التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: حسن المعاشرة مع الأهل

          ░82▒ بابُ حُسْنِ المُعَاشَرَةِ مَعَ الأَهْلِ.
          5189- حَدَّثنا سليمانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحمن وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عبد اللهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: (جَلَسَ إِحْدى عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَلَّا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا.
          قَالَت الأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٌّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ.
          قَالَت الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّي أَخَافُ أَلَّا أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ.
          قَالَتِ الثَّالِثَةُ: زَوْجِي العَشَنَّقُ، إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ.
          قَالَت الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ، وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ.
          قَالَتِ الخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ.
          قَالَتِ السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ، وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِنِ اضْطَجَعَ التَفَّ، وَلَا يُولِجُ الكَفَّ لِيَعْلَمَ البَثَّ.
          قَالَتِ السَّابِعَةُ: زَوْجِي عَيَايَاءُ _أَوْ غَيَايَاءُ_ طَبَاقَاءُ، كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ، شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ.
          قَالَتِ الثَّامِنَةُ: زَوْجِي المَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرِّيحُ ريحُ زَرْنَبٍ.
          قَالَتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفَيعُ العِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّادِ.
          قَالَتِ العَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِك، لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ المَبَارِكِ قَلِيلاَتُ المَسَارِحِ، إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ المِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ.
          قَالَتِ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ، فَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيِّ أُذُنَيَّ، وَمَلأَ مِنْ شَحْمِ عَضُدَيَّ، وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ، فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ / وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلا أُقَبَّحُ، وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتقَمَّحُ، أُمُّ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ، وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ، ابن أَبِي زَرْعٍ، فَمَا ابن أَبِي زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ، وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ، بِنْتُ أَبِي زَرْعِ، فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَمِلْءُ كِسَائِهَا، وَغَيْظُ جَارَتِهَا، جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ، فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا، وَلَا تُنْقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا، وَلَا تَمْلأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا، خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعها وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ، فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَريًّا، رَكِبَ شَرِيًّا وَأَخَذَ خَطِّيًّا وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا، وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا وَقَالَ: كُلِي أَمَّ زَرْعٍ، وَمِيرِي أَهْلَكِ، قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءِ أَعْطَانِي مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ.
          قَالَتْ عائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ).
          هذا الحديث عظيمٌ حفيلٌ جمُّ الفوائد، أُفرد بالتَّأليف، أفرده أبو القاسم بن حبَّان، والقاضي، وابن قتيبة، وقد أخرجه مسلمٌ في «صحيحه»، وكذا التِّرْمِذيُّ في «شمائله»، والنَّسائيُّ في «عشرة النِّساء» عن عليِّ بن حجرٍ به، ونختصر الكلام عليه في وجوهٍ:
          أحدُها: الحديث أخرجه النَّسائيُّ مِنْ حديث عبَّاد بن منصورٍ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، والمحفوظ حديث هشامٍ عن أخيه كما أسلفناه.
          قال عياضٌ: اختُلف في سند هذا الحديث ورفعِه مع أنَّه لا اختلاف في صحَّتِه، وإنَّ الأئمَّة قد قبلوه ولا مخرج له _فيما انتهى إليَّ_ إلَّا مِنْ رواية عُروة عن عائشة، فرُوي مِنْ غير طريقٍ عن عُروة عنها مِنْ قول رسول اللهِ صلعم، كلُّه هكذا، رواه عبَّاد بن منصورٍ والدَّرَاوَرْديُّ، وعبد اللهِ بن مصعبٍ الزُّبيريُّ، ويونس بن أبي إسحاق؛ كلُّهم عن هشامٍ عن أبيه عنها عن رسول اللهِ صلعم.
          وكذا رواه أبو مَعشرٍ عن هشامٍ، لكنَّه قال: عن هشامٍ وغيرِه مِنْ أهل المدينة عن عُروة عنها مرفوعًا بطولِه، وكذا رفعَه القاسم بن عبد الواحد، إلَّا أنَّه قال: حدَّثني عمر بن عبد اللهِ بن عروة عن عروة عنها مرفوعًا، كذا ذكره النَّسائيُّ.
          وقال الدَّارَقُطنيُّ: عمر عن أبيه عن عائشة، جعلوه مِنْ قول رسول اللهِ صلعم نصًّا مِنْ غير احتمالٍ، وأسندوه بطولِه. وكذا ظاهر رواية حنبل بن إسحاق عن موسى بن إسماعيل عن سعيد بن سَلَمة عن هشامٍ، إلَّا أنَّه قال: عن هشامٍ عن أخيه عن أبيه عن عائشة قالت: قال لي رسول اللهِ صلعم: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ) ثُمَّ أنشأ يُحدِّث حديث أمِّ زرعٍ بطوله، وكذا قال أحمد بن داود الحرَّانيُّ عن عيسى بن يونس عن هشامٍ عن أخيه عبد اللهِ عن أبيه عن عائشة عن رسول اللهِ صلعم.
          وكذا حكاه عنه القاسم بن سَلَّامٍ، وكذلك رفعَه الهيثم بن عَديِّ عن هشامٍ، إلَّا أنَّه قال: عن أخيه يحيى بن عُروة عن عُروة وساقه كلَّه مِنْ قول رسول اللهِ صلعم نصًّا.
          رواه عليُّ بن حجرٍ وابن جَنَابٍ وسليمان بن عبد الرَّحمن وغُنْدَرٌ وهشام بن عمَّارٍ ومُحمَّد بن جعفرٍ الوَرْكَانيُّ، وصالح بن مالكٍ الخُوَارِزميُّ عن عيسى بن يونس عن هشامٍ عن عبد اللهِ بن عُروة عن عُروة عنها مِنْ قولها.
          وكذا أسندَه سُوَيد بن عبد العزيز عن هشامٍ وحسنٍ الحُلْوانيِّ عن ابن أبي الحسام عنه، وكذا رواه ابن عقبة عن أبيه عقبة بن خالدٍ عن هشامٍ، إلَّا أنَّه قال: عن أبيه عن عائشة، وكذا قاله ابن أبي أُويسٍ ويوسف بن زيادٍ وسليمان بن بلالٍ وعبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد عن هشامٍ وأبو معاوية الضَّرير عنه مختصرًا.
          وكذا ساقه داود بن شابُورٍ عن عمر بن عبد اللهِ بن عروة عن عروة ويُقال عن أبيه عن عائشة مِنْ قولها. وقال عقبة بن خالدٍ أيضًا: عن هشامٍ حدَّثني يزيد بن رُوْمان عن عروة عنها عن رسول اللهِ صلعم بمثلِه مختصرًا، يريد قولَه: (كُنْتُ لَكِ) إلى آخرِه، وكذا قال أبو أويسٍ وإبراهيم بن أبي يحيى عن ابن رُوْمان عن عُروة عنها عن رسول اللهِ صلعم.
          قال النَّسائيُّ إثر حديث عقبة: يريد قولَه: (كُنْتُ لَكِ) إلى آخرِه.
          وقد وقع مفسَّرًا عن غير النَّسائيِّ، قال أحمد بن حنبلٍ: فذكر منه حرفًا، قال: (كُنْتُ لَكِ) إلى آخرِه، وفي رواية ابن حَبيبٍ: قالت عائشة: فكان رسول اللهِ صلعم كثيرًا ما يقول لها إذا عَبَّر: ((يا عائشة كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ)) زاد في بعض الرِّوايات: ((إنَّه طلَّقها وإنِّي لا أطلِّقك)) ذكرها أحمد بن خالدٍ في «مسنده». وعند ابن الأنباريِّ: ((كنتُ لك كأبي زَرعٍ لأمِّ زرعٍ في الأُلْفة والرَّفاء لا في الفُرقة والجلاء)) قال: وقال عُروة: إنَّما يردُّ هذا الحديث بهذا الحرف، فذكره.
          قال القاضي: ولا خلاف في رَفْعِ قولِه: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ) والخلاف في بقيَّتِه. وقال الخطيب أبو بكرٍ: المرفوع مِنْ: (كُنْتُ) إلى آخرِه، وما عداه فمِنْ كلام عائشة ♦ حدَّثت به هي رسول اللهِ صلعم، بَيَّنَ ذلك عيسى بنُ يُونَس في روايتِه، وأبو أويسٍ وأبو معاوية وقد رُوِيَ أنَّ القائلَ في حديث سعيد بن سلمة: ((ثُمَّ أنشأ يُحدِّث الحديث)) هُوَ هِشَامٌ، حكى أنَّ أباه أنشأ يُحدِّث الحديث، فأوهم السَّامع مِنْ ذلك أنَّ عائشة أخبرت به عن رسول اللهِ صلعم.
          وقال الآجُرِّيُّ، عن أبي داود: لمَّا حدَّث هشام بن عروة بحديث أمِّ زرعٍ هجره أبو الأسود، يتيم عُروة، وقال: لم يحدِّث عُروة بهذا، إنَّما كان تحديثًا بهذا يقطع السَّفر.
          وفي «كتاب العُقَيليِّ»: قال أبو الأسود مُحمَّد بن عبد الرَّحمن: لم يكن أحدٌ يرفع حديث أمِّ زرعٍ غير هشامٍ، وقال الدَّارَقُطْنيُّ: الصَّحيح عن عائشة أنَّها هي حدَّثت رسول اللهِ صلعم بقصَّة النِّسوة، فقال لها حينئذٍ: (كُنْتُ لَكِ) إلى آخرِه.
          وقول عيسى بن يونس وسعيد بن سلمة وسُويد بن عبد العزيز / ومَنْ تابعهم عن هشامٍ، عن أخيه عبد اللهِ عن أبيه عنها وهو الصَّواب، ولا يدفع قول عقبة: عن هشامٍ عن ابن رُوْمان عن عُروة عنها.
          الوجه الثَّاني: في الخبر الَّذي حكاه ابن الأنباريِّ مِنْ رواية الهيثم بن عَديٍّ عن هشامٍ أنَّها قالت: ((جلس إحدى عشرةَ امرأةً في الجاهليَّة)) والهيثم متكلَّمٌ فيه، وفي الخبر الَّذي رواه الدَّرَاوَرْديُّ أنَّهنَّ مِنْ بطنٍ مِنْ بطون اليمن، وأنهنَّ اجتمعن بقريةٍ مِنْ قرى اليمن، ورُوي أيضًا في هذا الحديث مِنْ رواية أحمد بن عُبيد بن ناصحٍ عن الهيثم بسندِه عن عائشة ♦ قالت: قال لي رسول اللهِ صلعم _وقد اجتمع نساؤه ليخصَّني بذلك_: ((يا عائشة كنتُ لك كأبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ)) قلت: يا رسول اللهِ، ومَنْ أبو زرع؟ فقال: ((اجتمع نسوةٌ مِنْ قريشٍ بمكَّة، إحدى عشرةَ امرأةً..)) وساق الحديث، وهو مخالفٌ للأوَّل.
          قال عياضٌ: وقرأتُ في بعض كتب الأدباء أنَّ امرأةً زوَّجت إحدى عشرةَ ابنةً لها في ليلةٍ ودخل بهنَّ أزواجهنَّ، فأمهلتهنَّ سنةً ثُمَّ زارتهنَّ، فسألت كلَّ واحدةٍ عن زوجها، فأخبرتها بصفةٍ، فوافق حديث أمِّ زرعٍ كلام صاحب (المَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ) بنصِّه، وصاحبة (رَفِيعُ العِمَادِ) وصاحبة (زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ)، وخالف في البواقي. ويشبه أنَّه موضوعٌ، فإنَّ ألفاظه تُنبئ عن ذلك، رُكِّب على حديث أمِّ زرعٍ، ولا يصحُّ أن يكون هذا؛ لصحَّة حديث أمِّ زرعٍ وضعْفِ هذا، وإنَّما ذكرنا في بعض روايات حديث أمِّ زرعٍ ما دلَّ أنهنَّ غير أخواتٍ.
          الوجه الثالث: في بيان أسمائهنَّ: قال الخطيب: لا أعلم أحدًا سمَّى النِّسوة في حديثٍ إلَّا مِنَ الطَّريق الَّذي أذكرُه، وهو غريبٌ جدًّا، ثُمَّ ساقَه مِنْ حديث الزُّبَير بن بَكَّارٍ، حدَّثني مُحمَّد بن الضَّحَّاك الحزاميُّ عن الدَّرَاوَرْديِّ عن هشامٍ عن أبيه عن عائشة: دخل عليَّ رسول اللهِ صلعم وعندي بعض نسائِه فقال: ((أنا لكِ كأبي زَرعٍ)) قلت: يا رسول اللهِ، وما حديث أبي زرعٍ؟ فقال: ((إنَّ قريةً مِنْ قرى اليمن كان بها بطنٌ مِنْ بطون اليمن، وكان منهنَّ إحدى عشرةَ امرأةً، وإنهنَّ خرجن إلى مجلسٍ مِنْ مجالسهنَّ)) فذكر الحديث.
          وسمَّى الثَّانية عَمْرة، وسمَّى الثَّالثة حُبَّى بنت كعبٍ، والرَّابعة مُهْرة بنت أبي هزومة، أو مرومة، والخامسة كبشة، والسَّادسة هندٌ، والسَّابعة حُبَّى بنت علقمة، والثَّامنة بنت أوس بن عبدٍ، والعاشرة كبشة بنت الأرقم، وأمُّ زَرعٍ بنت أُكَيْمِلِ بن ساعدة.
          قلت: ولمَّا ساقه أبو القاسم عبد الحكيم بن حبَّان في كلامِه على هذا الحديث مِنْ هذا الوجه ساقه مِنْ طريق الأسود بن خير المَعَافِريِّ، قال: دخل رسول اللهِ صلعم على عائشة وفاطمة، وقد جرى بينهما كلامٌ فقال: ((ما أنت بمنتهيةٍ يا حُمَيراء _أو يا شُقَيراء_ عن ابنتي، إنَّ مثلي ومثلك كمثل أبي زرعٍ وأمِّ زرعٍ)) فقالت: يا رسول اللهِ حدِّثنا عنهما، فقال: ((كانت قريةٌ فيها إحدى عشرةَ امرأةً، وكان الرِّجال خلوفًا _يعني غُيَّبًا_ فقلن: تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب)) فذكر نحو حديث أبي بشرٍ، وسمَّاها ابن دُريدٍ في «وشاحه»: عاتكة.
          الوجه الرَّابع: قولُها: (جَلَسَ) كذا في الأصول، ووقع في مسلمٍ بنونٍ، وهنا: (امرأة)، وفي أخرى: ((نسوة)). وللنَّسائيِّ: ((اجتمعن)) ولأبي عُبيدٍ: ((اجتمعت)) بالتَّاء.
          قال ابن التِّينِ: وقولُه: (جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ) أي: جمع إحدى عشرة مثل: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف:30] قال عياضٌ: والأحسن في الكلام حذف علامة التَّأنيث ونون الجماعة، وباب العدد في العربيَّة أنَّ ما بين الثَّلاثة إلى العشرة مضافٌ إلى جنسه، ومِنْ أحد عشرَ إلى تسعةٍ وتسعين مميَّزٌ بواحدٍ يدلُّ على جنسِه، وما بعد هذا مضافٌ إلى واحدٍ مِنْ جنسِه، وقد جاء هنا: (النِّسوة)، وهو جنسٌ بعد أحد عشرة، وهو خارجٌ عن وجه الكلام، ولا يصحُّ نصبُه على التَّفسير إذ لا تفسير في العدد إلَّا بواحدٍ، ولا يصلح إضافة العدد الَّذي قبله إليه، ووجه نصبِه عندي على إضمار: أعني، أو يكون مرفوعًا بدلًا مِنْ أحدَ عشرَ، وهو الأظهر، وعلى هذا أعربوا قولَه تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف:160] الأسباط بدلٌ مِنْ {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ}، وليس بتفسيرٍ فيما قالَه الفارسيُّ وغيرُه.
          وقولُها: (جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ) قال النَّحويُّون: يجوز: جلست، كما تقول في واحدةٍ: جلست امرأةٌ، ولو قلت: قام الرِّجال جاز، ويجوز: قامت، بتقدير: قامت جماعة الرِّجال، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14].
          الوجه الخامس: فيه جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة، وضرب الأمثال بها، والتَّأسِّي بأهل الإحسان مِنْ كلِّ أمَّةٍ، أَلَا ترى أنَّ أمَّ زرعٍ أخبرت عن أبي زَرعٍ بجميل عشرتِه فتمثَّله الشَّارع.
          وفيه جواز تذكيرُ الرَّجل امرأتَه بإحسانِه إليها لأنَّه لمَّا جاء مِنَ النِّساء كفران العشير جاز تذكيرهنَّ بالإحسان.
          الوجه السَّادس: قول المرأة الأولى: (زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٌٍّ) أي: مهزولٌ، يُقال: غَثَّ يَغِثُّ، والغَثُّ: الفاسد مِنَ الطَّعام، والأصل هنا: الهزيل لقولِها بعدُ: (لا سَمِينٍ فَيُنْتَقَى) قال أبو سعيدٍ النَّيْسابُوريُّ: ليس شيءٌ مِنَ الغَثاث مِنَ الأزواج الثَّمانية هو أخبث غَثاثَةً مِنَ الجمل لأنَّه يجمع خبث طعمٍ وخبث ريحٍ، حتَّى ضُرب به المثل.
          وقولُها: (عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ) قال أبو عُبيدٍ: تصف قلَّة خيرِه وبعدَه مع القلَّة كالشَّيء في قُبَّة الجبل الصَّعب لا يُنال إلَّا بالمشقَّة لقولِها: (لَا سَهُلٍ فَيُرْتَقَى) يعني الجبل.
          (وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَى) يعني: يستخرج نِقْيُه _بكسر النُّون وسكون القاف_ وهو المخُّ، ومَنْ روى: ((فَيُنْتَقَل)) يريد: ليس بسمينٍ فينقله النَّاس إلى بيوتهم فيأكلونه، بل يتركونه رغبةً عنه لِرَدَائَتِه، وصفت زوجها بالبخل، وقلَّة الخير، وبُعْده مِنْ أن يُنال خيرُه مع قلَّته _كما أسلفناه_ كاللَّحم الهزيل المنتن الَّذي يُزهد فيه فلا يُطلب، فكيف إذا كان على رأس جبلٍ صعبٍ وعرٍ لا يُنال إلَّا بمشقَّةٍ، وذهب الخطَّابيُّ إلى أنَّ تمثيلَها بالجبل الوعر إشارةٌ إلى سوء خلقِه والذَّهاب بنفسه وترفعيها تِيْهًا وكِبْرًا، تريد: مع أنَّه مع قلَّة خيرِه يتكبَّر على عشيرتِه، فيجمع إلى البخل سوء الخلق، وهو تشبيه الجليِّ بالخفيِّ، والتَّوهُّم بالمحسوس، والحقير بالخطير.
          قال عياضٌ: ويجوز في (غَثٍّ) الرَّفعُ وصفًا لـ (لحمُ)، والكسر وصفًا للجمل، وقد رُوي بالوجهين، ومنهم مَنْ رواه: (لحمٌ غَثٌّ) بالرَّفع على ما تقدَّم، وبالكسر على الإضافة بتقدير حذف (جمل) وإقامة وصفِه مقامَه.
          وقولُه: (لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى) يجوز فيه ثلاثة أوجهٍ كلُّها مرويَّةٌ: نصبُ (لَا سهلَ) دون تنوينٍ، ورفعُها، وخفضُها منوَّنةً، وأَغرَبُهَا عندي الرَّفع في الكلمتين.
          واستدلَّ بعض العلماء مِنْ هذا أنَّ ذكر السُّوء والعيب إذا ذكرَه أحدٌ فيمَن لا يُعرف بعينِه / واسمِه أنَّه ليس بغيبةٍ، وإنَّما الغيبة أن يقصد معيَّنًا بما يكره لأنَّه ◙ قد حكى عن بعض هؤلاء النِّسوة ما ذكرْنَه مِنْ عيب أزواجهنَّ، ولا يحكي عن نفسِه أو غيرِه إلَّا ما يجوز ويُباح، ذكره الخطَّابيُّ.
          قال عياضٌ: ورأيت أبا عبد اللهِ مُحمَّد بن عليٍّ التَّميميَّ لا يرتضي هذا القول، وقال: إنَّما كان يكون هذا حجَّةً أنْ لو سمع رسول اللهِ صلعم امرأةً تغتاب زوجَها ولا تسمِّيهِ فأقرَّها عليه، وأمَّا هذه الحكاية عن نساءٍ مجهولاتٍ غير حاضراتٍ، فينكر عليهنَّ، فليس بحجَّةٍ في جواز ذلك وحالهنَّ كحال مَنْ قال: في العالم مَنْ يسرق ويزني، فلا يكون غيبةً، ولكنَّ المسألة لو نزلت لوصف امرأةٍ زوجَها بما هو غيبةٌ وهو معروفٌ عند السَّامع، فإنَّ ذلك ممنوعٌ، ولو كان مجهولًا كان لا حرج فيه على رأي بعضهم، وللنَّظر فيه مجالٌ.
          فصل: في بعض الرِّوايات: ((جبل وعر)) أي: غليظٌ حَزَنٌ يصعب الصُّعود إليه، ورُوي: ((على رأس قَوْزٍ وعرٍ)) قال أبو بكرٍ: القَوْزُ: العالي مِنَ الرَّمل، فالصُّعود فيه شاقٌّ.
          ويجوز في قولِه (وَلَا سَمِينٍ) الرَّفع صفةً لـ(لَحْمُ)، والخفض نعتٌ للجبل، ذكره ابن التِّينِ، وقِيل: ليس ممَّا يُرغب فيه ينقله النَّاس إلى بيوتهم.
          الوجه السَّابع: قول الثَّانية: (لَا أَبُثُّ) أي: لا أنشر ولا أذكر، ورواه بعضُهم: (أَنُثُّ) بالنُّون ومعناهما واحدٌ إلَّا أنَّ النُّون أكثر ما يُستعمل في الشَّرِّ، ومعنى (أَذَرُهُ) أَدَعَه، والعُجَرُ: معقد العروق والعصب في الجسد حتَّى تراها ناتئةً مِنَ الجسد. والبُجَر كذلك إلَّا أنَّها مختصَّةٌ بالبطن، فيما ذكره الأصمعيُّ، واحدها بُجْرةٌ، ومنه قِيل: رجلٌ أَبْجر، إذا كان عظيم البطن، وامرأةٌ بَجراء، يُقال: فلانٌ بُجْرةٌ، إذا كان ناتئ السُّرَّة عظيمَها، وقال الأخفش: العُجَر: العُقد في سائر البدن، والبُجَر يكون في القلب.
          وقال أبو سعيدٍ النَّيْسابوريُّ: لم يأت أبو عُبيدٍ بالمعنى في هذا، وإنَّما عَنَتْ أنَّ زوجها كثير العيوب في أخلاقِه، منعقد النَّفس عن المكارم. وقال ابن فارسٍ: البُجْرة: خروج السُّرَّة، والرَّجل البُجَر، وفي المثل: أفضيت إليه بِعُجَرِي وَبُجَرِي، أي: بأمري كلِّه. وقال الدَّاوُديُّ: العُجَر والبُجَر: عُروق البطن والذِّراعين، وبالجملة فإنَّها أرادت أن تَكْنِي عن جميع عيوبِه مِنْ غير تفسيرٍ. وقال ابن الأعرابيِّ: العُجَر: بعجة في الظَّهر، فإذا كانت في السُّرَّة فهي بُجْرةٌ، ثُمَّ يُنقلان إلى الهموم والأحزان.
          قال الأصمعيُّ: يُستعمل ذلك في المعايب، أي: أذكر عيوبَه، وقال يعقوب: أسرارَه، وعبارة غيرِه: عيوبَه الباطنة، وأسرارَه الكامنة. قال ثعلبٌ في العُجَر والبُجَر: ومنه قول عليٍّ في الجمل لمَّا رأى طلحة بن عبيد اللهِ قتيلًا: أَعْزِزْ عليَّ أبا مُحمَّدٍ أن أراك معفَّرًا تحت نجوم السَّماء وفي بطون الأودية، شقيت نفسي وقلَّت معشري، إلى اللهِ أشكو عُجَري وبُجَري، أي: همومي وأحزاني، وقِيل: العُجَر ظاهر، والبُجَر باطنها.
          قال الشَّاعر:
لَمْ يَبْقَ عِنْدِيْ مَا يُباَعُ بِدِرْهَمٍ                     يكفيك عُجْر حالتي عن بُجَري
إلَّا بقايا ماء وجهٍ صنته                     لأبيعه فعسى تكون المشتري
          والهاء في (أَذَرُه) عائدةٌ على الخبر أي: لطولِه وكثرتِه إن بدأتُه على إتمامِه، ويعضدُه رواية: ((ولا أقدر قدره)). وفيه تأويلٌ آخر ذكرَه أحمد بن عُبيد بن ناصحٍ: أنَّ الهاء عائدةٌ على الزَّوج، وكأنَّها خشيت فراقَه إن ذكرتْه، وقاله الدَّاوُديُّ أيضًا.
          وعلى هذا تكون (لا) زائدةً، كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، ويحتمل عدم زيادتها _كما ذكره القُرْطُبيُّ_ وأنَّها خافت ألَّا تتركَه معها مُمْسِكًا لها في صحبتِها، ويحتمل _كما قال عياضٌ_ جاز رجوع الهاء إلى الزَّوج تأويلًا آخر، أي: إن أخبرت بشيءٍ مِنْ عيوبِه ونقائصِه أفضى ذلك إلى ذكر شيءٍ أقبح منه، وقد عاهدت صواحبَها ألَّا تكتم شيئًا مِنْ صفاتِه عنهنَّ، فلزمت ما تعاقدت عليه معهنَّ، وذهبت إلى ستر عيوبه لكثرتِها، ولم ترَ أنْ تذكر بعضًا دون بعض، فإنَّها إن ذكرت شيئًا تسبَّبت به إلى ذكر شيءٍ آخر، فرأت الإمساك أولى، يدلُّ على هذا ما وقع في بعض طُرُقِه: ((أخاف ألَّا أذره مِنْ سوءٍ)) قال عياضٌ: أرى واللهُ أعلم أنَّ زوج هذه كان مستور الظَّاهر رديء الباطن، فلم تُرد هَتْك ستره، وأنَّها إن تكلَّمت بما عاقدت عليه صواحبَها كشفت مِنْ قبائحِه ما استتر، بل لَوَّحت وما صرَّحت، وجملت وما شرحت، واكتفت بالإيماء والإجمال في الخبر عنه، ولم تهتك الحجاب عن عوراتِه ما عرفت منه.
          الوجه الثَّامن: قول الثَّالثة: (الْعَشَنَّقُ) بفتح العين المهملة ثُمَّ شينٍ معجمةٍ ثُمَّ نونٍ مشدَّدةٍ ثُمَّ قافٍ وهو الطَّويل، قاله الأصمعيُّ وأبو عُبيدٍ، وعبارة الجوهريِّ عن الأصمعيِّ أنَّه الطَّويل الَّذي ليس بمثقَّل ولا ضخمٍ، مِنْ قومٍ عَشَانِقَةٍ، والمرأة عَشَنَّقةٌ، تقول: ليس عندي شيءٌ أكثر مِنْ طولِه بلا نفعٍ فله مَنْظرٌ بلا مَخْبرٌ، والطُّول في الغالب دليل السَّفَهِ، وقد عُلَّل ذلك ببعد الدِّماغ مِنَ القلب.
          فإن ذَكَرْتُ ما فيه مِنَ العيوب طلَّقني، وإن سكتُّ تركني معلَّقةً لا أيِّمًا ولا ذات بعلٍ، ومنه قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:1296] وخطَّأهم في ذلك عبد الملك بن حَبيبٍ وقال: العَشَنَّق: المقدام على ما يريدُ، الشَّرِسُ في أمورِه، بدليل وصفِها له. وقال أبو سعيدٍ النَّيْسَابوريُّ: الصَّحيح غير ما ذكره أبو عُبيدٍ أنَّه مِنْ الرِّجال الطَّويل النَّجيب، الَّذي ليس أمرُه إلى امرأتِه وأمرُها إليه، فهو يحكم فيها بما يشاء وهي تخافُه، وقال صاحب «العين»: إنَّه الطَّويلُ العُنُقِ. وقال ابن قتيبة: وقيل: إنَّه القصير. قال ابن الأنباريِّ: فكأنَّه جعله مِنَ الأضداد، ولا أعرفه عند أهل اللُّغة.
          قلت: فَوَصْفُهَا له _على رأي أبي عُبيدٍ_ مدحٌ؛ لأنَّ العرب تمدح الرِّجال والسَّادة بطول القامة، ويحتمل أن تريد علاقةً بالحبِّ، فلذلك كانت تكره النُّطق خوف المفارقة، وعند غيره أنَّها ذَامَّةٌ له تخبر أنَّ له مَنْظَرًا بلا مَخْبرٍ.
          فائدةٌ: العَشَنَّطُ بمعنى العَشَنَّقِ.
          الوجه التَّاسع: قول الرَّابعة: (تِهَامَةَ) مِنْ بلاد الحجاز. وقال ابن بطَّال: إنَّها اسم مكَّة، وحرُّها شديدٌ نهارًا، وليلها معتدلٌ، فتذهب الشِّدَّة وتعتدل. وخصَّته بهذا ووصفَتْه بحسن صُحبتِها، وجميل عشرتِها، واعتدال حالِه، وسلامة باطنِه، وثقتِها به، وذلك أنَّ الحَرَّ والقُرَّ _بضمِّ القاف وهو البرد_ كلاهما فيه أذًى إذا اشتدَّ، وهذا لا غائلة عندَه، ولا شرَّ فأخافه، ولا يسأمني، ولا يستثقل بي فيملَّ صحبتي.
          زاد في روايةٍ / : ((والغيث غيث غمامة)) أي: جوده ينهلُّ، فيحيا به الأنام كغيث الغمام.
          الوجه العاشر: قول الخامسة: (فَهِدَ) بفتح الفاء وكسر الهاء وقد تُسكَّن، تصفُه إذا دخل البيت بكثرة النَّوم، والغفلة في منزله على وجه المدح له لأنَّ الفهد كثير النَّوم، يُقال: أنوم مِنْ فهدٍ.
          و(أَسِدَ) بفتح الهمزة وكسر السِّين وَصْفٌ له بالشَّجاعة، ومعناه: إذا صار بين النَّاس أو خالط الحرب كان كالأسد، يُقال: أَسِدَ واسْتَأْسَد بمعنًى، وَصَفَتْهُ بالصِّفة الغالبة على هذين الحيوانين مِنَ السَّلاطة والسُّكون في حال الخلوة، والعرب تمتدح بذلك، قال:
أَسَدٌ ضَارٍ إذا هيَّجْتَه                     وأبٌ برٌّ إذا ما قَدَرا
يَعْلَمُ الأَقْصَى إِذَا اسْتَغْنَى وَلَا                     يَعْلَمُ الأَدْنَى إِذَا مَا افْتَقَرَا
          ومِنْ هذا المعنى قولُه:
فتًى كَانَ يُدْنِيهِ الغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ                     ذَا هُوَ ما اسْتَغْنَى ويَبْعُدُ بالفَقْرِ
          وكان عليٌّ إذا سمعَه يقول: ذاك طلحة بن عبيد اللهِ.
          وقولُها: (وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) أي: لا يتفقَّد ما ذهب مِنْ ماله، ولا يلتفت إلى معايب البيت وما فيه، كأنَّه ساهٍ عن ذلك، يوضِّحه قولُها: (وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ) يعني: عما كان عندي قبل ذلك.
          قال عياضٌ: قولُها هذا يقتضي تفسيرين لـ(عَهِدَ): عهد قبل، فهو يرجع إلى تفقُّد المال، وعهد الآن فهو بمعنى الإغضاء عن المعايب والاحتمال. وقال ابن أبي أُويسٍ: تقول إنْ دخل وثب عليَّ وُثُوب الفهد، وإن خرج كان الأسد جُرْأَةً وإقدامًا، فقولها هذا يحتمل أن تريد به البطش بها والضَّرب لها، أو تريد به المبادرة إلى جِماعِها، وكثرة الحظِّ مِنِ استمتاعِها دون ملاعبتِها، وتقديم الإيناس. قال ابن حبيبٍ: وصفتْه بأنَّه في اللِّين والدَّعة والغفلة كالفهد، ولم تُرد النَّوم.
          قال عياضٌ: وقد ظهر لي فيه وجهٌ آخر مع صحَّة ما ذكروه، وذلك أنَّه يتوقَّف قولُها: (فَهِدَ) على الاشتقاق مِنْ خُلق الفهد، والمثل المضروب به في النَّوم، وفي الفهد أيضًا مثلٌ آخر ذكره أصحاب الأمثال، كما ذكروا الأوَّل، وهو قولهم: أكسبُ مِنْ فهدٍ. قال أبو عبد اللهِ حمزة الأصبهانيُّ في «شرح الأمثال»: وذلك أنَّ الفهود الهرمة الَّتي تعجز عن الصَّيد تجتمع على فهدٍ فتيٍّ، فيصيد عليها كلَّ يومٍ شِبَعَها، فلا يمتنع أن يكون قولُها: (إِذَاَ دَخَلَ فَهِدَ) أي: إذا جاء المنزل جاء بالكسب والخير والفوائد كما يفعل الفهد في كسبِه، ولا فرق بين هذا وبين الأوَّل، إذ كلُّ واحدٍ منهما إنَّما اشتُقَّ مِنْ خُلق الفهد، وكانت العرب تتمادح بالكسب والاستفادة، قال عياضٌ: هذا التَّأويل عندي لا يبعد، وإن كان الأوَّل أظهر وأليق بالكلام لمطابقة لفظه ومعناه.
          الوجه الحادي عشرَ: قول السَّادسة: اللَّفُّ فِي المَطْعَمِ: الإكثارُ منه مع التَّخليط مِنْ صنوف استقصائِه حتَّى لا يُبقي منها شيئًا، فمعنى (لَفَّ) قَمَّشَ صنوف الطَّعام وخلَطَه، يُقال: لفَّ الكتيبة بالكتيبة إذا خلطَها، والاشتفاف في الشُّرب: أن يستقصي ما في الإناء مِنَ الشَّراب ولا يُسْئِرَ فيه سؤرًا، وإنَّما أُخذ مِنَ الشَّفافة وهي البقيَّة الَّتي تبقى في الإناء مِنَ الشَّراب، فإذا شربها صاحبها قِيل اشتفَّها، ورُوي: استفَّ _بالسِّين المهملة_ وهو قريبٌ مِنْ معناه.
          وقولُها: (وَإِنِ اضْطَجَعَ التَفَّ) تعني: رقد ناحيةً ولم يباشرْها، وقِيل: رقد وهجع، وهما بمعنًى واحدٍ، وقِيل: إذا نام التفَّ في ثيابِه، وهذا يقتضي المدح والذَّمَّ، فالمدح بمعنى أنَّه ينام في ثيابِه ليكون مستوفزًا لصارخٍ يصرخ، أو داعٍ يدعو، والثَّاني: أنَّه يأتي وهو تعبان، فيكسل عن نزع ثيابِه، فينام فيها، أو يكون نومُه في ثيابِه أدعى لكثرة النَّوم، وذلك منه مذمومٌ. قالت امرأةٌ في زوجها: يشبع ليلةً يُضَاف، وينام ليلَةً يخاف.
          وقولُها: (وَلَا يُولِجُ الكَفَّ) أي: لا يدخل يدَه، و(الْبَثَّ) الحزن كأنَّ بجسدِها عيبًا وداءً تكتئب له، فكان لا يُدخِل يدَه في بدنها ليمسَّ ذلك العيب فيشقَّ عليها، تصفُه بالكرم، قاله أبو عُبيدٍ. وأُنْكِر عليه، إنَّما شكت قلَّة تعهُّدِه إيَّاها تقول: يلتفُّ منتبذًا عنها إذا نام لا يقرب منها، فيولج داخل ثوبها، فيكون منه إليها ما يكون مِنَ الرَّجل إلى أهله.
          ومعنى (البَثَّ) ما تُظهِر المرأة مِنَ الحزن على عدم الخلوة منه، كأنَّها ذمَّتْه بالنَّهم والشَّره وقلَّة الشَّفقة عليها، وأنَّه إذا رآها لم يُدخِل يدَه في ثوبها ليجسَّها متعرِّفًا لما بها مِنْ عادة الناس الأباعد فضلًا عن الأزواج، ولا معنى لِما توهَّمه أبو عُبيدٍ مِنْ أنَّ الدَّاء بجسدِها فيتأوَّل بذلك ترك التَّفقُّد منه لذلك على معنى الكرم، وذلك أنَّ أوَّل الكلام ذمٌّ، واستلآمٌ له، ومهانته، وسوء المعاشرة والمرافقة، فكيف يكون آخرُه مدحًا ووصفًا بالكرم؟ والعرب تذمُّ الرَّجل بكثرة الأكل والشُّرب، وتمدح بقلَّتها، ثُمَّ إنَّها وصفته بعد بقلَّة الاشتغال بها، والتَّعطيل لها، وعدم مضاجعتِها وإدنائها مِنْ نفسِه، وأنَّه لا هِمَّة له في المباضعة الَّتي هي مِنْ ممادح الرِّجال، فإنَّ العرب كانت تتمادح بالقوَّة على الجماع لأنَّه دليلٌ على صحَّة الذُّكورة، وتذمُّ بضدِّه، وممَّن ردَّه عليه القُتَيبيُّ والخطَّابيُّ وابن حبيبٍ وابن الأعرابيِّ.
          وقال ابن الأنباريِّ: لا حجَّة على أبي عُبيدٍ في هذا لأنَّ النِّسوة كنَّ يتعاهدن على ألَّا يكتمن شيئًا مِنْ أخبار أزواجهنَّ، فمِنهنَّ مَنْ وصفه بالخير في جميع أمورِه، ومنهنَّ بضدِّ ذلك، ومنهنَّ مَنْ وصفت ما فيه مِنَ الخير وما فيه مِنَ الشَّرِّ.
          قال عياضٌ: ويؤيِّد ما ذهبوا إليه ما أشار إليه عُروة بن الزُّبَير بقوله: هؤلاء خمسةٌ يشكون، وقالت امرأة عبد اللهِ بن عمرٍو لعمرو بن العاصي وسألها: كيف وجدتِ زوجك؟ فقالت: مِنْ خير الرِّجال مِنْ رجلٍ لم يفتِّش لنا كنفًا. ومنه قول عائشة ♦ تصفُ رجلًا بالعفَّة: ما كشف مِنْ كنف أنثى قطُّ، أي: إنَّه لم يكن يشتغل بالنِّساء ولا له فيهنَّ مذهبٌ، فعبَّرت عن ذلك بكشف الكنف، وهو الثَّوب الَّذي يكنفها أي: يسترُها، ومنه قولهم: في كنف اللهِ وحفظه، أي: سترِه.
          وقِيل: معنى (لَا يُولِجُ الكَفَّ) أي: لا يتفقَّد أموري وما يهمُّني مِنْ مَصالحي، وهو كقولهم: ما أدخلَ فلانٌ يدَه في الأمر، أي: لم يشتغل به ولم يتفقَّد، قاله أحمد بن عُبيد بن ناصح ونحوه عن ابن أبي أويس.
          الوجه الثَّاني عشر: قول السَّابعة: (عَيَايَاءُ أَوْ غَيَايَاءُ) شكٌّ مِنَ الرَّاوي، هل قاله بالمعجمة أو المهملة؟ والأكثر بغير شكٍّ، والشَّاكُّ عيسى بن يونس وعقبة بن خالد، وسائر الرُّواة يقولونه بالمهملة، وأمَّا المعجمة فليس بشيءٍ. وقال ابن قتيبة: هو تصحيفٌ، والعياياء فعالاء مِنَ العِيِّ، وهو مِنَ الإبل الَّذي لا يضربُ النُّوق ولا يلقح، وكذلك هو في الرِّجال كأنَّه عَيِيٌّ عن ذلك. /
          والطَّباقاء _بالمدِّ_ مِن الغَبيُّ الأحمق الفَدْمُ، وعبارة بعضهم: إنَّه المُفْحَم الَّذي انطبق عليه الكلام، أي: انغلق، وصفَتْه بعجز الطَّرفين. وعند ابن حبَّان: الَّذي فيه رعانةٌ وحمقٌ، كالمطبق عليه في حُمقِه ورُعونتِه. وقال ابن أبي أُويسٍ: (عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ) أي: عييٌّ مطبقٌ عيَّا لا يتصرف ولا يتوجَّه لوجهٍ. وقِيل: الطَّباقاء مِنَ الرِّجال: الثَّقيل الصَّدر، الَّذي لا يطبق صدرَه على صدر المرأة عند المباضعة. قالت امرأة امرئِ القيس تذمُّه: ثقيل الصَّدر، خفيف العَجُز، سريع الإراقة بطيء الإفاقة.
          قال الجاحظ: وهو عكس الخصيِّ، فإنَّه بطيء الإراقة سريع الإفاقة. وقال يعقوب: العَياياء: الَّذي لا يهتدي لوجهٍ. وقال الدَّاوُديُّ: غياياء مِنَ الغيِّ، وعياياء مِنَ العجز والجهل والظُّلمة. وقال ابن التِّينِ: وأنكر أبو عُبيدٍ المعجمة.
          قلت: ووقع في كتاب ابن بطَّالٍ عنه: (عَيَايَاءُ) بالعين، ليس بشيءٍ إنَّما هو بالغين المعجمة، كذا رأيتُه في أصلِه، ومعجمة في الحاشية تصحيح عليها. لكن سيأتي عن القاضي ما يردُّه.
          وقال ابن فارسٍ: العِيُّ خلاف البيان، يُقال: رجلٌ عييٌّ وعياياء، وفحلٌ عياياء إذا لم يهتدِ للضِّراب، قال: والطَّباقاء مِنَ الرِّجال: العييُّ، ومِنَ الإبل: الذي لا يُحسن الضِّراب، جعله مثل عياياء، فكأنَّه كرَّره لمَّا اختلف اللَّفظ مثل: بعدًا وسُحقًا، وعبس وبسر.
          وقال القاضي عياضٌ: قول أبي عبيدٍ إنَّ الغياياء بالمعجمة ليس بشيءٍ ولم يفسِّره، وتابعه على ذلك سائر الشُّرَّاح، فقد ظهر لي فيه معنًى صحيحٌ _إن شاء اللهُ_ في اللُّغة، بَيِّنٌ في التَّأويل، وهو أن يكون مأخوذًا مِنَ الغياية، وهي كلُّ ما أظلَّ للإنسان فوق رأسه مِنْ سحابٍ وغيره، ومنه سُمِّيت الرَّاية غيايةً، وكأنَّه غطَّى عليه مِنْ جهله، وسترت مصالحه، وقد يمكن أن يكون أيضًا مِنَ الغيِّ، وهو الانهماك في الشَّرِّ، أو مِنَ الغيِّ وهي الخيبة، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] لأنَّه خائبٌ مِنْ كلِّ فضيلةٍ.
          وقولُها: (كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ) أي: كلُّ داءٍ مِنْ أدواء النَّاس فهو فيه، ومِنْ أدوائِه، فقد اجتمعت فيه المعايب، فيحتمل أن يكون (دَاءٌ) خبرًا لـ(كُلُّ)، يعني: مِنْ كلِّ داءٍ في النَّاس فهو فيه، وأن يكون صفةً لـ(دَاءٍ) و(دَاءٌ) خبرٌ لـ(كُلُّ)، أي: كلُّ داءٍ فيه بليغٌ منتهاه، كما تقول: إنَّ زيدًا رجلٌ، وإن هذا الفرس فرسٌ.
          وقولُها: (شَجَّكِ) أي: أصاب شجَّك.
          وقولُه: (أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ) وجاء: ((أو بجَّك)) والبجُّ: الجرح في الرَّأس خاصَّةً والفلُّ في جميع الجسد، وقِيل: هو الطَّعن، وقال ابن الأنباريِّ: (فَلَّكَ) كسرك، وُيقال: ذهب بمالك، يُقال: فلَّ القوم فانفلُّوا، ويُقال: كسرك بخصومتِه، ويجوز أن يريد بالفلِّ الإبعاد والطَّرد.
          وقولُها: (أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ) أي: جمع الضَّرب والخصومة. والشَّجُّ: الجرح مِنَ الطَّعنة، وصفتْه بالحمق والتَّناهي في جميع النقائص والعيوب، وسوء العشرة مع الأهل، وعجزه عن حاجتها مع ضربها وأذاه لها، فإذا حدَّثته سبَّها، وإذا مازحته قبَّحَها، وإذا غضب إمَّا أن يشجَّها في رأسِها أو يكسر عضوًا مِنْ أعضائِها، وهي معنى (فَلَّكِ)، أو طعنها وهو معنى بجَّك.
          قال ابن دُريدٍ: بجَّ القرحة إذا شقَّها وكلُّ شقٍّ بجٌّ، وجمع ذلك كلَّه لها مِنَ الضَّرب والجرح وكسر الأعضاء والكسر بالخصومة، وموجع الكلام وأخذ مالها.
          الوجه الثَّالث عشر: قول الثَّامنة وصفته بحسن الخلق ولين الحديث كمسِّ ظهر الأرنب ولينه، والزَّرْنَبُ: نبت مِنَ الطِّيب، واحدُها زَرْنبةٌ، قاله ابن حبَّان في «شرحه»، يحتمل أن تكون أرادت طيب أريح جسده أو طيب الثَّناء في النَّاس وانتشاره فيهم كريح الزَّرنب، قِيل: يُشبه ورق الطَّرفاء، ويُسمَّى رِجْل الجراد لشبهها بها، وقِيل: إنَّه الزَّعفران، وقِيل: إنَّه المسك، وأنشد لسلمى أمِّ الخير أمِّ الصِّدِّيق إذ كانت تنقِّزُه:
عَتِيق ما عَتِيقْ                     ذو المَنْظَرِ الأَنِيقْ
رَشَفْتُ مِنْهُ رِيقْ                     كالزَّرْنَبِ العَتِيقْ
          لأنَّ غيرَ المسك لا يُقال فيه: العتيق، إنِّما هو مِنْ صفات المسك، وقِيل: إنَّه صنفٌ مِنَ الآس، وزعم ابن البَيْطار أنَّه أضربَ عن كلام صاحب «الفلاحة» وإسحاق بن عمران _يعني ما ذكره عياضٌ مِنْ أنَّها شجرةٌ عظيمةٌ_ قال: لأنَّه ليس بمعروفٍ في زماننا هذا ولا مِنْ قبلِه أيضًا، وجاء في رواية أبي عُبيدٍ: وأَغْلِبُهُ والنَّاسَ يَغْلِبُ، وصفته بالشَّجاعة، قال معاوية ووَصَفَ النِّساء: يغلبن الكرام ويغلبهنَّ اللِّئام. وقال الأعشى الحِرْمَازيُّ:
.....................                     وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ
          الوجه الرَّابعَ عشرَ: قول التَّاسعة إلى أنْ قالت: (مِنَ النَّادِ) هو بحذف الياء، وهو المشهور في الرِّواية ليتمَّ السَّجع، وإن كان الفصيح في العربيَّة إثباتُها. وصفته بالشَّرف وسناء الذِّكر نسبًا وسؤددًا في قومِه، فهو رفيعٌ فيهم، وأصل العماد: عماد البيت، وجمعها عُمُدٌ، وهي العيدان الَّتي تُعمَّد بها البيوت، وإنَّما هذا مثلٌ تعني: أن بيتَه _تعني حسَبَه_ رفيعٌ في قومه. فبيته عالٍ بِحِشْمَتِهِ وسعادته لا كبيتٍ غيره مِنَ الفقراء، تقصد ارتفاعَه ليراه أرباب الحوائج والأضياف فيأتونه، وهذه صفة بيوت الأجواد.
          وتريد بالنِّجاد _بكسر النُّون_ حمائل السَّيف: فكأنَّها وصفتْه بطول القامة، فإن مَن كان طويلًا كانت حمائل سيفه طُوَلٌ، فوصفتْه بالطُّول والجود، وهو ممَّا يَمدح به الشُّعراءُ قال مروان في الرَّشيد:
قَصُرَتْ حَمَائِلُهُ عَلَيْهِ فَقَلَّصَتْ                     وَلَقَدْ تَأَنَّقَ قَيْنُها فَأَطَالَها
          وقال الأعشى في هَوْذَةَ بن عليٍّ:
رَفِيعُ العِمادِ طَويلِ النِّجا                     دِ يَحْمِي المُضَافَ وَيُعْطِي الفَقِيرا
          وقولُها: (عَظِيمُ الرَّمَادِ) وصفتْه بالجود وكثرة الضِّيافة مِنْ لحم الإبل وغيرِها، فإذا فعل ذلك عظُمت نارُه وكثُر وقودُها، فيكون الرَّماد كثيرًا، وقِيل: لأنَّ ناره لا تُطفأ ليلًا ليهتدي بها الضِّيفان، ومِنْ عادة الكرام يُعْظِمون النِّيران في الظُّلمة ويوقدونها على التِّلال ليُهتدَى بها، قالت الخنساء في أخيها:
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الهُدَاةُ...                     كَأنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ
          وقال غيرُها:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ                     تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
          وقولُها: (قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّادِ) تريد أنَّه ينزل بين ظهراني النَّاس ليعلموا مكانَه، فينزلوا عليه ولا يبعُد عنهم ولا يتوارى منهم، بخلاف اللِّئام. والنَّاد: المجتمع للمشاورة يندو القوم حواليه، ولا يُسمَّى ناديًا حتَّى يكون فيه أهلُه فَكَنَّتْ عن ارتفاع بيتِه في الحسب بـ (رَفِيعِ العِمَادِ)، وعن طول قامتِه بطول النِّجاد، وعن كثرة القِرى بعظيم الرَّماد، وعِلْمِ مكانه بـ (قَرِيبُ النَّادِ).
          الوجه الخامسَ عشرَ: قول العاشرة تريد تعظيمَه، و(مَا) استفهامية، وفيها معنى التَّعظيم والتَّهويل وحقيقتُه: فَمَا مَالِكٌ وما هو؟ أَيْ: أَيُّ شيءٍ هو؟ ما أعظمَه وأكبرَه وأكرمَه! / ومثله قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-2] و{الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1-2] أَيْ: أيُّ شيءٍ هي؟ ما أعظمَ أمرَها !
          وقولُها: (مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ) زيادةٌ في التَّعظيم، وتفسيرٌ لبعض الإبهام، وأنَّه خيرٌ ممَّا أُشِيرُ إليه مِنْ ثناءٍ وطيبِ ذِكرٍ، أو فوق ما أعتقِدُهُ فيه مِنْ سُؤددٍ وفخرٍ.
          وقولُها: (لَهُ إِبِلٌ قَلِيلاَتُ المَسَارِحِ كَثِيرَاتُ المَبَارِكِ) يعني: لا يوجِّههنَّ ليَسْرَحْنَ نهارًا إلَّا قليلًا ولكنَّهنَّ يُترَكْنَ بفنائِه باركاتٍ، فإن نزل به ضيفٌ لم تكن الإبل غائبةً عنه ولكنَّها بحضرتِه فيَقْريه مِنْ ألبانِها ولحومِها، ويُروى: ((عظيمات المبارك))، وهو كنايةٌ عن سمنِها وعِظم جِرْمها. وعند ابن قتيبة: إذا بركت إبلُه كانت كثيرةً لكثرة مَنْ ينضمُّ إليها ممَّن يلتمس لحمَها ولبنَها، وإذا سرحت كانت قليلةً، لقلَّة مَنْ ينضمُّ إليها مِنَ الأضياف والعفاة. وقيل: إنَّها إذا بركت كانت كثيرةً لوفور عددِها، وإذا سرحت كانت قليلةً لكثرة ما نُحر منها للأضياف، وفي رواية الهيثم عن هشامٍ في آخر ذلك: ((وهو أَمَامِ القوم في المهالك)).
          وقولُها: (إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ المِزْهَرِ) تريد: العود الَّذي يُضرب به، معناه: أنَّه ممَّا كثُرت عادتُه للضِّيفان وإطعامهم وشربهم، وضرب المعازف عليهم، ونحر الإبل؛ فلذلك صارت الإبل إذا سمعت ذلك أيقنَّ أنَّهنَّ منحوراتٍ.
          وقال أبو سعيدٍ النَّيْسابوريُّ: إن كنَّ لا يسرحن إلَّا قليلًا مِنَ النَّهار، ثُمَّ تُحبس في المبارك سائر النَّهار فهي هالكةٌ هزالًا، وإنْ كنَّ يسرحن باللَّيل فقد ضاف أضياف اللَّيل، والتَّفسير: أنَّ مسارحَها قليلةٌ لقلَّة الإبل، وكثرة مباركها بالفناء لكثرة ما تُثار فتُحلب ثُمَّ تُترك، فالقليلة إذا فُعِل بها هذا كثرت مباركُها.
          وقولُه: (المِزْهَر): العود، نَحْنُ نُنْكِرُهُ، لأنَّ العرب كانوا لا يعرفون العود إلَّا مَنْ خالط الحضر منهم، والعود إنَّما أُحدث بمكَّة والمدينة، والَّذي نذهب إليه أنَّه المُزْهر، وهو الَّذي يُزْهِر النَّارَ للأضياف والطَّريق، فإذا سمعتْ صوت ذلك وحِسَّه ومعمعة النَّار، أيقنتْ بالعقر.
          وقال عياضٌ: لا نعرف أحدًا رواه (المُزْهر) كما قال النَّيْسابوريُّ، وإن كان يصحُّ لأنَّ زهور السِّراج والنَّار تلألأ لسانُها، والَّذي رواه النَّاس كلُّهم (المِزْهَر)، وهو الصَّواب.
          قال: وقولُه إنَّ العرب لا تعرف العود إلَّا مَنْ خالط منهم الحضر، فمَنْ أخبره أنَّ المذكورات لم يخالطن الحضر؟ لأنَّا ذكرنا في بعض طرق هذا الحديث أنهنَّ كنَّ بقريةٍ مِنْ قرى اليمن، والقرى مرتقى الحاضرة، وفي طريقٍ: أنَّهنَّ مِنْ مكَّة، مع أنَّ العربَ جاهليَّتها وإسلامها فيها بدويَّها وحضريَّها قد ذكرت في أشعارها المزاهر وأشباهها.
          وقال الدَّاوُديُّ: هو الَّذي يُضرب به، وكان للأضياف.
          الوجه السَّادسَ عشرَ: قول الحاديةَ عشرةَ: (زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ فَمَا أَبُو زَرْعٍ) هو كقول العاشرة: (مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ).
          وقولُها: (وَأَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ) هو بتشديد الياء مِنْ (أُذُنَيَّ) على التَّثنية. والنَّوَس: الحركة مِنْ كلِّ شيءٍ متدلٍّ، يُقال: ناس يَنُوس نَوْسًا وأَنَاسَهُ غَيرُهُ إناسَةً، وقال الكلبي: إنَّما سُمِّي ملك اليمن ذو نُواسٍ لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه، تريد: حلَّاني قِرَطَةً وشُنُوفًا تنوس بأذنيَّ.
          وقولُها: (مَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ) لم تُرِد العضد خاصَّةً، إنَّما أرادت الجسد كلَّه، تقول: إنَّما أسمنني بإحسانه إليَّ، فإذا سمنت العضد سمن الجسد، وقِيل: قصدت بذكرها سجع الكلام.
          وقولُها: (وَبَجَّحَنِي فَبَجِحْتُ) أي: فرَّحني ففرحت، وقد بَجِحَ الرَّجلُ يَبْجَحُ إذا فَرِحَ، وقال ابن الأنباريِّ: معناه: عظَّمني. وقال ابن أبي أُويسٍ: وسَّع عليَّ وتَرَّفني.
          وقولُها: (فوَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ) تريد: تصغير غنمٍ، و(بِشِقٍّ) أهل الحديث يقولونه بالكسر. قال أبو عُبيدٍ: وهو بالفتح: اسم موضعٍ، وصوَّبه الهَرَويُّ. وقال النَوَويُّ: إنَّه المعروف عند أهل اللُّغة، وحكاهما ابن الأنباريِّ وأنَّه اسم موضعٍ. وقال ابن أبي أُويسٍ وابن حَبيبٍ: هو جبلٌ؛ لقلَّتِهم، زاد ابن أبي أُويسٍ: وقلَّة غنمِهم.
          قال عياضٌ: كأنَّها تريد أنَّهم لقلَّتهم وقلَّة غنمِهم حَمَلَهم على سكنى شَقِّ الجبل، أي: ناحيته أو بعضه لأنَّ الشَّقَّ يقع على النَّاحية مِنَ الشَّيء وعلى بعضه، والشِّقُّ أيضًا: النِّصف، فيكون التَّفسير على رواية مَنْ روى بالفتح _وهو أليق بقولِها لقلَّتهم_ شقٌّ في الجبل كالغار ونحوه.
          وله وجهٌ آخر ذهب إليه نِفْطَوَيْهِ، وهو بالحديث أولى وأصحُّ لغةً، ومعنى الشِّقِّ _بالكسر_: الشَّظَف مِنَ العيش والجهد منه، قال ابن دُريدٍ: يُقال: هو بشِقٍّ وشَظَفٍ مِنَ العيش والجهد منه، وعليه نزول قوله تعالى: {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل:7].
          وقال الدَّاوُديُّ: يُروى بَِشَِقِّ بفتح الباء والشِّين وبكسرهما، والتَّشديد في القاف، فمَن رواه بالتَّخفيف: أراد موضعًا، ومَنْ شدَّد هو الجهد مِنْ قوله: {بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}.
          وقولُها: (فجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ) الصَّهيل: أصوات الخيل، والأطيط: أصوات الإبل، يعني: أنَّه ذهب بها إلى أهلِه، وهم أهل خيلٍ وإبلٍ، وكان أهلُها أصحابَ غنمٍ، ليسوا بأصحاب خيلٍ ولا إبلٍ.
          قال عياضٌ: وأصل الأطيط: أعواد المحامل والرِّحَال، ويُشبه أن يريد بالأطيط هذا المعنى، فكأنَّها تريد أنَّهم أصحاب محامل ورفاهية لأنَّ المحامل لا يركبُها إلَّا أصحاب السَّعَة، وكانت قديمًا مراكب العرب. قلتُ: قد ذكر المبرِّد أنَّ أوَّل مَنْ عمل المحامل الحجَّاجُ بن يوسف الثَّقفيُّ، وفيه قول الرَّاجز:
أوَّلُ عَبدٍ عَمِلَ المَحَامِلا                     أَخْزَاهُ رَبِّي عَاجَلًا وآجِلا
          وقولُها: (وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ) قال أبو عُبيدٍ: تأوَّلَه بعضُهم مِنْ دِيَاس الطَّعام، وهو دِرَاستُهُ، وأهل العراق يقولون: الدِّياس، وأهل الشَّام يقولون: الدِّراس، قال: ولا أظنُّها واحدةً مِنْ هاتين الكلمتين، فليسا مِنْ كلام العرب، فإن كان كما قِيل فأرادت أنَّهم أصحاب زرعٍ.
          وقال أبو سعيدٍ: الدِّياس: الطَّعام الَّذي أهلُه في دياسِه، وعندهم مِنَ الطَّعام مقتنًى فخيرُهم متَّصلٌ. وقال ابن التِّينِ: يريد أنَّهم أصحاب زرعٍ يدوسونه إذا حصد ويتَّقونه ممَّا يخالطُه وأمَّا (مِنَقٍّ) فالمحدِّثون يقولونه بالكسر، قال أبو عُبيدٍ: ولا أدري معناه، وأحسبه مَنَقٍّ بالفتح أرادت تنقية الطَّعام، وأرادت أنَّهنَّ أصحاب زرعٍ، قال الهَرَويُّ: وقال بعضُهم: المنقِّي: الغربال. وقال إسماعيل بن أبي أُويسٍ: المِنقِّ بالكسر نقيق أصوات المواشي والأنعام، تصف كثرة مالِه.
          وقال أبو سعيدٍ النَّيْسابوريُّ: هو مأخوذٌ مِنْ نقنقة الدَّجَاج يُقال: أنقَّ الرَّجل إذا اتَّخذ دجاجًا ينقنق أي: إنَّهم أهل طيرٍ، أي: نقلني مِنْ فقرٍ إلى عِمرانٍ. وقال ابن سِرَاجٍ: ويجوز أن يكون (منْقٍ) بالإسكان أي: وأنعامٍ ذات نِقْيٍ، أي: سِمانٌ، وعند ابن قتيبة: قال أبو عُبيدٍ: المنَق مفتوح النُّون، ولا أعرف / كسرَها، وقال غيرُه بكسرِها. وقال النَّوويُّ: المراد الَّذي ينقِّي الطَّعام، أي: يخرجُه مِنْ تِبْنِه وقشورِه، وهو أجود مِنْ قول الهَرَويِّ: هو الَّذي ينقيه بالغربال.
          وقولُها: (فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ) أي: فلا يُقبَّح عليَّ قولٌ يقبل منِّي، (وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ)، أي: يرويني الشَّراب حتَّى لا أحبَّ الشُّرب، مأخوذٌ مِنَ النَّاقة المُقَامِح، وهي الَّتي ترد الماء فلا تشرب، وترفع رأسها رِيًّا، وكلُّ رافعٍ رأسَه فهو مُقمَحٌ وقامحٌ قال تعالى: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8] أي: لا يستطيعون الشُّرب، وكانت في قومٍ عندهم قلَّة الماء.
          قال أبو عُبيدٍ: أي: أروى حتَّى أدع الشُّرب مِنْ شدَّة الرِّيِّ، قال: ولا أراها قالت هذا إلَّا مِنْ عزَّة الماء الَّذي عندهم، وبعضهم يرويه: ((فأتقنَّح)) بالنُّون، ولا أعرف هذا الحرف ولا أرى المحفوظ إلَّا بالميم.
          وقال أبو سعيدٍ: (فأَتقنَّحُ) هو الشُّرب على رِسْلٍ لكثرة اللَّبن لأنَّها ليست بناهبٍ غيرها، وإنَّما ينتهب ما كان قليلًا يُخاف عجزه، ويقول الرَّجل لصاحبه إذا أحثَّه على أن يأكل أو يشرب: واللهِ لتقمحنَّه، والتَّقمُّح: الازدياد مِنَ الشُّرب. وقال ابن السِّكِّيت في التَّقنُّح الَّذي لم يعرفه أبو عُبيدٍ: أتقنَّح: أقطع الشَّراب. أبو زيدٍ: قال الكِلابيُّون: قَنَحَتْ تَقْنَحُ قَنْحًا وهو: التَّكاثر في الَّشراب بعد الرِّيِّ.
          وقال أبو حنيفة: يُقال: قَنَحَتْ مِنَ الشَّراب قَنْحًا، وقَنَحْتُ أقنحُ قنحًا: تكارهت عليه بعد الرِّيِّ، والغالب: تقنَّحت، والتَّرنُّح: كالتَّقنُّح.
          قال عياضٌ: حكى أبو عليٍّ القالي في «البارع» و«الأمالي»: قَنَحت الإبل تَقْنَح _بفتح النُّون في الماضي والمستقبل_ قنْحًا بإسكانها. وقال شَمِرٌ: قنحًا: إذا تكارهت الشُّرب، ومَنْ رواه بالفاء والتَّاء (أتفتَّح) إن لم يكن وهمًا فمعناه: التَّكبُّر والزُّهوُّ والتِّيه، ويكون هذا الكبر والتِّيه مِنَ الشَّراب لنشوة سكره، وهو على الجملة يرجع إلى عزَّتها عندَه، وكثرة الخير لديها، أو يكون معنى أتفتَّح: كنايةً عن سِمَن جسمها واتِّساعِه.
          قال عياضٌ: ولم نروه في «الصَّحيح» إلَّا بالنُّون، وكذا هو في جميع النُّسخ، وقال البخاريُّ: قال بعضهم: ((فأتقمَّح)) _بالميم_ قال: وهو أصحُّ، والَّذي بالنُّون معناه: أقطع الشُّرب وأتمهَّل فيه، وقِيل: هو الشُّرب بعد الرِّيِّ.
          وقولُها: (فَأَتَصَبَّحُ) أي: أنام الصُّبْحة لأنَّها لها مَنْ يكفيها الخدمة مِنَ الإماء وشبهها.
          وقولُها: (عُكُومُهَا رَدَاحٌ) تريد: الأحمال والأعدال الَّتي فيها الأوعية مِنْ صنوف الأطعمة والمتاع، واحدها عِكْمٌ، كجِلْدٍ وجُلودٍ، والرَّداح: العظيمة، تقول: هي كثيرة الحشو، يُقال للمرأة: رداحٌ إذا كانت عظيمة العَجُز، ثقيلة الأوراك. وقال ابن حبيب: إنَّما هو دراحٌ، أي: مِلَاء، وليس كما قال الشَّارح: رداحٌ.
          قال عياضٌ: ما قاله أبو عُبيدٍ وغيره صحيحٌ معروفٌ، ومعناه ظاهرٌ، وما أدري لمَ أنكر ابن حبيبٍ وهو بنفسِه معنى ما فسَّره هو به مع مساعدة سائر الرُّواة لما قاله أبو عُبيدٍ، فإنَّ روايتهم كلَّهم ((رداحٌ)) قال: ولم أسمعها مِنْ شيخٍ، ولا وجدته في جماهير اللُّغة وصحاح العربيَّة، إلَّا أن يكون وهم عليه، وإنَّما أراد: رِداح _بكسر الرَّاء_ وأنكر فتحها فقط، فلقوله وجهٌ، ويكون (رَدَاحٌ) هنا بمعنى ما قاله أبو عُبيدٍ، لكنَّه جمع (ردح) كقائمٍ وقيامٍ، وكذا وجدته مضبوطًا عند بعض رواة الحديث بكسر الرَّاء.
          وقولُها: (وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ) هو بفتح الفاء أي: واسعٌ كبيرٌ.
          وقولُها: (كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ) هذا مِنْ تمادح الرِّجال، وأصل الشَّطبة ما شُطب مِنْ جريد النَّخل وهو شطبه، وذلك أنَّه تشقُّ منه قضبانٌ دِقَاقٌ يُنسج منها الحصر، يُقال للمرأة الَّتي تفعل ذلك: شاطبةٌ، وجمعها شَواطب، فأخبرت أنَّه مهفهفٌ ضرب اللَّحم، شبَّهته بتلك الشَّطبة.
          وعبارة ابن التِّينِ: أرادت أنَّه ضَرِبُ الجسم، وهو ممَّا يُمدح به الرِّجال. وقال أبو سعيدٍ: تريد كأنَّه سيفٌ مسلولٌ مِنْ غِمْدٍ، شبَّهته بذي شُطَبٍ يمانٍ، وسيوف اليمن كلُّها مشطَّبة، وفي «كتاب ابن حبَّان»: الشَّطْبَة والشَّطْبُ: ما شُطب مِنْ سعف النَّخل.
          وقولُها: (وَتَكْفِيْهِ _وفي لفظٍ وَتُشْبِعه_ ذِرَاعُ الجَفْرَةِ) فالجَفْرَة: الأنثى مِنْ أولاد الغنم، وقِيل: مِنْ أولاد الماعز، والذَّكر: جفرٌ، وهي الَّتي لها مِنَ العُمر أربعة أشهرٍ، ومنه الغلام الجَفْر، والعرب تمدح الرَّجل بقلَّة الأكل والشُّرب كما مرَّ، وزاد فيه بعضُهم: (كَرِيمُ الخِلِّ بَرُودُ الظِّلِّ، وَفِيُّ الإِلِّ) أي: وَافِي العهد، وبرد الظِّلِّ كنايةٌ عن طِيب العِشرة، ولا يخادِن أخدان السَّوء.
          وقولُها: (وَمِلْءُ كِسَائِهَا) وصفتْها بالسِّمن، و(غَيْظُ جَارَتِهَا) أي ضرَّتها، أرادت أنَّ ضرَّتها ترى مِنْ حُسنها ما يَغيظها.
          وقولُها: (وَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعِ؟ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا) هو بالباء الموحَّدة، ويُروى بالنُّون، وأحدهما قريب المعنى مِنَ الآخر: لا تظهر سرَّنا. وقال ابن الأعرابيِّ: النُّثَّاث: المغتابون للمسلمين، والأوَّل أشبَهُ بمعنى الخِدمة.
          وقولُها: (وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا) وفي روايةٍ: ((لا تنقل)) يعني: الطَّعام لا تأخذُه فتذهب به، تصفُها بالأمانة، والتَّنقيث: الإسراع في السَّير، أي: لا تذهب به وتخون. وعبارة بعضهم: النَّقْث: النَّقْل، والتَّنقيث مبالغةٌ، وقال ابن حَبيبٍ: لا تفسدُه ولا تفرِّقه. وقال ابن أبي أُويسٍ: لا تسرق. وقال أبو سعيدٍ: التَّنقيث: إخراج ما في منزل أهلها إلى جانبٍ، وهو النَّقْث والنَّفث، والثَّاء والفاء يتعاقبان. وقال ابن فارسٍ: نَقَثَ القومُ حديثَهم: خلطوه، كما يُنْقَث الطَّعام.
          وقولُها: (وَلَا تَمْلأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا) التَّعشيش بالعين المهملة مأخوذٌ مِنْ عشش الخبز إذا فسد، تريد أنَّها تُحسن الطَّعام المخبوز، وتتعهَّده بأن تُطعم منه أوَّلًا فأوَّلًا طريًّا، ولا تهمل أمره فيُطرحَ ويَفْسُدَ، ذكره ابن التِّينِ، ثُمَّ قال: وقال الدَّاوُديُّ: أراد أنَّها لا تتسمَّع إلى أخبار النَّاس فتأتينا بها.
          وقال يعقوب فيما حكاه ابن قتيبة: تريد النَّميمة وما شاكلها. وقال ابن حبَّان: تريد أنَّها عفيفة الفرج لا تَفْسُق، وعبارة بعضِهم: لا تخبِّئ خبيئًا كعشِّ الطَّائر، أو كأنَّها لا تَقُمُّ البيت فهو كعشِّ الطَّائر في قذره وقَشَبِه.
          وقال النَّوويُّ: لا تترك القُمامة والكُناسة فيه مفرَّقةً كعشِّ الطَّائر، بل هي مُصلحةٌ للبيت معتنيةٌ بتنظيفِه، وقِيل: لا تسرق طعامنا فتخبِّئه في زوايا البيت. وقال سعيد بن سَلَمَة عن هشامٍ: ((تعشِّش بيتنا تعشيشًا)).
          فائدةٌ: في رواية الهيثم عن هشامٍ: ((ضيف أبي زرعٍ، وما ضيف أبي زرعٍ؟ في شبعٍ وريٍّ ورتعٍ)) قال ابن قتيبة: الرَّتْع: جمع رَتْعةٍ، مِنْ قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف:12]. وقال أبو عُبيدٍ: يلهو ويتنعَّم. قال الكلبيُّ: يرتع: يذهب ويجيء وينشط ويلهو ويلعب، / وفي روايةٍ أيضًا: ((طُهَاة أبي زرعٍ، فما طُهَاة أبي زرعٍ؟ لا تَفْتُر ولا تَعْدى للقَدْح قدرًا وتنصب الأخرى فتلحق الآخرة الأولى)) تريد بالطُّهاة الطَّبَّاخين، واحدهم طاهي يُقال: طها الرَّجل إذا طبخ، و(لَا تَعْدى) تريد: لا تصرف عن اتِّخاذ ذلك.
          وقولُها: (تَقْدَحُ قِدْرًا) معناه: تغرف قدرًا، يُقال: قَدَحَ إذا غرف، والمِقدحة: المِغرفة، وأصلُه المقدوح، كالجريح والمجروح.
          فائدةٌ: أسلفنا معنى قولِها: (وَمِلْءُ كِسَائِهَا) وجاء في روايةٍ: ((صِفْر ردائِها)) بكسر الصَّاد المهملة وهو الخالي، قال الهَرَويُّ: أي: ضامرة البطن، فالرِّداء ينتهي إلى البطن. وقال غيرُه: معناه أنَّها خفيفة أعالي البدن _وهو موضع الرِّداء_ ممتلئة أسفلِه _وهو موضع الكساء_ توضِّحه رواية: ((وملءُ إزارها)). قال عياضٌ: أرادت امتلاء منكبيها وقيام نهديها بحيث يدفعان الرِّداء عن أعالي بدنها فلا يمسُّه، فيصير خاليًا بخلاف أسفلِه.
          فصلٌ: سلف معنى قولِه: (وَغَيْظُ جَارَتِهَا) وفي روايةٍ: ((عَقْر جارتِها)) بالعين المفتوحة والقاف السَّاكنة. قال عياضٌ: كذا ضبطناه عن جميع شيوخنا، وضبطه الجَيَّانيُّ: <عُبْر> بضمِّ العين وإسكان الباء، وكذا ذكره ابن الأنباري، وكأنَّ الجَيَّانيَّ أصلحه مِنْ «كتاب ابن الأنباريِّ»، وفسَّره على وجهين: أحدهما مِنَ الاعتبار أي: ترى مِنْ حُسْنِها وعفَّتِها ما تعتبر به، والثَّاني: مِنَ العَبْرة: هي البكاء، أي: ترى مِنْ ذلك ما يبكيها لحسدها وغيظها، ومَنْ رواه بالقاف فمعناه: تغيظها، فتصير كمعقورةٍ، وقِيل: تدهشها، مِنْ قولهم: عَقْرًا إذا دهش.
          وعند الإسماعيليِّ: <وذكرت كلب أبي زرعٍ>.
          فصلٌ: قولُها: (وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ) تريد بالأَوْطاب أسقية اللَّبن، واحدها: وَطْبٌ، قاله أبو عُبيدٍ، وأنكره أبو سعيدٍ وقال: هذا منكرٌ في العربيَّة أن يكون فَعْلٌ يجمع على أَفْعَال، لا يُقال: كلبٌ وأكلاب، ولا وجه وأوجاه، وإنَّما الصَّحيح: الأَوْطُبُ في القلَّة والأوطاب في الكثرة.
          ومعنى: (تُمْخَضُ) تُحرَّكُ حتَّى تخرج زبدتها ويبقى المخيض، ومعنى كلامِها يحتمل أنَّها أرادت تبكير خروجِه مِنْ منزلها غدوةً، وانطوى في أثناء ذلك كثرة خير داره، وغزر لبنه، وأنَّ عندهم منه ما يُشرب صريحًا ومخيضًا، ويَفْضُلُ عن حاجتهم حتَّى يمخضوه في الأوطاب ويستخرجوا زُبْده وسَمْنه.
          ويحتمل أنَّها تريد أنَّ خروجه في استقبال الرَّبيع وطِيْبه، وأنَّ خروجه إمَّا لسفرٍ أو غيره كان في هذا الزَّمن، فتكون الفائدة في الاحتمال الأوَّل تعريفَها بخروجه عنها بكرة النَّهار، والثَّاني إعلامَها بوقت خروجه عنها في أيِّ فصلٍ هو.
          فصلٌ: قولُها: (فَلَقِيَ مَعها وَلَدَانِ كَالْفَهْدَيْنِ) وفي روايةٍ: ((كالصَّقرين)) احتاجت إلى ذكرهما هنا لتنبِّه على أحد أسباب تزويجِه لها لأنَّ العرب كانت ترغب في الأولاد، وتحرص على النِّساء المنجبات في الخَلْق والخُلُق، لكن في رواية الخطيب أنَّهما أخواها لا ابناها، وأنَّه إنَّما تزوَّجها بكرًا.
          فصلٌ: وقولُها: (يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ) يعني أنَّها ذات كفلٍ عظيمٍ، فإذا استلقت نتأ الكفل بها مِنَ الأرض حتَّى يصير تحت خصرها فجوةٌ يجري فيها الرُّمَّان، وقِيل: إنَّهما الثَّديان، وأنكره أبو عُبيدٍ فقال: ليس هذا موضعَه، وحكاه ابن قتيبة عن ابن أبي أُويسٍ، قال عياضٌ: والأوَّل أرجح لا سيَّما وقد رُوي: ((مِنْ تحت درعها برمَّانتين)) وعبارة ابن التِّينِ وصفها بكبر الكفل والصَّدر.
          فصلٌ: قولُها: (فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَها، فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا، رَكِبَ شَرِيًّا) كذا في «الصَّحيح» وفي رواية أبي الهيثم: <فاستبدلت بعده، وكلُّ بدلٍ أعور، فتزوَّجت شابًّا> والسَّريُّ بالسِّين المهملة أي: مِن سراة النَّاس، وقال عياضٌ عن ابن السِّكِّيت: بالمعجمة يعني: سيِّدًا شريفًا سخيًّا. و(رَكِبَ شَرِيًّا) بالمعجمة وهو الفرس الَّذي يستشري في سيرِه، أي: يلجُّ ويمضي بلا فتورٍ. وقال يعقوب: وهو الفرس الفائق الخيار. ونقل ابن بطَّالٍ عن ابن السِّكِّيت: ركب فرسًا شريًّا، أي: خيارًا، مِنْ قولهم: هذا مِنْ سراة المال أي: مِنْ خياره، ولمَّا ضبطه النَّوويُّ بالمعجمة ادَّعى فيه الاتِّفاق، ويأتي على ما حكاه ابن بطَّالٍ عن ابن السِّكِّيت الإهمال أيضًا.
          فصلٌ: قولُها: (وَأَخَذَ خَطِّيًّا) يعني: الرُّمح لأنَّه يأتي مِنْ بلاد ناحية البحرين يُقال له: الخطُّ، فنَسب الرِّماح إليها، وإنَّما أصل الرِّماح مِنَ الهند ولكنَّها تُحمل إلى الخطِّ في البحرين ثُمَّ تُفرَّق منها في البلاد، وهي قريةٌ بسِيْف البحر عند عُمان.
          قال أبو الفتح: قِيل لها ذلك لأنَّها على ساحل البحر، والسَّاحل يُقال له: الخطُّ، لأنَّه يفصل بين الماء والتُّراب، والخَطِّيُّ: بفتح الخاء المعجمة في أخبار ثعلبٍ في «فصيحه»: قال ابن دُرُسْتُوَيْهِ: والعامَّة تكسر الخِطبة في كلِّ حالٍ، وهو خطَأٌ، قلت: في «شرح ابن هشامٍ»: يُقال بكسر الخاء.
          قال عياضٌ: ولا يصحُّ قول مَنْ قال: إنَّ الخطَّ منبت الرِّماح. وعند ابن سيده في «العويص»: كلُّ سِيفٍ خطٌّ، قال: فأمَّا قول سلامة بن جندلٍ:
يَأْخُذْنَ بَيْنَ سَوَادِ الخَطِّ فاللُّوَبِ
          فإنَّ الخطَّ هنا: الطَّريق، حكاه ثعلبٌ.
          وفي «معجم أبي عُبيدٍ»: الخطُّ: ساحلٌ بين عُمان إلى البصرة، ومِنْ كاظمة إلى الشِّحر، ثُمَّ أنشد قول سلامة السَّالف، ثُمَّ قال: واللُّوَب: الحِرار، حِرار قيسٍ، قال: وإذا كانت مِنْ حِرار قيسٍ إلى ساحل البحر، فهي نجدٌ كلُّها، قال: وقِيل: الخطُّ فيها الرِّماح الجياد، وهي لعبد القيس.
          فصلٌ: قولُها: (نَعَمًا) هو بفتح النُّون: الإبل خاصَّةً، قاله عياضٌ وابن بطَّالٍ وابن التِّينِ، وقال غيرُهم: لجمع الإبل والبقر والغنم، والنَّعم تُذكَّر وتُؤنَّث قال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142] ثُمَّ قال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام:143] فذكر أنواع الماشية، ووقع في روايةٍ: ((نِعمًا)) بكسر النُّون جمع نعمةٍ، والأشهر الأوَّل.
          وقولُها: (ثَرِيًّا) هو بفتح الثَّاء المثلَّثة ثُمَّ راءٍ مهملةٍ ثُمَّ مثنَّاةٍ تحت، وهو الكثير مِنَ المال وغيره، ومنه الثَّروة في المال، وهي كثرته. قال الكسائيُّ: يُقال: قد ثَرا بنو فلانٍ بَنِي فلانٍ يَثْرونهم إذا كثَروهم وكانوا أكثر منهم والقياس ثريَّةٌ، لكنَّه ليس مِنْ حقيقيِّ التَّأنيث، ومعنى / (أَرَاحَ) تأتي في الرَّواح بعد الزَّوال.
          فصلٌ: قولُها: (وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا) أي: أعطاني اثنين مِنْ كلِّ ما يروح مِنَ الإبل والبقر والعبيد، والزَّوج هنا الاثنين، ويُقال للواحد زوجٌ، ويحتمل أنَّها أرادت صنفًا، والزَّوج يقع على الصِّنف، ومنه قولُه تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} [الواقعة:7] وصفتْه بالسُّؤدد في ذاته، والسَّعة في ذات يده، وأنَّه صاحب حربٍ وركوبٍ، وأنَّه محسنٌ إليها مُفْضِلٌ على أهلِها، ثُمَّ إنِّه مع هذا كلِّه لم يقع عندها موقع أبي زرعٍ، وأنَّ كثيرَه دون قليلِه، فكيف بكثيرِه؟! وأنَّ حال هذا معيبٌ إذا أضافتْه إلى حال أبي زرعٍ، مع إساءة أبي زرعٍ أخيرًا في تطليقِها والاستبدال بها، ولكنَّ حبَّها له بغَّض إليها النَّاس بعدَه، ولهذا كره أولو الرَّأي تزويج امرأةٍ لها زوجٌ طلَّقها لميل نفسِها إليه.
          وقولُه: (وَمِيرِي أَهْلَكِ) أي: صِليهم بالميرة، وهي الطَّعام، وأصلُه مِنِ امتيار البوادي مِنَ الحواضر.
          فصلٌ: وقولُه لعائشة ♦: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ) قاله تطييبًا لنفسِها ومبالغةً في حُسن معاشرتِها، ثُمَّ استثنى مِنْ ذلك الأمر المكروه منه أنَّه طلَّقها (وَإِنِّيْ لَا أُطَلِّقُكِ) تتميمًا لتطييب نفسِها، وإكمالًا لطمأنينة قلبِها، ورفعًا للإيهام لعموم التَّشبيه بجملة أحوال أبي زَرعٍ، إذ لم يكن فيها مذمَّةٌ سوى طلاقِه لها.
          وقد جاء في رواية أبي معاوية الضَّرير ما يدلُّ على أنَّ الطَّلاق لم يكن مِنْ قِبَلِ أبي زرعٍ واختيارِه، فإنَّه قال: لم تزل به أمُّ زرعٍ حتَّى طلَّقها.
          وجاء أنَّ عائشة قالت: ((بأبي أنت وأمِّي، بل أنت خيرٌ لي مِنْ أبي زرعٍ)) وهو جواب مثلِها في فضلِها وعلمِها، فإنَّه ◙ لمَّا أخبرها أنَّه لها كَهُوَ، لفرط محبَّة أمِّ زرعٍ له وإحسانه إليها، أخبرته هي أنَّه عندها أفضل، وهي له أحبُّ مِنْ أبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ.
          فصلٌ: قد أسلفنا في الوجه الخامس أنَّ فيه التَّأسِّي بأهل الإحسان إلى آخره، وهو ما ذكره المهلَّب واعترضَه القاضي فقال: هذا عندي غير مسلَّمٍ لأنَّا لا نقول: إنَّه ◙ اقتدى بأبي زرعٍ، بل أخبر أنَّه لها كأبي زرعٍ، وأَعْلَمَ أنَّ حالَه معها مثل حالة ذلك لا على سبيل التَّأسِّي به، فأمَّا قولُه فيه التَّأسي فصحيحٌ ما لم تصادمه الشَّريعة.
          فصلٌ: قوله لها: (كُنْتُ لَكِ) أي: أنا لك كقولِه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] أي: أنتم خير أمَّةٍ، ويمكن بقاؤُها على ظاهرها كما قال القُرْطُبيُّ: إنِّي كنت لك في علم اللهِ السَّابق، ويمكن أن يكون ممَّا أُريد به الدَّوام كقوله: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134].
          فصلٌ في فوائده مختصرًا غير ما سلف: فيه جواز إعلام الرَّجل بمحبَّته للمرأة إذا أَمِن عليها مِنْ هجرٍ أو شبهه. وفيه ذكر محاسن النِّساء للرِّجال إذا كنَّ مجهولاتٍ، بخلاف المعيَّنات، فذلك منهيٌّ عنه في قولِه: ((لا تَصِف المرأةُ المرأةَ لزوجها حتَّى كأنَّه ينظر إليها)).
          وفيه ما يدلُّ على التَّكلُّم بالألفاظ العربيَّة والأسجاع، وإنَّما كُره ذلك للتَّكلُّف. وفيه حسن المعاشرة مع الأهل ومحادثتهنَّ بما لا إثم فيه، وأنَّ بعضهنَّ ذكرت ما في زوجها مِنْ عيبه، ولم يكن ذلك غيبةً إذا كانوا لا يُعرفون، وإنَّما الغيبة مَنْ عيَّن بما يُكره ذكرُه.
          وفيه جواز قول المرء لصاحبه: بأبي أنت وأمِّي. وفيه الرَّدُّ على مَنْ لم يُجِزْ قول هذا، وما يُحكى عن الحسن ومَنْ قال بقوله، وأنَّه لا يفدي أحدُكم بمسلمٍ، فهذِه عائشة قد قالته وأبواها مسلمان. وفيه شكر المرأة بإحسانَ زوجها، وعليه ترجم النَّسَائيُّ، وخرَّج معه في الباب حديث ابن عمرَ: ((لا ينظر اللهُ إلى امرأةٍ لا تشكر زوجها)). وفيه مدح المرء في وجهِه إذا علم أنَّ ذلك غير مفسدٍ ولا مغيِّرٍ نفسَه، والشَّارع مظنَّةُ كلِّ مدحٍ، ومستحقُّ كلِّ ثناءٍ، وأنَّ مَنْ أثنى بما أثنى فهو فوق ذلك كلِّه، وما أحسن قول البُوْصِيْريِّ فيما أخبرنا غير واحدٍ عنه:
دَعْ ما ادَّعَتْه النَّصَارى في نبيِّهِمِ                     واحْكُم بما شِئْتَ مَدْحًا فيه واحْتَكِمِ
فمَبْلَغُ العِلْمِ فيه أنَّه بَشرٌ                     وأنَّه خَيْرُ خَلْق اللهِ كُلِّهِمِ
          وقد ورد في الأثر أنَّه ◙ كان لا يقبل الثَّناء إلَّا مِنْ مكافئٍ. قال القُتَبِيُّ: إلَّا أن يكون ممَّن أنعم عليه ◙ فيكافئه الآخر بالثَّناء، وردَّه ابن الأنباريِّ وغلَّطه، لأنَّه لا ينفكُّ أحدٌ مِنْ إنعام رسول اللهِ لأنَّ اللهَ تعالى جعله للنَّاس كافَّةً وهداهم ورحمهم به، وكلُّهم تحت نعمته، والثَّناء عليه فرضٌ عليهم لا يتمُّ الإسلام إلَّا به، وإنَّما المعنى لا يقبل الثَّناء إلَّا مِنْ رجلٍ عرف حقيقة إسلامِه ممَّن لا ينبذ بنفاقٍ، وقِيل: مكافئٍ: مقاربٍ في مدحه غير مفرطٍ فيه كما قال ◙: ((لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النَّصارى عيسى ◙)).
          فصلٌ: قال عياضٌ: وفي قوله: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ) في الألفة والوفاء فائدةٌ: إن لم يصحَّ النَّهي عنه جوازُ قولِه للمتزوِّج؛ لأنَّه إذا قاله أحد الزَّوجين لصاحبه فلا يمتنع أن يقولَه الأجنبيُّ لأحدهما، وقد اختلف العلماء في هذا، فرُوي جوازه عن عبد الملك بن حَبيبٍ، وعن شُرَيْحٍ أيضًا، وكرهه آخرون، منهم عَقيل بن أبي طالبٍ فيما رواه عنه الحسن، قال الطَّبَريُّ: ولم يُسمع منه، وقد سلف قريبًا.
          فصلٌ: فيه جواز المزح في بعض الأحيان، وإباحة المداعبة مع الأهل، وبسط الوجه مع جميع النَّاس بالكلام السَّهل الحلو، وكان ◙ يمزح ولا يقول إلَّا حقًّا، أخرجه التِّرْمِذيُّ مِنْ حديث أبي هريرة ☺ بإسنادٍ جيِّدٍ، بلفظ: ((قال: قالوا يا رسول اللهِ إنَّك تداعبنا قال: إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا)) ثُمَّ قال: حديثٌ / حسنٌ، وأخرجه الزُّبير في «كتاب الفكاهة والمزاح» مِنْ هذا الوجه بلفظ: ((قالوا: يا رسول اللهِ صلعم إنَّك تداعبنا، قال: إنِّي وإن داعبتكم فإنِّي لا أقول إلَّا حقًّا)).
          ورواه أيضًا مرسلًا عن بكر بن عبد اللهِ المُزَنيِّ وعن يحيى بن أبي كثيرٍ: ((كان رجلٌ مِنَ الصَّحابة ضحَّاكًا، فذُكر ذلك لرسول اللهِ صلعم فقال: ما تعجبون؟! إنَّه ليدخل الجنَّة وهو يضحك)) وعن طلحة بن خِرَاشٍ وعبد الرَّحمن بن ثابتٍ وعبد اللهِ بن بُسْرٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم ضرب فخذ الفاكه بن سَكَنٍ وقال: ((اسْتَعِطِي يا أمَّ عَمْرة)). وقال لأبي اليَسَر ((يا أمَّ اليَسَر)) قالوا: فألقى الفاكه يدَه على فرجِه لا يشكُّ أنَّه عاد امرأةً فقال له ◙: ((ما لك))؟ فقال: ما شككت أنِّي عدتُ امرأةً، فقال صلعم: ((إنَّما أنا بشرٌ أمزح معكم)) وسمَّاه مِنْ يومئذٍ الموقن.
          وأمّا ما رُوي مِنْ ذمِّ المزاح والنَّهي عنه فيما روى ابن الأعرابيِّ عن المُطَيَّنِ عن أبي نُمَيرٍ عن المحاربيِّ عن أبيه عن عبد الملك عن عكرمة عن مولًى يرفعه: ((لا تمارِ أخاك ولا تمازحه)). وحدَّثنا أبو داود وساقه إلى عبد اللهِ بن السَّائب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((لا يأخذ أحدكم متاع أخيه جادًّا ولا لاعبًا)) فليس هذا مِنَ المزاح المحمود المباح، فإنَّما يهيج الضَّغائن، ويُعدُّ مِنَ السِّباب والكذب، أو يُسلَّط به على ضرر رجلٍ أو ماله، فليس مِنَ المزاح المحمود، ولا هو مِنْ جنس ما جاء به رسول اللهِ صلعم، فإنَّه ليس ممَّا ورد عنه مِنْ ذلك شيءٌ زائدٌ على خفض الجناح وبسط الوجه وطلب التَّودُّد، ومَنْ ذهب إلى أنَّه يسقط الهيبة كما قال أَكْثَم بن صَيْفيِّ، فلعلَّه في الإكثار منه والتَّخلُّق به.
          وأمَّا قول مَنْ قال: إنَّما سُمِّي المِزاح مِزاحًا لأنَّه زاح عن الحقِّ فلا يصحُّ لفظًا ولا معنًى، أمَّا المعنى فلِما ذكرنا عن رسول اللهِ صلعم مِنْ أنَّه كان يمزح ولا يقول إلَّا حقًّا، وأمَّا اللَّفظ فلأنَّ الميم في المزاح أصليَّةٌ ثابتةٌ في الاسم والفعل، ولو كان كما قال كانت تكون زائدةً ساقطةً مِنَ الفعل.
          فصلٌ: وفي الحديث أيضًا أنَّ كنايات الطَّلاق لا يقع بها الطَّلاق إلَّا بالنِّيَّة لأنَّه ◙ قال: (كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ) ومِنْ جملة أفعاله أنَّه طلَّق امرأته أمَّ زرعٍ، ولم يقع عليه ◙ طلاقٌ بتشبيهِه بكونه لم ينو الطَّلاق، وقد سلف في راويةٍ: ((غير أنِّي لم أطلِّقك)).
          فصلٌ: في الباب حديث عائشة ♦: (كَانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فَيَسْتُرَنِي رسول اللهِ صلعم وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهُوَ).
          وقد سلف في العيد [خ¦950] وفي المساجد [خ¦454]، وأنَّ لعبهم كان في المسجد، وادَّعى بعضُهم نسخَه بقول اللهِ تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] وبحديث: ((جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)) وأبداه أبو عبد الملك بحثًا، فقال: يحتمل أن يكون منسوخًا لأنَّ نظر النِّساء إلى الرِّجال وإلى اللَّهو فيه ما فيه، وهو عجيبٌ.
          وقولُه: (فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ) يُقال: قدرت لأمر كذا أقدُر وأقدِر إذا نظرت فيه ودبَّرته، وقدَر بفتح الدَّال كما ذكره ابن التِّينِ. قال الهَرَويُّ: قَدَرْتُ على الشَّيء أَقْدِرُ قَدْرًا وقَدَرًا وقُدْرةً ومَقْدِرةً وقُدْرانًا، قال: ومنه يُقال: أقدر بدرعك. وضَبْطُهُ عند ابن فارسٍ بإسكان الدَّال، والمعنى: أنَّ الجارية تطيل المقام لأنَّها مشتهيةٌ للنَّظر.