التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إنكاح الرجل ولده الصغار

          ░38▒ (بَابُ: إِنْكَاحِ الرَّجُلِ وَلَدَهُ الصِّغَارَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] فَجَعَلَ عِدَّتَهَا ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ البُلُوغِ).
          5133- ذكر فيه حديثَ عَائِشَةَ ♦: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم تَزَوَّجَهَا وَهْيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهْيَ بِنْتُ تِسْعٍ، وَمَكَثَتْ عَنْدَهُ تِسْعًا).
          كأنَّ البُخاريَّ أراد بهذِه التَّرجمة الرَّدَّ عَلَى ابنِ شُبْرُمة، فإنَّه حُكي عنه أنَّ تزويج الآباءِ الصِّغارَ لا يجوز، ولهنَّ الخيار إذا بَلغْنَ، قَالَ الطَّحَاويُّ: ولم يقل به أحدٌ مِنَ الفقهاء / غيرُه، ولا يُلتفت إليه لشذوذه ومخالفته دليلَ الكتاب والسُّنَّة، وإنَّما اختلفوا في الأولياء غيرَ الآباء إذا زوَّج الصَّغيرة، كما سلف.
          ونقل المُهَلَّب الإجماع عَلَى أنَّه يجوز للأب تزويجَ ابنتِه الصَّغيرة الَّتي لا يُوطأ مثلها لعموم الآية، ويجوز نكاح مَنْ لم تَحِضْ مِنْ أوَّل ما تُخلق، وأغربَ ابنُ حَزْمٍ فقال: لا يجوز للأب ولا لغيره نكاحُ الصَّغير الذَّكر حتَّى يبلغ، فإن فعل فهو مفسوخٌ أبدًا، واختاره قومٌ، ولا حجَّة لهم إلَّا قياسه عَلَى الصَّغيرة، ولو كان القياس حكمًا لكان قد عارض هذا قياس مثله، وهو أنَّهم أجمعوا أنَّ الذَّكر إذا بلغ لم يكن لأبيه ولا لغيره مدخلٌ في إنكاحه، بخلاف الأنثى الَّذي له فيه مدخلٌ إمَّا بإنكاحٍ أو بإذنٍ، فلذا يجب أن يكون حكمُهما مختلفين.
          قَالَ أبو عُبيدٍ: الفرق بين الأب وغيرِه أنَّه ليس لأحدٍ مِنَ الأولياء معه ولايةٌ ما لم يأتِ منه عضلٌ، فيكون هو المخرج لنفسه مِنْ ولايتها.
          وفيه دلالةٌ عَلَى جواز نكاح مَنْ لَا وطءَ فيه لعلَّةٍ بأحد الزَّوجين، لصِغرٍ أو آفةٍ أو غير أربٍ في الجماع، بل بحسن العشرة والتَّعاون عَلَى الدَّهر، وكفاية المؤنة والخدمة، بخلاف مَنْ يقول: لا يجوز نكاحٌ لا وطء فيه، ويؤيِّد هذا حديثُ سَوْدة حيث وهبت يومها لعائشة وقالت: ما لي في الرِّجال مِنْ أربٍ.
          واختلف العلماء في الوقت الَّذي تُدخل فيه المرأة عَلَى زوجها إذا اختلف الزَّوج وأهلها في ذَلِكَ، فقالت طائفةٌ: تدخل عليه وهي بنت تسعٍ، اتِّباعًا لحديث عائشة ♦، وهو قول أحمد وأبي عُبيدٍ، وقال أبو حنيفة: نأخذ بالتِّسع غير أنَّا نقول: إن بلغتها ولم تقدر عَلَى الجماع كان لأهلها منعُها، وإن لم تبلغ التِّسع وقويت عَلَى الرِّجال لم يكن لهم منعها مِنْ زوجها. وكان مالكٌ يقول: لا نفقة لصغيرةٍ حتَّى تدرك أو تطيق الرِّجال. وقال الشَّافعيُّ: إذا قاربَتِ البلوغ وكانت جسيمةً تحتمل الجماع فلزوجها أن يدخل بها، وإلَّا منعَها أهلُها حتَّى تحتمله.
          فصلٌ: اختُلف عَلَى هشام بن عروة في سنِّ عائشة ♦ حينَ العقد، فروى عنه سفيان بن سعيدٍ وعليُّ بن مِسْهرٍ وأبو أسامة وأبو معاوية وعَبَّاد بن عَبَّاد وعَبْدة: ستَّ سنين. ورواه الزُّهْريُّ عنه وحمَّاد بن زيدٍ وجعفر بن سليمان فقالوا: سبع سنين، وطريق الجمع أنَّه كان لها ستُّ سنين وكسرٌ، ففي روايةٍ: أُسقط، وفي أخرى أُثبت بدخولها في السَّبع، أو أنَّه قالته تقريبًا، ويؤيِّد الثَّاني ما رواه أبو عُبيدٍة عن أبيه مِنْ طريق ابن ماجَهْ: تزوَّج رسول الله صلعم عائشةَ وهي بنتُ سبع سنين.
          فصلٌ: حكى الدَّاوُديُّ عن ابن أبي ليلى: لا يزوِّج الأبُ ابنتَه الصَّغيرة إلَّا برضاها، وعن أحمد: تُوكِّلُ بنتُ تسعٍ مَنْ يزوِّجها، وعن طاوسٍ أنَّها تُخيَّر إذا بلغت، وما ذكره البُخاريُّ يردُ عليهم، وعندنا أنَّ للأب وكذا الجَدُّ عند عدمِه تزويج البكر صغيرةً وكبيرةً بغير إذنها، ويُستحبُّ استئذان الكبيرة، وهو مذهب مالكٍ في الأب، وعن أبي حنيفة: لا يجوز له ذَلِكَ حتَّى يستأذنها إذا بلغت، فإن لم تفعل وكرِهَتْه فُسخ، دليلنا قوله ◙: ((والبكرُ يزوِّجُها أبوها)).