد غفرْتُ لَه».
          ومعنى خَرْقِها السَّموات ومُخاطبةِ الله تعالى ومخاطبتها له: إنَّ اللهَ يجعل لَها صُورةً ومِثالاً، فتصعد، فتخرق وتُخاطِب.
          ونظيرُ ذلك بعثُ القرآن يَوْمَ القيامةِ في صُورةِ رجُلٍ يُجادل / عَن صاحبِه، وصُعُودُ سُورةِ تبارَكَ الملك إلى العَرْش لشفاعتِها فيمَن كان يقرؤها.
          قوله: (خَالِصاً) حالٌ مِن فاعلِ (قَالَ)، أيْ: خالِصاً مِن الشِّرْك.
          زاد في رِواية الكُشْميهَنيِّ وأَبي الوَقْت: «مُخْلِصاً».
          قولُه: (مِنْ قَلْبِهِ أوْ نَفْسِهِ) شكٌّ من الرَّاوي، والجارُّ والمجرورُ يحتملُ أن يكون مُتعلِّقاً ﺑ (قال)، فيكون لغواً.
          وأنْ يكون مُتعلِّقاً ﺑ (خَالِصاً) فيكون لغواً أيضاً.
          وأن يكون مُتعلِّقاً بمحذوف حال مِن ضمِير المصْدَر المفهوم من (قَالَ)، والتَّقديرُ: قال حالَ كون ذلك القول ناشئاً مِن قَلْبه فيكون مُستقرّاً لا لغواً.
          فإنْ قُلْتَ: الإخلاصُ محلُّه القَلْب، فما فائدةُ (مِنْ قَلْبِه)!؟
          أُجِيْبَ بأنَّ الإتيان به للتَّأكيد، ولو صدَّق بقَلْبه ولم يتلفَّظ دخلَ في هذا الحكم، لكِنَّا لا نحكم عليه بالدُّخول إلَّا إنْ تلفَّظ، فهو سببٌ للحُكم باستحقاقِ الشَّفاعةِ لا لِنَفْسِ الاستحقاقِ.
          وهذا الحديْثُ ذَكَره البُخارِيُّ في باب: الحِرْص على الحديْثِ.


[1] اللامع الصبيح 2/26.
[2] (ابن النجار عن أنس) كما في كنز العمال ░202▒ وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة 2/326 ونقل عن ابن حجر في اللسان قوله: والحديث باطل.
[3] الديلمي كما في كنز العمال ░135▒ قال في اللآلئ المصوغة: عبد الله بن إبراهيم؛ هو الغفاري: نسبه ابن حبان إلى الوضع وشيخه ليس بشيء 2/290.