التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}

          ░49▒ (بَابُ: قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، وَكَثْرَةِ المَهْرِ، وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20]، وَقَوْلِهِ: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]، وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ).
          5148- ثُمَّ ساق بإسناده حديثَ عَبْدِ العزيز بْنِ صُهَيْبٍ: (عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَن بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ، فَرَأَى النَّبِيُّ صلعم بَشَاشَةَ العَرُوسِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ.
          وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَن بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ).
          وقد سلف في البيوع [خ¦2049]، وهذِه الآثار دالَّةٌ عَلَى إيجاب المهر، ولا حدَّ لأكثره عند العلماء، لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء:20]، قَالَ عمرُ فيما ذكره عبد الرَّزَّاق: لا تُغالوا في صدقات النِّساء، فقالت امرأةٌ: ليس كذلك يا عمر، إنَّ الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء:20]، وكذلك في قراءة عبد الله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}، فقال: إنَّ امرأةً خاصمت عمر فخَصَمَتْه. وروى ابن عُيَيْنة عن يحيى بن سعيدٍ عن مُحمَّد بن إبراهيم التَّيميِّ قَالَ: أصدقَ رسولُ الله صلعم كلَّ امرأةٍ مِنْ نسائه اثنتي عشرة أوقيَّةً ونشًّا، والنَّشُّ: نصف الأوقيَّة، فذلك خمس مئةٍ وثمانون درهمًا، وقال ابن شِهابٍ: اثنتي عشرة أوقيَّةً فذلك أربع مئة درهمٍ. قلت: الصَّواب: اثنتا عشرة أوقيَّةً ونشًّا، والجملةُ خمسُ مئةٍ؛ لأنَّ الأوقيَّة أربعون درهمًا، والنَّشُّ نصف أوقيَّةٍ، وكذا خرَّجه مسلمٌ عن أبي سلمة بن عبد الرَّحْمَن عن عائشة.
          وأغرب الحاكم فاستدركَه وقال: صحيح الإسناد، وعليه العمل، قَالَ: وإنَّما أصدقَ النَّجاشيُّ أمَّ حبيبة أربع مئة دينارٍ استعمالًا لأخلاق الملوك في المُبالغة في الصَّنائع لاستعانة الشَّارع به في ذَلِكَ، قلت: وقيل: مئتي دينارٍ، وفي أبي داود: أربعة آلاف درهمٍ، نعم في التِّرْمِذيِّ: قَالَ عمر: ما علمتُ رسولَ الله صلعم نكحَ شيئًا مِنْ نسائه ولا بناته أكثر مِنِ اثنتي عشرة أوقيَّةً، أربع مئةٍ وثمانون درهمًا. ثُمَّ قَالَ: حسنٌ صحيحٌ.
          وفي «بلغة المستعجل» لمُحمَّد بن أبي نصرٍ الحُمَيديِّ: صدقاته لكلِّ واحدةٍ مِنْ نسائه خمس مئة درهمٍ، هذا أصحُّ ما قيل في ذَلِكَ حاشى صفيَّة، ورُوي عن عمر أنَّه أصدق أمَّ كلثومٍ بنت عليٍّ أربعين ألف درهمٍ، وأن ابن عمر أصدق صفيَّة عشرة آلاف درهمٍ، وعن ابن عبَّاسٍ وأنسٍ مثله، ورُوي عن الحسن بن عليٍّ أنَّه تزوَّج امرأةً فأرسل إليها بمئة جاريةٍ، مع كلِّ جارية ألف درهمٍ، وتزوَّج مصعب بن الزُّبَير عائشةَ بنت طلحة فأرسل إليها ألفَ ألفِ درهمٍ، فقيل في ذَلِكَ:
بُضْعُ الفَتَاةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ كَامِلٍ                     وَتَبِيتُ سَادَاتُ الجُيُوشِ جِيَاعَا
          وعند ابن أبي شيبة: زوَّج ابن عوفٍ عَلَى ثلاثين ألفًا، وأصدق غَيلان بن مُطَرِّفٍ امرأةً عشرين ألفًا. وقال المغيرة بن حَكيمٍ: أوَّل مَنْ سنَّ الصَّداق أربع مئة دينارٍ عمر بن عبد العزيز، وقال ابن سيرين: رخَّص عمر أن تُصدق المرأة ألفين، وعثمان في أربعة آلافٍ.
          وفي «الإشراف»: أصدقَ ابن عمرُ صفيَّة عشرة آلافٍ _وقد سلف_ وكان يزوِّج بناته عَلَى عشرة آلافٍ، وتزوَّج ابن عبَّاسٍ شُمَيْلة عَلَى عشرة آلافٍ، وتزوَّج مالك بن أنسٍ امرأته كذلك. وقال ابن أبي شَيبة: حَدَّثنا أبو معاوية عن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عمرَ عن نافعٍ قَالَ: تزوَّج ابنُ عمر صفيَّة عَلَى أربع مئة درهمٍ، فأرسلت إليه أنَّ هذا لا يكفينا، فزادها مئتين سرًّا مِنْ عمر، قَالَ الحربيُّ: أصدق النَّبِيُّ صلعم / سَوْدة بيتًا ورثه، وعائشة عَلَى متاع بيتٍ قيمتُه خمسون درهمًا، رواه عطيَّة عن أبي سعيدٍ، وزينب بنت خُزَيمة أصدقَها ثنتي عشرة أوقيَّةً ونشًّا، وأمَّ سلمة عَلَى متاعٍ قيمته عشرة دراهم، وقيل: كان عَلَى جرَّتين ورحًى ووسادةٍ حشوها ليفٌ، وعند أبي الشَّيخ: عَلَى جرٍّ أخضر ورحَى بُرٍّ، وعند التِّرْمِذيِّ: عَلَى أربع مئة درهمٍ، فالله أعلم.
          وفي مسلمٍ: لمَّا قَالَ للأنصاريِّ وقد تزوَّج: ((بكم تزوَّجتها؟)) قَالَ: عَلَى أربع أواقٍ، فقال ◙: ((أربعِ أواقٍ؟! كأنَّما تَنحِتونَ الفضَّةَ مِنْ عَرضِ هذا الجبل))، وعند أبي الشَّيخ: عَلَى ثمان أواقٍ، والزَّوج عبد الله بن أبي حَدْردٍ، وفي لفظٍ: قَالَ له: ((كم أَصْدَقْتَها؟)) قَالَ: مئتي درهمٍ، وهي ابنة الحارث، فقال ◙: ((كأنَّكُم تكتالون مِنْ واديكم هذا)) يعني بُطْحَان ((عَلينا نصفُ الصَّداق))، وعند ابن أبي شَيبة عن مُحمَّد بن إبراهيم التَّيميِّ: أنَّ أبا حَدْردٍ استعانَ النَّبِيَّ صلعم في مهر امرأته، فقال: ((كَمْ أَصْدَقْتَهَا))... الحديث، ولابن حبَّان عن أبي هريرة ☺: كان صداقُنا إذ كانَ فينا رسول الله صلعم عشرة أواقٍ، زاد أبو الشَّيخ ابن حيَّان في كتاب «النِّكاح»: يُطبق يده، فذَلِكَ أربع مئة درهمٍ.
          وعن ابن عمر بإسنادٍ جيِّدٍ: ما أصدقَ النَّبيُّ صلعم امرأةً مِنْ نسائه ولا مِنْ بناته أكثر مِنْ ستَّة عشرة أوقيَّةً، وللتِّرْمِذيِّ وصحَّحه بلفظ: ثِنتَي عشرةَ أوقيَّةً. وفي روايةٍ لأبي الشَّيخ: عَلَى أكثر مِنْ أربع مئةٍ وثمانين درهمًا. وعن عَديٍّ: سنَّة رسول الله صلعم أو صداقُ بناته أربع مئة درهمٍ، وله بإسنادٍ جيِّدٍ: أنَّ رسول الله صلعم زوَّج ربيعة بن كعبٍ الأسْلميَّ امرأةً مِنَ الأنصار عَلَى وزن نواةٍ مِنْ ذهبٍ.
          ورُوي عن أنسٍ: قيمةُ النَّواة خمسةُ دراهمَ، وفي روايةٍ: ثلاثة دراهم وثلث درهمٍ، وإليه ذهب أحمد، وقال بعض المالكيَّة: ربع دينارٍ، وقال أبو عبيدة: لم يكن هناك ذهبٌ، إنَّما هي خمسة دراهمَ تُسمَّى نواةً، كما تُسمى الأربعين أوقيَّةً.
          واختُلف في مقدار أقلِّ الصَّداق الَّذي لا يجوز النِّكاح بدونه، عَلَى أقوالٍ:
          أحدُها وهو قول مالكٍ: لا أرى أن تُنكَح المرأة بأقلَّ مِنْ ربع دينارٍ، وهي ثلاثة دراهمَ، وذلك أدنى ما يجب فيه القطع.
          ثانيها وهو قول الكوفيِّين: لا يكون أقلَّ مِنْ عشرة دراهمَ قياسًا عَلَى القطع عندهم.
          ثالثها وهو قول النَّخَعيِّ: أقلُّه أربعون درهمًا، وكره أن تُزوَّج بأقلَّ مِنْ ذَلِكَ، وعنه أنَّه قَالَ: في الصَّداق الرِّطل مِنَ الذَّهب، وعنه أنَّه قَالَ: أكرَهُ أن يكون مثل مهر البغيِّ، ولكن العشرة والعشرون، قَالَ أبو عمرَ: يحتمل أن يكون هذا منه عَلَى سبيل الإخبار لا أنَّه لا يجوز بأقلَّ منه، وكذا ما رُوي عن سعيد بن جُبَيْرٍ، فإنَّه كان يحبُّ ذَلِكَ.
          رابعها وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ: أقلُّه خمسون درهمًا.
          خامسها لابن شُبْرُمة: خمسة دراهم، قَالَ أبو عمر: وفي هذا تقطع اليد عنده.
          سادسها: لا حدَّ في أقلِّ الصَّداق، ويجوز ما تراضَوا عليه، رُوي هذا عن سعيد بن المُسَيِّب وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسارٍ والقاسم بن مُحمَّدٍ وسائر فقهاء التَّابعين بالمدينة: ربيعة وأبي الزِّناد ويحيى بن سعيدٍ وابن أبي ذئبٍ، ومِنَ العراق: ابن أبي ليلى والحسن البصريُّ وعمرو بن دينارٍ وعبد الكريم وعثمان البتِّيُّ وعبيد الله بن الحسن والزَّنْجيُّ، وهو قول الثَّوْريِّ واللَّيث والشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وقال الأوزاعيُّ: كلُّ نكاحٍ وقع بدرهمٍ فما فوقَه لا ينقضه قاضٍ، وقال الشَّافعيُّ: كلُّ ما كان ثمنًا لشيءٍ أو أجرةً جاز أن يكون صداقًا.
          واحتجُّوا بأنَّه ◙ أجاز النِّكاح بخاتَم حديدٍ، وأجاز ابن وَهْبٍ النِّكاح بدرهمٍ وبنصف درهمٍ، قَالَ ابن القاسم: لو تزوَّجها بدرهمين ثُمَّ طلَّقها قبل الدُّخول لم يرجع إَّلا بدرهمٍ، وعن الثَّوْريِّ: إذا تراضَوا عَلَى درهمٍ في المهر فهو جائزٌ، وعند عبد الرَّزَّاق عن مَعمرٍ عن الزُّهْريِّ عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ ☻ قَالَ: النِّكاح جائزٌ عَلَى موزةٍ إذا هي رضيت. وقال الدَّرَاوَرْديُّ لمالكٍ: تعرَّقتَ فيها يا أبا عبد الله، يقول: ذهبت فيها مذهب أهل العراق.
          واحتجَّ مالكٌ والكوفيُّون بأنَّه عضوٌ مستباحٌ ببدلٍ مِنَ المال، فلا بدَّ أن يكون مقدَّرًا قياسًا عَلَى القطع، واحتجُّوا بأنَّ اللهَ تعالى لمَّا شرط عدم الطَّوْل في نكاح الإماء، وأباحَه لِمَنْ لم يجد طَولًا دلَّ عَلَى أنَّ الطَّوْل لا يجدُه كلُّ النَّاس، فلو كان الفَلْس والدَّانق والقبضة مِنَ الشَّعير ونحوه طَولًا لما عَدِمَه أحدٌ، والطَّول في معنى الآية: المال، ولا يقع عندهم اسم مالٍ عَلَى أقلَّ مِنْ ثلاثة دراهم، فوجب أن يُمنع مِنِ استباحة الفروج بالشَّيء التَّافه، والنَّواة عند أهل اللُّغة زنة خمسة دراهمَ، وأظنُّ الَّذي قَالَ: إنَّ أقلَّ الصَّداق خمسة دراهمَ إنَّما أخذه مِنْ حديث النَّواة، وهذا غفلةٌ شديدةٌ لأنَّ زنة النَّواة ثلاثة مثاقيل ونصفٌ مِنَ الذَّهب، فكيف يحتجُّ بهذا مََنْ جعل أقلِّ الصَّداق خمسة دراهم مِنْ فضَّةٍ؟!.
          حجَّة الشَّافعيِّ حديثُ عامر بن ربيعة: أنَّ امرأةً مِنْ بني فَزارة تزوَّجت عَلَى نعلين، فقال رسول الله صلعم: ((أَرضِيتِ مِنْ نفسك ومالك بنعلين؟)) قالت: نعم، فأجازَه، رواه ابن ماجه والتِّرْمِذيُّ وقال: حسنٌ. وفي «أطراف ابن عساكر» زيادةٌ: صحيح. ورواه أبو القاسم البَغَويُّ عن عامرٍ عن أبيه قَالَ: أتى النَّبِيَّ صلعم رجلٌ مِنْ بني فَزارة ومعه امرأةٌ له، فقال: إنِّي تزوَّجتُها بنعلين، فقال لها: ((رَضِيتِ؟)) قَالَت: نعم، ولو لم يعطني لرضيت، فقال: ((شأنُكَ وشأنُها)).
          وحديثُ عقبة بن عامرٍ ☺: أنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: ((خيرُ النِّكاح أيسرُه))، وقال النَّبيُّ صلعم لرجلٍ: ((أترضى أن أزوِّجك فلانة؟)) قَالَ: نعم، فقال لها: أترضين أن أزوِّجك فلانًا؟ قالت: نعم، فزوَّجها ◙ ولمَّا يفرض لها صداقًا، فدخل بها قبل أن يعطيها شيئًا، فلمَّا حضرت الوفاة قَالَ: إنَّ رسول الله صلعم زوَّجني فلانة ولم أعطها شيئًا، وقد أعطيتُها سهمي مِنْ خيبر، وكان له سهمٌ بخيبر، فأخذته فباعته، فبلغ مئة ألفٍ. رواه أبو داود وصحَّحه ابن حبَّان والسِّياق له، والحاكم وقال: صحيحٌ عَلَى شرط الشَّيخين.
          وحديثُ جابرٍ: إن كنَّا لنَنْكِحُ المرأةَ عَلَى الحفنة والحفنتين من الدَّقيق، أخرجه أبو الشَّيخ بإسنادٍ جيِّدٍ واستغربه الجَوْزَقَانيُّ، وللبَيْهَقيِّ: قَالَ ◙: ((لو أنَّ رجلًا تزوَّج امرأةً عَلَى ملءِ كفِّه مِنْ طعامٍ لكان ذَلِكَ صداقًا))، وفي روايةٍ: ((مَنْ أعطى في صداقِ امرأةٍ مثلَ الحفنة سَويقًا أو تمرًا فقد استحلَّ))، قَالَ البَيْهَقيُّ: رواه ابن جُرَيْجٍ فقال فيه: كنَّا نستمتع بالقبضة، وابن جُرَيْجٍ أحفظُ، وفي «كتاب أبي داود» عن يزيد عن موسى بن مسلم بن رُوْمان عن أبي الزُّبَير عن جابرٍ ☺ مرفوعًا: ((مَنْ أعطى في صداق امرأةٍ ملءَ كفِّه سَويقًا أو تمرًا فقد استحلَّ))، وموسى قال ابنُ القَطَّان: لا يُعرف، وقال أبو مُحمَّدٍ: لا نعوِّل عليه.
          وحديثُ ابن البَيْلَمَانيِّ عن ابن عمر مرفوعًا: ((أدُّوا العلائقَ)) قالوا: يا رسول الله، وما العلائق؟ قَالَ: ((مَا تراضى عليه الأهلون))، وفي حديث ابن أبي لَبِيْبة عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((مَنِ استحلَّ بدرهمٍ فقد استحلَّ))، وعن عمر بن الخطَّاب: في ثلاث قبضات زبيبٍ مهرٌ، وقال سعيد بن المُسَيِّب: قَالَ: لو أصدقَها سوطًا حلَّت له، وسُئل ربيعة عمَّا يجوز مِنَ النِّكاح فقال: درهمٌ، قلت: فأقلَّ؟ قَالَ: ونصفٌ، قلت: فأقلَّ؟ قَالَ: حبَّة حنطةٍ، أو قبضة حنطةٍ.
          قَالَ الشَّافعيُّ: سألتُ الدَّرَاوَرْديَّ: هل قَالَ أحدٌ بالمدينة: / لا يكون الصَّداق أقلَّ مِنْ ربع دينارٍ؟ فقال: لا والله ما علمتُ أحدًا قاله قبل مالكٍ، قَالَ الدَّرَاوَرْديُّ: أخذَه عن أبي حنيفة، يعني: في اعتبار ما تُقطع به اليد، قَالَ الشَّافعيُّ: وروى بعضُ أصحاب أبي حنيفة في ذَلِكَ عن عليٍّ، ولا يثبت مثله، ولم يخالف غيره أنَّه لا يكون مهرًا أقلُّ مِنْ عشرة دراهمَ.
          قَالَ البَيْهَقيُّ: هذا رواه داود الأوديُّ عن الشَّعْبيِّ عن عليٍّ، وقد أنكره حفَّاظ الحديث، قَالَ سفيان بن سعيدٍ: ما زال هذا يُنكَر عليه، وقال أحمد: لقَّن غياث بن إبراهيم داود الأوديَّ هذا فصار حديثًا، وكان يحيى بن سعيدٍ وابن مهديٍّ لا يحدِّثان حديث داود. قلت: وإن وثَّقه أبو داود ويحيى بن مَعينٍ والنَّسَائيُّ وأحمد وابن شاهينٍ وغيرهم، قَالَ ابن القطَّان: وثَّقه جماعةٌ، وغلط فيه ابن حَزْمٍ فقال: إن كان عمَّ ابن إدريس فهو ضعيفٌ وإِلَّا فمجهولٌ، فليس هو، وقد كتب الحُمَيديُّ له مِنَ العراق بصحَّة حديثه، فلا أدري رجع أم لا، وأيضًا الشَّعْبيُّ عن عليٍّ في اتَّصاله وقفةٌ.
          قَالَ البَيْهَقيُّ: وروى الحسن بن دينارٍ _وهو متروكٌ_ بإسنادٍ آخر عن عليٍّ أنَّه قَالَ: لا مهرَ أقلَّ مِنْ خمسة دراهمَ، وروى جعفر بن مُحمَّدٍ عن أبيه أنَّ عليًّا قَالَ: الصَّداق ما تراضى به الزَّوجان، ولمَّا رواه أبو عمر مِنْ حديث مجالدٍ عن عامرٍ رماه بالانقطاع.
          قَالَ البَيْهَقيُّ: وأنكرُ مِنْ حديث الأوديِّ هذا ما رواه مُبَشِّر بن عُبيدٍ عن حجَّاج بن أَرْطاة عن عمرو بن دينارٍ عن جابرٍ مرفوعًا: ((لا مهرَ دون عشرة دراهم)) وهو منكرٌ، حجَّاجٌ لا يحتجُّ به، ولم يأت به عنه غير مُبَشِّرٍ، وقد أجمع أهلُ العلم بالحديث عَلَى ترك حديثه، وقَالَ الجَوزَقانيُّ لمَّا ذكره: هذا منكرٌ، لم يروِه عن عَطاءٍ وعمرو بن ديناٍر إلَّا الحجَّاج بن أَرْطاة، ولا رواه عنه إلَّا مُبَشِّرٌ، وتفرَّد به عنه بقيَّة. قَالَ ابن عَديٍّ: هذا الحديث مع اختلاف إسناده باطلٌ. وقال ابن عبد البرِّ: لا يثبته أحدٌ مِنْ أهل العلم بالحديث، وروى أبو هارون العَبْديُّ عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ مرفوعًا: ((ليسَ عَلَى المرءِ جناحٌ أن يتزوَّج مِنْ ماله بقليلٍ أو كثيرٍ إذا شهد))، ورواه ابنُ أبي لَبِيبة عن أبيه عن أبي سعيدٍ، عند الدَّارَقُطْنيِّ، وعند أبي عمر عن أبي لَبِيبة الأَشْهَليِّ مرفوعًا: ((مَنِ استحلَّ بدرهمٍ في النِّكاح فقد استحلَّ)) وفي إسناده ضعفٌ.
          قَالَ ابن المُنْذرِ: لا وقت في الصَّداق كَثُر أو قَلَّ، هو ما تراضَوا به، ولا نعلم حجَّةً تثبت صداقًا معلومًا لا يجوز غيره، وقال أبو عمرَ: أجمع علماء المسلمين أنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يطأ فرجًا وُهب له دون رقبته، وأنَّه لا يجوز وطءٌ في نكاحٍ بغير صداقٍ مسمًّى دينًا أو نقدًا، وأنَّ المفوَّض إليه لا يدخل حتَّى يُسمِّي صداقً، وأغرب ابن حَزْمٍ فجوَّزه بكلِّ ما له نصفٌ قلَّ أو كثر، ولو أنَّه حبة برٍّ أو حبَّة شعيرٍ وشبههما، وزوَّج ابن المُسَيِّب ابنته الَّتي خطبها الخليفة بدرهمين.