التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب هجرة النبي نساءه في غير بيوتهن

          ░92▒ (بَابُ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلعم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ).
          وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ: غَيْرَ أَنْ لاَ تُهْجَرَ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ.
          5202- ثمَّ ساق حديثَ أمِّ سَلَمةَ ♦ في إيلائه شهرًا.
          وكذا حديثَ ابن عبَّاسٍ السَّالف قريبًا، لكنَّه ذكره هنا مختصرًا: أنَّ أبا يَعفُورٍ قال: (تَذَاكَرْنَا عِنْدَ أَبِي الضُّحَى، فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ...) فذكَرَهُ.
          و(أَبُو يَعْفُورٍ) هذا هو الصَّغير، واسمُه عبد الرَّحمن بن عُبيد بن نِسْطَاسٍ، والكبيرُ واقِدٌ ولقبُهُ وقْدَان، سمع عبدَ الله بن أبي أَوْفَى ومُصْعَبَ بن سَعْدِ بن أبي وقَّاصٍ.
          5203- وحديث مُعَاويةَ بن حَيْدةَ هذا أخرجه أبو داودَ والنَّسائيُّ والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال أبو قُرَّةَ: أخبرني ابن جُرَيْجٍ، أخبرني أبو قَزَعَةَ إيَّاي وعَطَاءَ بن أبي رَبَاحٍ، عن رجلٍ مِن بني قُشَيْرٍ، عن أبيه: أنَّه سأل رسولَ الله صلعم: ما حقُّ امرأتي؟ قال: ((تُطْعِمُهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِب وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ)).
          وقول البخاريُّ: (وَالأَوَّلُ أَصَحُّ) يعني حديثَ أنسٍ: (آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا)، واعترض الإسماعيليُّ فقال: لم يصحَّ لي دخول حديث أمِّ سَلَمةَ في الباب، ولا تفسير الآية الَّتي ذكرَها في الباب قبلَهُ. وهو عجيبٌ، وقدْ أَجَبْنا عنِ الثَّاني فيما مضى في الآية المتْلُوَّةِ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، والحديثُ مُبَيِّنٌ لذلك الهِجْرانَ، وحديثُ أمِّ سَلَمَةَ ظاهرٌ في ترجمة الباب، ثمَّ ما أشار إليه البخاريُّ مِن أنَّ الِهجرانَ لا يكونُ إلَّا في غير بيوتِ الزَّوجاتِ مِن أجلِ ما فعلَهُ الشَّارع؛ لأنَّهُ انفردَ عنهنَّ في وقتِ الهِجرانِ في مَشْرُبَةٍ واعتزلَ بُيُوتَهُنَّ، وكأنَّهُ أرادَ البخاريُّ أنْ يَسْتَنَّ الناسُ به في هِجْرانِ نِسائِهم لِمَا فيه منَ الرِّفقِ، لأنَّ هِجْرانَهُنَّ معَ الكونِ في بيوتِهِنَّ آلَمُ لأَنْفُسِهِنَّ وأوجَعُ لقُلُوبِهِنَّ، لِمَا يَنْظُرْنَ مِن العِتابِ والغَضَبِ في الإِعراضِ، ولِمَا في غَيْبَةِ الرَّجُلِ عنْ أَعْيُنِهِنَّ مِنْ تَسْلِيَتِهِنَّ عن الرِّجالِ، وهذا الَّذي أشارَ إليه ليسَ بواجبٍ لأنَّ الله تعالى قدْ أمرَ بهِجْرَانِهِنَّ في المضاجعِ فضلًا عن البيوتِ، وما أَوْرَدْنَاهُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُهَلَّبُ، وقال غيرُه: إنَّما اعْتَزَلَهُنَّ في غيرِ بُيُوتِهِنَّ لأنَّه أَنْكَى لهُنَّ وأبلغُ في عقوبتِهنَّ.
          وروى ابن وَهْبٍ عن مالكٍ قال: بَلَغَني أنَّ عُمَرَ بن عبد العزيز كان له نساءٌ فكان يُغَاضِبُ بعضَهُنَّ، فإذا كانت ليلتُها جاءَ فباتَ عندَهَا ولمْ يَبِتْ عند غيرها، وكان يَفْتَرِشُ في حُجْرِتها فَيَبِيْتُ فيها وتَبِيْتُ هي في بيتها، قلتُ لمالكٍ: وذلك له واسعٌ؟ فقال: نعم، وذلك في كتاب الله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]، وقال ابن عبَّاسٍ: أنْ يكونَ الرَّجلُ وامرأتُهُ في فِراشٍ واحدٍ ولا يُجَامِعُها، وقال السُّدِّيِّ: هَجْرُهَا في الْمَضْجَعِ أنْ يَرْقُدَ معها ويُوَلِّيْهَا ظَهْرَه ويَطَأُهَا ولا يُكَلِّمُهَا، وقال ابن عبَّاسٍ نحوَه، قال: يَهْجُرُها بلسانِهِ ويُغْلِظُ لها بالقولِ، ولا يَدَعُ جِمَاعَهَا، ذكره الطَّبريُّ، فيكون معنى الآيةِ على هذا التَّأويل: قولوا لهُنَّ مِن القولِ هَجْرًا في تَرْكِهِنَّ مُضَاجَعَتكُم، وقال مُجَاهدٌ فيما ذكرَهُ ابنُ أبي شَيْبةَ: لا يَقْرَبُهَا، وقال الشَّعبيُّ: لا يُجَامِعُهَا، وقال مِقْسَمٌ: لا يَقْرَبُ فِرَاشَهَا، وقال عِكْرِمَةُ: هو الكلامُ، وقال ابنُ عبَّاسٍ: إذا أطاعتْهُ في المَضْجَعِ فليسَ لهُ أنْ يَضْرِبَهَا.
          فَصْلٌ: قولُه في حديث ابن عبَّاس: (فَخَرَجْتُ إِلَى المَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مَلْآنُ مِنَ النَّاسِ) كذا هو في الأصول بالنَّون، قال ابن التِّين: عند أبي الحسن: <مَلْأَى>، وعند غيره: (مَلْآنُ) وهو الصَّحيحُ، وإنَّما هو نعتٌ للمؤنَّث، فإنْ لم يكن أرادَ البُقْعَةَ فيصِحُّ ذلك.