التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا تنكح المرأة على عمتها

          ░27▒ (بَابُ: لاَ تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا).
          5108- (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنِ الشَّعْبيِّ سَمِعَ جَابِرًا ☺: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ تُنْكَحَ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا.
          وَقَالَ دَاوُدُ وَابْنُ عَوْنٍ عَنِ الشَّعْبيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺).
          5109- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهِا).
          أخرجه مسلمٌ والنَّسَائيُّ.
          5110- (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْريِّ قَالَ: حَدَّثَنِي قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ صلعم / أَنْ تُنْكَحَ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَالْمَرْأَةُ وَخَالَتُهَا، فَنَرى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ المَنْزِلَةِ).
          5111- (لِأَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثني عَنْ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ).
          الشَّرح: قَالَ التِّرْمِذيُّ في «علله»: حَدَّثنا محمود بن غَيْلان، حَدَّثنا أبو داود عن شعبة عن عاصمٍ قَالَ: قرأت عَلَى الشَّعْبيِّ كتابًا فيه: عن جابرٍ يرفعُه: نهى أن تُنكح المرأةُ عَلَى عمَّتها أو عَلَى خالتها، فقال الشَّعْبيُّ: سمعتُ هذا مِنْ جابرٍ، وسألت مُحمَّدًا عنه فقال: يحدِّث الشَّعْبيُّ عن صحيفة جابرٍ ولم يَعرف مُحمَّدٌ حديثَ أبي داود عن شعبة.
          والتَّعليق عن داود أخرجه مسلمٌ عن مُحْرِزِ بن عَونٍ عن عليِّ بن مِسْهرٍ عنه عن مُحمَّد بن سِيرين عن أبي هريرة، وقال التِّرْمِذيُّ: حَدَّثنا الحسن بن عليٍّ عن يزيدَ بن هارونَ عن داودَ عن الشَّعْبيِّ، ورواه أبو داود عن النُّفَيْليِّ عن زهيرٍ، والنَّسَائيُّ عن إسحاقَ بن كَثيرٍ عن المعتمِر بن سليمانَ، كلاهما عن داود عن الشَّعْبيِّ به بلفظ: ((لا تُنكح المرأة عَلَى عمَّتها ولا عَلَى خالتها، ولا تُنكح العمَّة عَلَى بنت أخيها، ولا الخالة عَلَى بنت أختها، ولا تتزوَّج الصُّغرى عَلَى الكبرى، ولا الكبرى عَلَى الصُّغرى)).
          والتعليقُ عن داود بن أبي هند أخرجه مسلم والترمذي والنسائي.
          والتَّعليق عن ابن عَونٍ أخرجه النَّسَائيُّ موقوفًا عن مُحمَّد بن عبد الأعلى، حَدَّثنا خالد بن الحارث، حَدَّثنا ابن عونٍ به، وأخرجه البَيْهَقيُّ أيضًا كذلك مِنْ طريق ابن أبي عَديٍّ عن ابن عونٍ عن الشَّعْبيِّ عن أبي هريرة بلفظ: نهى أن يتزوَّج عَلَى ابنة أخيها، أو ابنة أختها.
          ورواه عن أبي هريرة أيضًا غيرُ مَنْ ذكر البُخاريِّ جماعةٌ: منهم أبو سَلَمة بن عبد الرَّحْمَن وعِرَاك بن مالكٍ عند مسلمٍ، وعبد الملك بن يسارٍ عند النَّسَائيِّ، وسعيد بن المُسَيِّب وأبو العالية عند ابن أبي حاتمٍ في «علله»، ومُحمَّد بن سِيرين عند ابن ماجَهْ، ولمَّا خرَّجه التِّرْمِذيُّ مِنْ حديث الأعمش عن أبي صالحٍ في «علله» قَالَ: كأنَّ مُحمَّدًا لم يعرفه مِنْ هذا الوجه.
          وقال ابن عبد البِّر: طريق حديث أبي هريرة متواترةٌ، ورواه عنه جماعةٌ، قَالَ الشَّافعيُّ: لم يُرو هذا مِنْ وجهٍ يثبته أهل الحديث إلَّا عن أبي هريرة، وقد رُوِي مِنْ وجهٍ لا يثبته أهل الحديث. قَالَ البَيْهَقيُّ: هو كما قَالَ الشَّافعيُّ، وقد رُوي ذَلِكَ عن عليٍّ وابن مسعودٍ وابن عمرَ وابن عبَّاسٍ وابن عمرٍو وأبي سعيدٍ وأنسٍ وعائشةَ كلُّهم مرفوعًا، زاد التِّرْمِذيُّ وأبا أُمَامة وسَمُرة. قَالَ البَيْهَقيُّ: إلَّا أنَّ شيئًا مِنْ هذِه الرِّوايات ليس مِنْ شرط الشَّيخين، وإنَّما اتَّفقا ومَنْ قبلهما ومَنْ بعدهما مِنَ الحفَّاظ عَلَى إثبات حديثِ أبي هريرة في هذا الباب والاعتماد عليه دون غيره.
          وقد أخرج البُخاريُّ رواية عاصمٍ عن الشَّعْبيِّ عن جابرٍ، والحفَّاظ يرون أنَّها خطأٌ، وأنَّ الصَّحيح رواية ابن عَونٍ وداود، قلت: قد روى النَّسَائيُّ في كتابه «الكبير» عن إبراهيم بن الحسن: حَدَّثنا حجَّاجٌ عن ابن جُرَيْجٍ عن أبي الزُّبير عن جابرٍ، وقال أبو عمرَ: زعم بعضُ النَّاس أنَّ هذا الحديث لم يُروَ عن رسول الله صلعم إلَّا مِنْ حديث أبي هريرة ☺.
          وفي حديث ابن عبَّاسٍ القائل فيه التِّرْمِذيُّ: حسنٌ صحيحٌ يرفعه: نهى أن تتزوَّج المرأة عَلَى عمَّتها أو عَلَى خالتها، وعند أبي داود مرفوعًا: أنَّه كره أن يجمع بين العمَّة والخالة، وبين الخالتين والعمَّتين، وقد صحَّ: ((إنَّكم إذا فعلتم ذَلِكَ قطعتم أرحامكم))، وفي «مراسيل أبي داود» عن عيسى بن طلحة: نهى رسولُ الله صلعم أن تُنكَح المرأةُ عَلَى قرابتِها مخافةَ القطيعة. وفي حديث أبي سعيدٍ: ((نهى عن نكاحين: أن يجمع بين المرأة وعمَّتها، وبين المرأة وخالتها)) أخرجه ابن ماجَهْ، وقال التِّرْمِذيُّ: سألت مُحمَّدًا عنه فقال: رواه بُكير بن الأشجِّ عن سليمان بن يسارٍ عن عبد الملك بن يسارٍ أخيه، عن أبي هريرة، ورواه زيد بن أسلم عن أبي سعيدٍ مرسلًا.
          وفي ابن ماجه مِنْ حديث أبي موسى: ((لا تُنكح المرأة عَلَى عمَّتها ولا عَلَى خالتها))، ولابن عبد البرِّ مِنْ حديث عمرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((لا تقدمنَّ عَلَى عمَّتها، ولا عَلَى خالتها))، وأخرجه ابن أبي شيبة بإسنادٍ جيِّدٍ إلى عمرٍو أنَّه صلعم قَالَ ذَلِكَ يومَ فتح مكَّة، وفي روايةٍ أنَّ عمرو بن العاصي ضرب رجلًا تزوَّج بامرأةٍ عَلَى خالتها، وفرَّق بينهما، وسأل ابن أبي حاتمٍ أباه عن حديثِ ابن عمر فقال: هو خطأٌ، إنَّما رواه جعفر بن بُرْقان عن رجلٍ عن الزُّهْريِّ عن سالمٍ عنه، وليس هذا مِنْ صحيح حديث الزُّهْريِّ. وقال التِّرْمِذيُّ في «علله»: سألت مُحمَّدًا عنه، فقال: غلطٌ، إنَّما هو عن الزُّهْريِّ عن قَبِيصة بن ذؤيبٍ عن أبي هريرة. وقال أحمد في رواية مهنَّا: ليس هذا الحديث صحيحًا، هو باطلٌ، وحديث جعفرٍ مضطربٌ، وإنَّما يرويه قَبيصة عن أبي هريرة ليس فيه شيءٌ غير هذا، قالوا: ولم يسمع جعفرٌ مِنَ الزُّهْريِّ. ولأبي عُبيدٍ مِنْ حديث ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حَبيبٍ عن رجلٍ مِنَ السَّكَاسِك عن أبي الدَّرداء، ولابن أبي شَيبة مِنْ حديث أبي بكر بن عيَّاشٍ عن أبي حُصينٍ عن يحيى عن مسروقٍ عن عبد الله موقوفًا.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فقام الإجماع عَلَى أنَّه لا يجوز الجمع بين المرأة وأختها وإن عَلَت، ولا بين المرأة وخالتها وإن عَلَت، ولا يجوز نكاح المرأة عَلَى ابنة أخيها، ولا عَلَى بنت أختها وإن سَفَلَتْ، كما سلف، قَالَ ابن المُنْذرِ: لست أعلم في ذَلِكَ خلافًا إلَّا عن فرقةٍ مِنَ الخوارج، ولا يُلتفت إلى خلافهم مع الإجماع والسُّنَّة، وذكر ابن حَزْمٍ أنَّ عثمانَ البتِّيَّ أباحَه، وذكر الإسْفَرايِينيُّ أنَّه قول طائفةٍ مِنَ الشِّيعة محتجِّين بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، قَالَ أبو عُبيدٍ: فيُقال لهم: لم يقلْ تعالى: إنِّي لست أحرِّم عليكم شيئًا بعد، وقد فرض الله تعالى عَلَى العباد طاعة رسوله في الأمر والنَّهي، وكان ممَّا نهى عنه ذَلِكَ، وهي سنَّةٌ بإجماعٍ.
          قَالَ ابن شِهابٍ: لا يُجمع بين المرأة وخالة أمِّها، ولا بينها وبين خالة أبيها، ولا بين المرأة وعمَّة أبيها، ولا بينها وعمَّة أمِّها. وعقد ربيعة ومالكٌ في هذا أصلًا فقالا: كلُّ امرأتين لو قُدِّرت إحداهما ذكرًا لم يحلَّ له نكاح الأخرى، فلا يجوز له الجمع بينهما، وإنَّما جاز الجمع بين المرأة وربيبتها، لانخرام ذَلِكَ لأنَّا لو جعلنا موضع الرَّبيبة ذكرًا لم يحلَّ له زوجة أبيه، وإذا جعلنا موضع الزَّوجة رجلًا لم يحرم أن يتزوَّج ابنة رجلٍ أجنبيٍّ. وعبارة عبد الملك بن حَبيبٍ: لا يجمع بين المرأة وعمتها وعمة عمَّتها، وعمَّة أبيها، وخالة أمِّها، وكذلك المرأة وخالتها، وخالة خالتها وخالة أبيها، وعمَّة أمها.
          فأمَّا خالة عمَّتها فقال ابن الماجِشُون: قَالَ لي: إن تكن أمُّ العمَّة وأمُّ الأب واحدةً، فهي كالخالة لأنَّها خالة أبيها، وإن تكن أمُّها غيرَ أمِّ الأب فلا بأس بالجمع بينهما، إنَّما هي امرأةٌ أجنبيَّةٌ، ألا ترى أنَّ أباها ينكحها. وقال غيره: إنَّما ينكح خالة العمَّة أخو العمَّة لأنَّها أختٌ لأبٍ، والخؤولة إنَّما تحرِّم مِنْ قبل الأمِّ، فإذا كانت مِنْ قبل الأب فلا حرمة لها، كرجلٍ له أخٌ لأبٍ ولذلك الأخ له أختٌ لأمٍّ فتحل له لأنَّهما لا يجتمعان / لا إلى أبٍ ولا إلى أمٍّ.
          قَالَ ابن الماجِشُون: وأمَّا عمَّة خالتها فإن تكُ خالتها أخت أمِّها لأبيها فإنَّ عمَّة خالتها عمَّة أمِّها لا يجتمعان، ألا ترى أنَّه لو كان في موضعها رجلٌ لم تحلَّ له، وإن كانت خالتها أختَ أمِّها لأمِّها دون أبيها، فلا بأس أن يجمع بينها وبين عمَّة خالتها لأنَّها منها أجنبيَّةٌ، لو كانت إحداهما رجلًا حلَّت له الأخرى.
          وورد في حديثٍ آخر أنَّه صلعم نهى أن يجمع بين عمَّتين أو بين خالتين، قيل في العمَّتين: أن تكون كلُّ واحدةٍ عمَّة الأخرى، وذلك أن يتزوَّج الرَّجلان كلُّ واحدٍ منهما أمَّ الآخر، فيولد لهما ابنتان، فابنة كلِّ واحدةٍ منهما عمَّة الأخرى، والخالتان أن يتزوَّج كلُّ واحدٍ ابنة الآخر فابنة كلِّ واحدٍ منهما خالة الأخرى.
          وأمَّا قول الزُّهْريِّ: فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة لأنَّ عروة حَدَّثني عن عائشة ♦ قالت: حرِّموا مِنَ الرَّضاع ما يحرم مِنَ النَّسب، فهذا استدلالٌ غير صحيحٍ مِنَ الزُّهْريِّ، لأنَّه استدل عَلَى تحريم مَنْ حرُمت بالنَّسب فلا حاجة إلى تشبيهها بما حرم مِنَ الرَّضاع.
          قَالَ ابن المُنْذرِ: ويدخل في معنى هذا الحديث تحريم نكاح الرَّجل المرأةَ عَلَى عمَّتها مِنَ الرَّضاعة، وخالتها منها لأنَّه يحرم مِنَ الرَّضاع ما يحرم مِنَ النَّسب.
          قَالَ ابن عبد البرِّ: شَغَبَتْ فرقةٌ، فقالوا: لم يُجمِع العلماء عَلَى تحريم الجمع بين المرأة والعمَّة لحديث أبي هريرة، وإنَّما أجمعوا عَلَى ذَلِكَ بمعنى نصِّ القرآن في النَّهي عن الجمع بين الأختين، والمعنى في ذَلِكَ أنَّ الله حرَّم نكاح الأخوات فلا يحلُّ لأحدٍ نكاحُ أخته مِنْ أي وجهٍ كانت، فكان المعنى في ذَلِكَ أنَّ كلَّ امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يحلَّ له نكاح الأخرى، لم يحلَّ لأحدٍ الجمع بينهما. قلتُ: وهذا رواه معتمِر بن سليمان عن فُضَيل بن مَيْسرة عن أبي حَرِيزٍ عن الشَّعْبيِّ قَالَ: كلُّ امرأتين إذا جعلت موضعَ إحداهما ذكرًا لم يجز له أن يتزوَّج أخرى، والجمع بينهما حرامٌ، قلت له: عمَّن؟ قَالَ: عن أصحاب مُحمَّدٍ صلعم. قَالَ ابن عبد البرِّ: وهذِه الفرقة تنطَّعت وتكلَّفت استخراجَ علَّة الإجماع، وهذا لا معنى له، لأنَّ الله تعالى لمَّا حرَّم عَلَى عباده مِنْ هذِه الأمَّة اتِّباع غير سبيل المؤمنين، واستحال ذَلِكَ أن يكون في غير الإجماع، لأنَّ الاختلاف لا يكون اتَّباع سبيل المؤمنين، فبان بهذا أنَّ مَنِ اتَّبع غير سبيلِهم وما أجمع عليه المؤمنون فقد فارقَ جماعتهم وخلع رِبْقَة الإسلام مِنْ عنقه، وولَّاه اللهُ ما تولَّى وأصلاه جهنَّم وساءت مصيرًا، ووضح بهذا أن متى صحَّ الإجماع وجبَ الاتِّباع، ولم يحتج إلى علِّةٍ تُستخرج برأيٍ لا يُجتمع عليه.