التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غيرة النساء ووجدهن

          ░108▒ (بَابُ غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ)
          الوَجْدُ الغَضَبُ، قال ثَعْلَبٌ: وَجَدْتُ على الرَّجل مَوْجِدًا، ووَجَدْتُ في الحزن وَجْدًا.
          5228- ذكر فيه حديثَ عَائِشَةَ ♦ قالت: (قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلعم: إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَلَيَّ رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: أَجَلْ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ).
          وأخرجه مُسْلِمٌ أيضًا.
          5229- وحديثَها أيضًا: (مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللهِ صلعم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ...) الحديث، وهذا سلف في مناقبها، وزاد هنا بعد: (لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللهِ صلعم إِيَّاهَا وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا في الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ).
          و(غَضْبَى) مقصورٌ كسَكْرَى، لأنَّ ما يثبت في مذكَّره النُّون، فمؤنَّثه مقصورٌ؛ لأنَّ مذكَّر غَضْبَى غضبانٌ، وسَكْرَى سكرانٌ، قال الهَرَوِيُّ: أراد أن يُبشِّرها بقصرٍ مِن زُمُرُّدةٍ مجوَّفةٍ أو لؤلؤةٍ مجوَّفةٍ، يقال: بيت الرَّجل قصرُه، وبيتُه دارُه، وبيتُه شَرفهُ.
          وقولها: (مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ...) إلى آخره، هو مِن غاية الغَيرة؛ لأنَّ الغالب إنَّما يكون في الموجودة وهي لم تكن موجودةً إذ ذاك ولا مشاركةً لها معها في رسول الله صلعم، ففيه الصَّبرُ على النِّساء وعلى ما يبدو مِنهنَّ من الجَفَاءِ والحرج عند الغَيْرةِ، لِمَا قد جُبِلْنَ عليه منها وأنَّهنَّ لا يَمْلِكنَها، فعُفي عن عقوبتهنَّ على ذلك وعَذَرُهنَّ الله فيهِ.
          وقولها: (مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ) يدلُّ _كما قال المهلَّب_ على أنَّ الاسمَ مِن المخلوقين غير المسمَّى، ولو كان هو وَهَجرَتْ اسمَه لهجرته بعينِه، ويدلُّ على ذلك أنَّ مَن قال: أكلتُ اسمَ العسل واسمَ الخبز، فإنَّه لا يُفهم منه أنَّه أكل الخبزَ والعسلَ، وكذلك إذا قال: لقيتُ اسمَ زيد، لا يُفْهَم منه أنَّه لقي زيدًا، ويبيِّن ذلك ما نشاهده مِن تبديل أسماء المماليك وتبديل كُنى الأحرار، ولا تتبدَّل الأشخاص مع ذلك، وإنَّما يصحُّ عند تحقيق النَّظر أن يكون الاسم هو المسمَّى في الله وحدَه فقط، لا فيما سواه مِن المخلوقين، لمباينته تعالى وأسمائه وَصِفاته حكمَ أسماء المخلوقين وصفاتِهم.
          بيانُ عدم اللُّزوم في حقِّه تعالى أنَّ طُرق العلم بالشَّيء إنَّما تُؤخذ مِن جهة الاستدلال عليه بمثله وشبهه أو مِن حُكْم ضدِّه، وعلمنا / يقينًا أنَّه تعالى لا شبيهَ له بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وبقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، فثبت بذلك أنَّه لا ضدَّ له، لأنَّ حكم الضِّدِّ إنما يُعلم مِن حكم ضدِّه، فكما لم يكن له تعالى شبيهٌ ولا ضدٌّ يستدلُّ على اسمِه إذا كان غير المسمَّى لم يجز لنا أن نقول ذلك، مع أنَّه ◙ لم يتكلَّم بذلك ولا سنَّه لأمَّتهِ ولا يعلم به الصَّحابة، فلا يجوز أن تُقاسُ أسماءُ الله وصِفاته على أسماء المخلوقين وصفاتِهم، ولا يقال: إنَّ اسمَ الله غير المسمَّى به مِن أجل جواز ذلك فينا، وستكون لنا عودةٌ إلى تبيينِ مذهبِ أهل السُّنَّة: أنَّ اسمَ الله تعالى هو المسمَّى، في باب السُّؤال بأسماء الله تعالى، والاستفادة بها في كتاب الرَّدِّ على الجَهْميَّة، ويأتي في الأدب في باب: حُسن العَهْد مِن الإيمان، تفسيرُ الغضب المذكور في حديث عَائِشَة ♦.
          ولابن السَّيِّد البَطليوسيِّ فيه مؤلَّفٌ، وقال فيه: لا يصحُّ أن يقال: إنَّ الاسم هو المسمَّى على معنى أنَّ العبارة هو المعبَّرُ عنه، وأنَّ اللَّفظ هو الشَّخص، فإنَّه مُحَالٌ لا يُتصوَّر في لُبٍّ، وبه يسقط اعتراض مَن قال: إنَّه يلزمُ مِن ذلك أن يحترق فمُ مَن قال: نارٌ، ويشبع مَن قال: طعامٌ، ويصحُّ أن يقال: هو على معانٍ ثلاثةٍ: ما يجري مجرى المجاز، أو الحقيقة، أو المعنى، فالأوَّل: كرأيتُ جملًا، والثَّاني: كالحياة والحركة لمن وجدا فيه، والثَّالث: مسمَّى زيدٍ، أي هذا المسمَّى بهذه اللَّفظة الَّتي هي الزَّاي والياء والدَّال، ويقولون في المعنى: هذا اسم زيدٍ، فيجعلون الاسم والمسمَّى مترادفين على المعنى الواقع تحت التَّسمية.