التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير

          ░33▒ (بَابُ: عَرْضِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الخَيْرِ).
          5122- ذكر فيه حديثَ ابن عمر ☻ في عَرضِ عمرَ حفصةَ _لَمَّا تَأَيَّمَتْ مِنْ خُنَيْسِ بن حُذَافَة، وكان مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلعم، توفِّي بالمدينة_ عَلَى عثمانَ ثُمَّ الصِّدِّيق ثُمَّ خطبَها صلعم، وقد سلف في المغازي [خ¦4005]، ويأتي [خ¦5129].
          5123- وحديثَ أمِّ حَبيبة: (إنَّا قَدْ تَحَدَّثنا أَنَّكَ تَنْكِحُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ...) الحديث، وقد سلف [خ¦5101].
          وحديثُ ابنِ عمر ذكرَه الحُمَيديُّ وأبو مسعودٍ في مسند أبي بكرٍ لِمَا انفردَ به مَعمرٌ عن الزُّهْريِّ مِنْ قول أبي بكر لعمرَ: أَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الله صلعم قَدْ ذَكَرَهَا.
          وذكره خلفٌ وابن عساكرَ في مسند عمرَ لقوله: (خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ)، ولَمَّا أخرجه الطَّرْقيُّ في مسند أبي بكرٍ قَالَ: قد أخرجتِ الأئمَّةُ أصحابُ المسانيد هذا الحديثَ مِنْ عهد أحمد بن حنبلٍ إلى زماننا في «مسنده»، لقوله السَّالف إنَّه ذكرَها، وذكر الدَّارَقُطْنيُّ أنَّ حفصة تأيُّمها مِنِ ابن حُذافة أنَّه طلَّقها، وذكر أبو عمر وغيرُه أنَّه توفِّي عنها مِنْ جراحة أصابته بأُحدٍ، وعلى هذين القولين يُحمل قول مَنْ قَالَ: تزوَّج حفصة بعد ثلاثين شهرًا مِنَ الهجرة، ورواية مَنْ روى بعد سنتين في عقب بدرٍ، ورواية مَنْ روى توفِّي زوجها بعد خمسةٍ وعشرين شهرًا.
          و(خُنَيْسِ) بضمِّ الخاء المعجمة ثُمَّ نونٍ مفتوحةٍ ثُمَّ مثناةٍ تحت ساكنةٍ ثُمَّ سينٍ مهملةٍ، وقال ابنُ طاهرٍ: قَالَ يونس عن الزُّهْريِّ: بفتح الخاء وكسر النُّون، وكان معمر بن راشدٍ يقوله بفتح الحاء المهملة ثُمَّ باءٍ موحَّدة مكسورةٍ ثُمَّ مثنَّاةٍ تحت ثُمَّ شينٍ معجمةٍ، قَالَ الجَيَّانيُّ: ورُوي أنَّ معمرًا كان يصحِّف في هذا الاسم فيقول: حَبيش بن حُذافة، فرُدَّ عليه: خُنَيس، فقال: لا بل هو حبيش. قَالَ الدَّارَقُطْنيُّ: وقد اختُلف عَلَى عبد الرَّزَّاق عن مَعمرٍ، فرُوي عنه: خُنَيس بالسِّين المهملة عَلَى الصَّواب، ورُوي عنه: حَبيش أو خُنيس بالشَّكِّ، وذكره البُخاريُّ وجماعاتٌ بالمهملة والخاء عَلَى الصَّواب.
          أمَّا فِقه الباب فهو ظاهرٌ لِما ترجمَ له مِنْ عَرْض الرَّجل وليَّته ابنتَه وغيرَها عَلَى الرَّجل الصَّالح، ولا نقصَ عليه في ذَلِكَ، وفيه أنَّ مَنْ عُرِضَ عليه ما فيه الرَّغبة فله النَّظرُ والاختيار، وعليه أن يخبرَ بعد ذَلِكَ بما عندَه لئلَّا يمنعَها مِنْ غيرِه لقولِ عثمان بعد ليالٍ: (قَدْ بَدَا لِي أَلَّا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا). وفيه الاعتذار اقتداءً بعثمان في مقالته هذِه، ولم يقل أبو بكرِ: لا أريد التَّزويج، وقد كان يريدُه حين قَالَ: لو تركَها لنكحتُها، ولم يقل: نعم ولا لا.
          وفيه الرُّخصة أن يجد الرَّجلُ عَلَى صديقه في الشَّيء ويسألَه فلا يجيب إليه ولا يعتذر بما يُعذَر به لأنَّ النُّفوس جُبلت عَلَى ذَلِكَ، لا سيَّما إذا عرض عليه ما فيه الغبطة له.
          وقوله: (وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ) يعني عَلَى الصِّدِّيق (مِنْ عُثْمَانَ) سببُه أنَّ الصِّدِّيقَ لم يردَّ عليه الجواب، بل تركه عَلَى الرَّقيب، ولأنَّه أخصُّ بعمرَ منه بعثمان لأنَّه صلعم آخى بينهما، فكانت موجدته عليه أكثر لثقته به وإخلاصه له، وفي بعض الرِّوايات أنَّ عمرَ شكا عثمانَ إلى رسول الله صلعم فقال: ((يَنكِحُ حفصةَ خيرٌ مِنْ عثمان، ويَنكحُ عثمانُ خيرًا مِنْ حفصة))، فكان كذلك.
          وفيه كتمان السِّرِّ، فإن أظهره الله أو أظهرَه صاحبُه جاز للَّذي أُسِرَّ إليه إظهارُه، ألا ترى أنَّه صلعم لمَّا أظهرَ تزويجَها أعلمَ أبو بكرٍ عمرَ بما كان أسرَّ إليه منه، وكذلك فعلَتْه فاطمة ♦ في مرض رسول الله صلعم حين أسرَّ إليها أنَّها أوَّل أهلِه لحاقًا به، فكتمته حين توفِّي، وأسرَّ صلعم إلى حفصة تحريمَ مارية، فأخبرت حفصةُ عائشةَ بذلك، ولم يكن الشَّارعُ أظهره، فذمَّ اللهُ فعل حفصة وقبولَ عائشة لذلك، فقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] أي مالت وعدلت عن الحقِّ.
          وفي قول أبي بكرٍ لعمرَ بعد تزويج رسول الله صلعم لها: (لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ) دليلٌ عَلَى أنَّ الرَّجل إذا أتى إلى أخيه بما لا يصلحُ أن يُؤتى إليه مِنْ سوء المعاشرة أن يعتذرَ ويعترف، وأنَّ الرَّجلَ إذا وجب عليه الاعتذار مِنْ شيءٍ وطمعَ بشيءٍ يقوِّي حجَّته أن يؤخِّر ذَلِكَ حتَّى يظفر ببُغْيَته ليكون أَبْرَأَ له عند مَنْ يعتذر إليه.
          وفي قول عمر ☺ له دليلٌ على أنَّ الإنسان يحتجُّ بالحقِّ عَلَى نفسِه وإن كان عليه فيه شيءٌ.
          والمعنى الَّذي أسرَّ أبو بكرٍ عن عمرَ ما أخبر به الشَّارع: هو أنَّه خشِيَ أبو بكرٍ أن يذكر ذَلِكَ لعمَر ثُمَّ يبدو لرسول الله صلعم الإعراضُ عن نكاحها، فيقعُ في قلب عمرَ مِنْ رسول الله صلعم مثلُ ما وقع في قلبه مِنَ الصِّدِّيق.
          وفي قول أبي بكرٍ لعمرَ: (كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم ذَكَرَهَا) فيه دلالةٌ أنَّه جائزٌ للرَّجل أن يذكر لأصحابه ولِمَنْ يثق به أنَّه يخطب امرأةً قبل أن يظهر خطبتها، وقول الصِّدِّيق: لم أكن لأُفشي سرَّه، يدلُّ أنَّه مَنْ ذَكَر امرأةً قبل أن يُظهر خطبتَها فإنَّ ذِكره في معنى السِّرِّ، وأنَّ إفشاء السِّرِّ وغيرَه في النِّكاح أو غيرِه مِنَ المباح لا يجوز، وكان إسرارُه صلعم تزويجَ حفصة للصِّدِّيق عَلَى سبيل المشورة، أو لأنَّه صلعم علم قوَّة إيمان الصِّدِّيق وأنَّه لا يتغيَّر لذلك لكون ابنته عندَه، وكتمانه ذَلِكَ خشية أن يبدو لرسول الله صلعم في نكاحها أمرٌ فيقع في قلب عمرَ ما وقع في قلبه لأبي بكرٍ كما سلف.
          وفيه أنَّ الصِّدِّيق لا يخطبُ امرأةً عَلِم أنَّ صَديقَه يذكرُها لنفسه، وإن كان لم يركن إليه لما يُخاف مِنَ القطيعة بينهما، ولم تُخَفِ القطيعة بين غير الإخوان لأنَّ الاتِّصال بينهما ضعيفٌ غير اتِّصال الصَّداقة في الله.
          وفي قول الصِّدِّيقِ: (لَوْ تَرَكَهَا تَزَوَّجْتُهَا) دليلٌ عَلَى أنَّ الخطبة إنَّما تجوز بعد أن يتركها الخاطب، وفيه الرُّخصة في تزويج مَنْ عُرِّض لرسول الله صلعم فيها بخطبةً أو أراد أن يتزوَّجها، ألا ترى قول الصِّدِّيق: (لَو تَرَكَهَا تَزَوَّجْتُهَا)، / وقد جاء في خبرٍ آخرَ الرُّخصةُ في نكاح مَنْ عقد النَّبِيُّ صلعم عليها النِّكاح ولم يدخل بها، وأنَّ الصِّدِّيقَ كرهَه ورخَّص فيه عمرُ، روى داود بن أبي هندٍ عن عِكرمة قَالَ: تزوَّج رسول الله صلعم امرأةً مِنْ كِنْدة يُقال لها قُتَيْلة، فمات ولم يدخل بها ولا حجبَها، فتزوَّجها عِكرمة بن أبي جهلٍ، فغضب أبو بكرٍ وقال: تزوَّجتَ امرأةً مِنْ نساء رسول الله صلعم، فقال عمر: ما هي مِنْ نسائه، ما دخل بها ولا حجبَها، ولقد ارتدَّت مع مَنِ ارتدَّ فسكت.
          وفيه أنَّ الأب تُخطب إليه بنتُه، والثَّيِّب كالبكر، ولا تخطب إلى نفسها، وأنَّه يزوِّجها، وفيه فساد قول مَنْ قَالَ: إنَّ للمرأة البالغة المالكةِ أَمْرَها تزويجَ نفسِها وعقد النِّكاح عليها دون وليِّها، وإبطال قول مَنْ قَالَ: للثَّيِّب البالغة إنكاحُ مَنْ أحبَّت دون وليِّها، وسيأتي إيضاحه في باب: لا نكاح إلَّا بوليٍّ، وفي تركه أن يأمره باستئمارها _ولم يجئْ عن عمر أنَّه استأمرها_ دليلٌ أنَّ للرَّجل أن يزوِّج ابنتَه الثَّيِّب مِنْ غير أن يستأمرها إذا علم أنَّها لا تكره ذَلِكَ وكان الخاطبُ لها كفؤًا، لأنَّ حفصةَ لم تكن لترغبَ عن سيِّد الأكفاء، فأغنى علم عمرَ بها عن استئمارها.
          فائدةٌ: معنى قوله: (تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ) صارت غيرَ ذاتِ زوجٍ بموتِ زوجها عنها، والعربُ تدعو كلَّ امرأةٍ لا زوجَ لها وكلَّ رجلٍ لا امرأة له: أيِّمًا.