التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن}

          ░123▒ (بَابُ قَوْلِهِ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ...}) الآية [النور:31].
          5248- ذكرَ فيه حديثَ سَهْلِ بن سَعْدٍ، وقد سلف في الطَّهارة قُبَيل الغُسل [خ¦243]، وهذه الآية نزلت بعد الحِجَاب، وهو نزل بعد أُحُدٍ بسنتين وكان سَهْلٌ إذ ذاك صغيرًا. والزِّينَةُ الوجه والكفَّان: وقيل: واليدان إلى المِرْفَقَين، وأورد هنا قصَّة فاطِمَةَ لغَسْلها الدَّمَ عن وجهِ أبيها وإبدائها له وجهَها.
          وقوله: (فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحرِقَ) كذا في الأصول، وفي نسخةٍ: <فَحُرِّقَ> بضمِّ الحاء وتشديد الرَّاء على وجه التَّكثير أو تعديةً، قال الله تعالى: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ} [طه:97]، وقُرِئ بضمَّ الرَّاء مِن الغَيظ، يقال: هو مُحرِقٌ عليك الأُرَّمَ غيظًا: إذا حكَّ أسنانَه بعضها ببعضٍ.
          فَصْلٌ: قال المهلَّب: إنَّما أُبيح للنِّساء أن يُبْدِين زينتهنَّ لِمَا ذكر في هذه الآية مِن أجل / الحُرْمة الَّتي لهنَّ مِن القرابة والمحرَم، إلَّا في العبيد فإنَّ الحُرْمةَ إنَّما هي مِن جهة السِّيادة وأنَّ العبد لا تتطاولُ عينيهِ إلى سيِّدته، فهي حُرْمةٌ ثابتةٌ في نفسِهِ، أُبيح للمرأة مِن إظهار الزِّينة ما أُبيح إلى أبيها وابنها وذوي الحُرْمة منها، مع أنَّه لا يظنُّ بحرَّةٍ الانحطاط إلى عبدٍ، هذا المعلوم مِن نِسَاء العرب والأكثر في العُرْف والعادة، وسُئل سَعِيدُ بن جُبَيرٍ: هل يجوز للرَّجل أن يرى شَعَر خَتَنَتِه؟ فتلا قولَه هذه الآية، فقال: لا أُراه فيهم.
          وقال الطَّبريُّ: في الآية {إِخوَانِهِنَّ} جمع أخٍ، وأخوةٌ جمع أخٍ أيضًا، كما يجمع فتًى وفتيان ويُجمع فتيةٌ أيضًا. وسئل عِكْرَمةُ والشَّعبيُّ عن هذه الآية {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} إلى قوله: {أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب:55]، قلتُ: ما شأن العمِّ والخال لم يُذكَرا؟ قالا: لأنَّهما تَبَعٌ لآبائهما، وكَرِها أن تَضَع خِمَارَها عند عمِّها وخالِها، ومَن رأى العمَّ والخالَ داخلَين في جُملة الآباء أجاز ذلك، وقال النَّخَعِيُّ: لا بأس أن ينظرَ إلى شَعَر أمِّهِ وعمَّتهِ وخالتِهِ.
          وذكر إسماعيلُ عن الحسنِ والحُسينِ أنَّهما كانا لا يريان أُمَّهات المؤمنين. وقال ابن عبَّاسٍ: إنَّ رؤيتهما لهنَّ تحِلُّ. وقال إسماعيلُ: أحسب أنَّ الحسنَ والحُسَين ذهبا في ذلك إلى أنَّ أبناء البُعولة لم يُذكروا في الآية الَّتي في أُمَّهات المؤمنين، وهي قولُه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب:55]، قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الآية [النور:31]، فذهب ابنُ عبَّاسٍ إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى.
          وقوله: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب:55] يعني ولا حرجَ عليهنَّ أن لا يحتجِبنَ مِن نساء المؤمنين، ورُوي عن عُمَرَ ☺ أنَّه كتب إلى عُمَّاله أن لا تُترك امرأةٌ مِن أهل الذِّمَّة أن تدخل الحمَّام مع المسلمات، واحتجَّ بهذه الآية.
          واختلف السَّلف في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31]، فقال سَعِيدُ بن المسيِّب: لا تغرَّنَّكم هذه الآية، إنَّما عنى بها الإماءَ ولم يَعنِ بها العبيد. وكان الشَّعبيُّ يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاءٍ ومجاهدٍ، وقال ابن عبَّاسٍ ☻: لا بأس أن ينظرَ المملوك إلى شَعَر مولاته. فدلَّ على أنَّ الآية عنده على العُمُوم في المماليك والخدَمِ، قاله إسماعيلُ، وهذا على القولين، فكانت عَائِشَةُ وسائرُ أمَّهات المؤمنين يُدْخِلْنَ عليهنَّ مماليكهنَّ.
          قال إسماعيلُ: وإنَّما جاز للمملوك أن ينظر إلى شَعَرِ مولاته ما دام مملوكًا؛ لأنَّه لا يجوز له أن يتزوَّجها مادام مملوكًا وهو كذوي المحارم، كما لا يجوز لذوي المحارم بها أن يتزوجوهنَّ، ولا يدخل العبد في المحرَمِ الَّذي يجوز للمرأة أن تسافرَ معه لأنَّ حُرْمتَه منها لا تدوم، إذ قد يمكن أن تُعْتِقه في سَفَرها فيحِلُّ له تزويجها.
          فإن قلتَ: فحديثُ أمِّ عطيَّة: كنَّا نداوي الكَلْمَى، والحديث الآخر أنَّ النِّساء كنَّ يَنْقُلن القِرَب على مُتونِهنَّ وسُوقُهنَّ مكشوفاتٌ حتَّى يرى خَدَمٌ سُوقَهنَّ في المغازي مع رسول الله صلعم، يخالف الآية وحديث سَهْلٍ؟ قلتُ: لا؛ لأنَّه إن صحَّ أنَّ ما ظهر مِن سُوقِهنَّ غير الخدم ممَّا لا يجوز كشفه، فالأحاديث منسوخةٌ بسورة النُّور والأحزاب لأنَّهما مِن آخر ما نزل بالمدينة مِن القرآن، وإجماعُ الأُمَّة أنَّه غير جائزٍ للمرأة أن تُظهِرَ شيئًا مِن عورتها لذي رَحِمِها، فكيف بالأجانب؟! وكذلك لا يجوز لها أن تُظْهِر عورتَها للنِّساء أيضًا.
          ونقل ابنُ التِّين عن مالكٍ أنَّه لا بأس أن يرى المكاتَب شعر سيِّدته إن كان وَغْدًا وكذلك العبد، وقال محمَّد بن عبد الحكم: يرى شعر سيِّدته إن كان وَغْدًا ولا يخلو معها في بيتٍ، واختُلِف في عبدِ زوجها وعبدِ الأجنبيِّ.