التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا تزوج البكر على الثيب

          ░100▒ (بَابُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ)
          5213- ذكر فيه حديثَ بِشْرِ بن خالدٍ: (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أنسٍ: وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قَالَ النَّبِيُّ صلعم لَقُلْتُ وَلَكِنْ قَالَ: السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا).
          ░101▒ (بَابُ إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ)
          5214- ذكر فيه حديثَ أبي أُسَامةَ: (عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أيُّوبُ وَخَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ ☺ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلعم، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ وَخَالِدٍ، قَالَ خَالِدٌ: وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ: رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلعم).
          الشرح: هذا التعليقُ أخرجه مسلمٌ: عن محمَّد بن رافِعٍ عن عبد الرَّزاَّق، ولمَّا ذكر التِّرمذيُّ حديثَ خالدٍ / الحذَّاءِ صحَّحه، ثمَّ قال: وقد رفَعَهُ محمَّدُ بن إسحاقَ، عن أيُّوبَ، عن أبي قِلَابَة، عن أنسٍ، ولم يرفعْه بعضُهم. كأنَّه يُشير إلى ما رواه ابن ماجه: عن هَنَّادِ بن السَّرِيِّ، حدَّثنا عَبْدَةُ بنُ سليمانَ، عن محمد بن إسحاقَ، عن أَيُّوبَ، عن أبي قِلابةَ، عن أنسٍ ☺: قال رسولُ الله صلعم: ((لِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ، وَلِلْبِكْرِ سَبْعٌ)). وقال أبو حاتِمٍ: روى محمَّد بن إسحاقَ هذا الحديث عن الحسن بن دِينارٍ، عن أيُّوبَ، فكنتُ مُعجبًا بهذا الحديث حتَّى رأيت عِلَّته. ولم يتفرَّد به ابنُ إسحاقَ كما هو ظاهرُ إيراد التِّرمذيِّ، فإن ابنَ حزمٍ أخرجَه مِن حديثِ النَّبيل: حدَّثنا سُفْيَان بن سعيدٍ، عن أيُّوبَ وخالدٍ، كِلاهما عن أبي قِلَابَة، عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله صلعم أقام عندَها سبعًا. وقال ابن عبد البرِّ: لم يَرْفَع حديثَ خالدٍ، عن أبي قِلَابَة، عن أنسٍ في هذا غيرُ أبي عاصمٍ فيما زعموا، وأخطأ فيه، وأمَّا حديث أيُّوب عن أبي قِلَابَة فمرفوعٌ، لم يختلفوا في رفْعِهِ.
          قلتُ: قد رفعَه عنه سُفْيَان الثَّوريِّ كما أوردناه، وأخرجه أيضًا كذلك ابنُ خُزَيمَة وابنُ حبَّان في صحيحهما مِن حديثِ عبد الجبَّار، عن سُفْيَان: حدَّثنا أيُّوب، فذكرَه مرفوعًا، وكذا أوردَه الإسماعيليُّ مِن حديثِ عبد الوهَّاب الثقَفِيِّ، عن أيُّوبَ، عن أبي قِلَابَة، عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلعم: ((للبِكرِ سبعٌ، وثلاثٌ للثَّيِّبِ))، ولمَّا ذكره الدَّارقطنيُّ في «الغرائب والأفراد» قال: تفرَّد برفعِه عبد الجبَّار بن العلاء، عن سُفْيَانَ بن عُيَيْنَة، عن أيَّوبَ، عن أبي قِلَابَة، وفيه: ثمَّ يعود إلى نسائه، ورواه أيضًا مِن حديثِ عبد الجبَّار، وقال: تفرَّد به عن سُفْيَانَ، عن حُمَيدٍ، عن أنسٍ مرفوعًا، وهو في «صحيح» ابن خُزيمة وابن حبَّان كذلك مرفوعًا.
          ورواه ابنُ وَهْبٍ في «مسنده» عن عبد الله بن عُمر ومالكٍ ويحيى بن أيُّوبَ، عن حُميدٍ، وتؤيِّده أحاديثُ منها: حديث أمِّ سَلَمَة أنَّ النَّبيَّ صلعم لما تزوج أمَّ سلَمةَ أقام عندها ثلاثًا، وقال: ((إنَّه ليسَ بكِ على أهلِكِ هَوانٌ، إنْ شِئتِ سبَّعتُ لكِ، وإن سبَّعتُ لكِ سبَّعتُ لِنِسائِي)) أخرجه مسلمٌ، وفي رواية: ((إنْ شئتِ ثَلَّثْتُ ودُرْتُ))، قالت: ثلِّثْ، وفي روايةٍ: ((لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ))، زاد ابن وَهْبٍ: ((إنْ شئتِ أنْ أزيدَك زِدتُك، ثمَّ حاصَصْتُكِ به بعدَ اليومِ)).
          وللدَّارقطنيِّ: كُنْ عندي اليومَ، فقال: ((إنْ شئتِ كنتُ عندكِ اليومَ وقَاصَصْتُك بِه))، ثمَّ قالَ: ((للبنتِ سبعُ ليالٍ))، وفي روايةٍ: ((إنْ شئتِ أقمتُ معكِ ثلاثًا خالصةً لكِ))، قالت: تُقيمُ معي ثلاثًا خالصةً، وللبيهقيِّ: ((إنَّ لكِ على أهلكِ كَرامةً)).
          ولابن أبي حاتمٍ مِن حديثِ أبي قُتَيْبَة، عن إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي سَلَمَةَ، عنها: ((إنْ شئتِ سبَّعتُ لكِ وسبَّعتُ لنسائِي، وإنْ شئتِ زِدتُ في مهركِ وزِدتُ في مهورهنَّ))، ثمَّ قال أبي: لو صحَّ هذا الحديث لكانت الزِّيادة في المهْرِ جاريةً. وللدَّارقطنيِّ مِن طريقٍ مرسلةٍ: تزوجها في شوَّالٍ، وفيه: ((وإلَّا فَثَلَاثَتُكَ ثمَّ أدُورَ عليكِ في لَيْلتِك)).
          ومنها لأبي دَاوُدَ: لمَّا أخذ ◙ صفيَّة أقامَ عندها ثلاثًا، وكانت ثيِّبًا.
          ومنها للدَّارقطنيِّ: مِن حديثِ الحجَّاج بن أَرْطَأْةَ، عن عَمْرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه عن جدِّه، عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إذا تزوَّج الثَّيِّبَ فلها ثلاثٌ ثمَّ يقسِمُ))، وفي «مصنَّف عبد الرَّزَّاق»: أخبرنا ابن جُريجٍ، عن عَمْرِو بن شُعيبٍ وابن إسحاقَ قالا: قال رسول الله صلعم: ((للبكرِ ثلاثٌ وللثَّيِّب لَيْلَتانِ)). ومثله للدَّارقطنيِّ مِن حديثِ عَائِشَة بإسنادٍ فيه ضعفٌ: أنَّه ◙ قال: ((البِكرُ إذا نكحَها رجلٌ ولَه نسَاءٌ لها ثلاثُ ليالٍ، وللثَّيِّبِ لَيْلَتانِ))، قال التِّرمذيُّ: وبه قال بعض أهل العِلم، والقول الأوَّل أصحُّ.
          وفي «المصنَّف»: لمَّا ذكر خالدٌ الحذَّاء لابن سِيرينَ قولَ أنسٍ: للبِكْرِ سَبعٌ وللثَّيِّبِ ثلاثٌ، قال محمَّدٌ: زِدتمْ هذه أربعًا وهذه ليلةً، رواه عن ابن عُيَيْنَة عنه، قال: وحدَّثنا عبد الأعلى، عن يُونُسَ، عن الحسن أنَّه قال: للبِكرِ ثلاثٌ وللثَّيِّبِ لَيلتَين. وفي حديث عَبْدَة، عن سعيدٍ، عن قَتَادَة عنه: يقيمُ عندَ البكرِ ثلاثًا، ويقيمُ عند الثَّيِّب ليلَتين ثمَّ يَقسِمُ. وحدَّثنا ابنُ مَهْدِيٍّ عن حمَّادٍ، عن إبراهيمَ: للبكرِ ثلاثًا وللثَّيِّبِ لَيْلَتين. وحدَّثنا عبد الوهَّاب بن عطاءٍ، عن سعيدٍ، عن قَتَادَة، عن الحسنِ وسعيدِ بن المسيِّبِ وخِلاسٍ، قالوا: إذا تزوَّجَ البِكرَ على امرأةٍ أقامَ عندها ثلاثًا ثمَّ يَقسِمُ، وإذا تزوَّجَ الثَّيِّبَ أقامَ عندها لَيْلَتَين ثمَّ يَقسِمُ. وحدَّثنا يزيدُ، عن حُميدٍ، قال الحسنُ: سبعٌ وليلتين.
          قال ابن المنذر: ورُوي عن نافعٍ أيضًا أنَّه قال: للبكرِ ثلاثٌ وللثَّيِّبِ لَيْلَتَان، وقال الثَّوريُّ: لهذا القولِ كان يُقَال ذلك. وقال الأوزاعيُّ: إذا تزوَّج البِكْرَ على الثَّيِّب مكثَ ثلاثًا، وإذا تزوَّج الثَّيِّبَ على البِكْرِ مكثَ يومين. وفي «المحلَّى» عن عبد الرَّزَّاق عن ابن جُريجٍ: أنَّه سأل عطاءً عن ذلك، فقال عَطَاءٌ: ما يدور عن أنس بن مالكٍ أنَّه قال: للبِكر ثلاثًا وللثَّيِّب ليلتين.
          وحكاه في «التَّمهيد» عن الثَّوريِّ: إذا تزوَّج البِكْرَ على الثَّيِّب أقام عندها ليلتين ثمَّ قسَمَ بينهما. وحكاه في «الاستذكار» عن الأوزاعيِّ: مَضَت السُّنَّة أن يُقيمَ عند البِكر سبعًا وعند الثَّيِّب أربعًا. ثمَّ قال أبو عُمر: أربعًا خطأٌ، ولعلَّه مِن خطأ اليد.
          وقال ابن أبي شَيْبَة: حدَّثنا أبو قَطَنٍ، عن شُعبةَ، عن الحكم وحمَّادٍ أنَّهما قالا: هما في القَسْمِ سواءٌ.
          قال ابن المُنذر: وهو قول الكوفيِّين، وأجمع كلُّ مَن أحفظ عنه العِلْمَ على أنَّ القَسْم بين المسلمةِ والذِّمِّيَّة سواءٌ لأنَّهنَّ حرائرٌ، فلا فرقَ بينهنَّ في أحكام الأزواج.
          ورُوِّينا عن عليٍّ ☺ أنَّه قال: إذا تزوَّج الحرُّ الحرَّة على الأَمَةِ قسَمَ للحرِّة يومين وللأَمَة يومًا. وقال به سعيد بن المسيِّب ومسروقٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو عُبيدٍ وأبو ثورٍ، وذكر أبو عُبَيدٍ أنَّه قولُ الثَّوريِّ والأوزاعيِّ وأهلِ الرأي، وقال مالكٌ: إذا تزوَّج العبدُ حرَّةً وأَمَةً عدل بينهما بالسَّويَّة. وقال الكوفيُّون: يقسِم بينهما كما يقسِم الحرُّ، وبه قال أبو ثورٍ، وكان أبو حنيفة والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ يقولون: الصَّحيحُ والمريضُ والعنِّينُ والخَصِيُّ والمَجبُوبُ في القَسْمِ سواءٌ. وكان الشَّافعيُّ يقول في المرأة تُثقِل: لا بأس أن يقيمَ عندها حتَّى تخفَّ أو تموتَ، ثمَّ يوفِّي مَن بقي مِن نسائه مثلَ ما أقام عندها، / وبه قال أبو ثورٍ، وقال الكوفيُّون ما مضى هَدْرٌ، ويَسْتقبل العدل فيما يستقبل.
          قال مالكٌ وأبو حنيفة: الصَّغيرة الَّتي جُومعت والبالغ سواءٌ، وقال الشَّافعيُّ وأبو حنيفة ومالكٌ: الحائض والنُّفساء والمريضة والمجنونة الَّتي لا تمتنع والصَّحيحة سواءٌ في القَسْم.
          قال الشَّافعيُّ: إن أراد أن يقسِم ليلتين ليلتين أو ثلاثًا ثلاثًا كان ذلك له، وأكرهُ مجاوزة الثَّلاث.
          وهذا سلف، وحاصل اختلاف العلماء في الباب أنَ طائفةً قالت: يُقيم عند البِكر سبعًا، وعند الثَّيِّب ثلاثًا إذا كانت له امرأةٌ أخرى أو أكثر على النَّصِّ السَّالف، ثمَّ يقسِمُ بينهما ولا يقضي للمتقدِّمة بدل ما أقام عند الجديدة، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثورٍ وأبي عُبيدٍ، حجَّتهم حديث الباب، وأخرى قالت: للثَّيِّب ليلتين وللبكر ثلاثًا، وهو قول ابن المسيِّب والحسنِ والأوزاعيِّ كما سلف، قال: إذا تزوَّج البِكرَ على الثَّيِّب مكثَ ثلاثًا، وإذا تزوَّج الثَّيِّب على البِكر أقام يومين. وقال أبو حنيفة وأصحابُه: لا يقيم عند البِكر إلَّا كما يقيم عند الثَّيِّب، وهما سواءٌ في ذلك؛ احتجاجًا بحديث أمِّ سَلَمَة السَّالف: ثَلِّثْ ودُر. فلم يُعطِها في السَّبع شيئًا إلَّا أعلمَها أنَّه يعطي غيرَها مثلها، فدلَّ ذلك على المساواة بينهنَّ، وكذلك قوله: ((وإن شئتِ ثَلَّثْتُ ودُرتُ)) أي أدور مثلِّثًا أيضًا لهنَّ كما أدور سبعًا إن سبَّعت لك، ولو استحقَّت الثَّيِّب ثلاثة أيَّام قِسمةً لها لوجبَ إذا سبَّع عندها أن يربِّع لهنَّ.
          أجاب عنه الأوَّلون بأنَّ قوله ◙: ((ليسَ بكِ على أهلِك هوانٌ)) يدلُّ على أنَّه رأى منها أنَّها استقلَّت الثَّلاثَ الَّتي هي حقُّها فأنَّسَها بذلك، أي لستُ أَقْسِم لك ثلاثًا لهوانِك عندي، وإنَّما قَسَمْتُها لك لأنَّه حقُّ الثَّيِّب، وخيَّرَها بين أعلى الحقوق وأشرفِها عند النِّساء وهي السَّبع وبين الثَّلاث، على شرطٍ: إنِ اخْتارت السَّبعَ قَسَمَ لكلِّ ثيِّبٍ مثلَها، وإن اختارت الثَّلاث الَّتي هي حقُّها لم يقسِم لغيرها مثلَها، فرأت أنَّ الثَّلاثَ الَّتي هي حقُّها أفضلُ لها إذ لا يقسِمُ لغيرِها مثلَها ولسرعة رجوعِه إليها، فاختارَتْها وطابت نفسُها عليها ورأَتْ أنَّها أرجحُ عندها مِن أن يُسبِّع عندها على أن يسبِّع عند غيرها، وفي هذا ضربٌ مِن الرِّفق واللُّطفِ بمن يُخشى منه كراهية سؤال الحقِّ حتَّى يتبيَّن له فضلُه ويختار الرُّجوع إليه.
          وممَّا يبطِلُ قول الكوفيِّين أنَّه إن ثلَّث عندها ثلَّث عندهنَّ ثمَّ يستأنف القَسْم، أنَّه ◙ لمَّا ذكر السَّبع قَرَنها بالقضاء كما سلف، ولمَّا ذكر الثَّلاث لم يَقْرِنها به؛ لأنَّ الدَّوران عليهنَّ يقتضي ابتداء قَسْمٍ لا قضاءٍ، فسقط قولهم، وقد خالفوا حديثَ أمِّ سَلَمَة لأنَّه ◙ جعل لها الخِيَار في القَسْم، وأبو حنيفة يجعله إلى الزَّوج، وفي هذا مخالفة الخبر، قال أحمد بن خالدٍ: هذا الباب عجيبٌ، لأنَّه صار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق، لأنَّ حديثَ أنسٍ بصريٌّ، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه أهل المدينة، وقولُ أهل المدينة أَوْلَى لقول أنسٍ: السُّنَّةُ كَذَا. والصَّحابيُّ إذا ذكر السُّنَّةَ بالألف واللَّام فإنَّما أشار إلى سنَّته ◙، وقد صرَّح بذلك أيضًا كما سلف، واللَّام في قوله: ((للبكرِ سبعٌ وللثَّيِّب ثلاثٌ)) لام الملْك، فدلَّ أنَّ ذلك حقٌّ مِن حقوقها فمحالٌ أن يُحَاسبَها بذلك.
          وقول ابن المسيِّب والحسن خِلاف للآثار فلا معنى له، وكذلك قال أبو عُمر: فيه عجبٌ لأنَّه صار فيه أهلُ الكوفة إلى ما رواه أهلُ المدينة عن أمِّ سلمة، وصار فيه أهلُ المدينة إلى ما رواه أهلُ العراق عن أنسٍ.
          واحتجَّ أبو حنيفة وداودُ ومَن قال بالتَّسوية بين البِكر والثَّيِّب بما يجب مِن العدل بين النِّساء، وبحديث عَائِشَة ♦ وأبي هُرَيْرَةَ المذكورين في آخر الباب قبلَه، قال محمَّد بن الحَسَنِ: لأنَّ الحُرْمة لهما سواءٌ، ولم يكن ◙ يُؤثر واحدةً على أخرى، واحتجَّ بقوله: ((إن سبَّعتُ لكِ سبَّعتُ لنِسَائي، وإن شئتِ ثلَّثتُ ودُرتُ))، يعني بمثل ذلك أدورُ ثلاثًا ثلاثًا، ولم يُعطِها في السَّبع شيئًا إلَّا أعلمَها، كما سلف.
          وفي «فضائل الشَّافعيُّ» للحاكم أنَّ الشَّافعيَّ لمَّا احتجَّ عليه بأنَّه لم يُعطِها في السَّبع شيئًا إلَّا أعلمَها أنَّه يعطي غيرَها مثله بقوله: إنَّها كانت ثيَّبًا، فلم يكن لها إلَّا الثَّلاث، فقال لها: إن أردتِ حقَّ البِكر وهي أعلى حقوق النِّساء وأشرفُها عندهنَّ بعفوك حقَّكِ إذ لم تكوني بِكْرًا فيكون لك سبعٌ فعلتُ، وإن لم تُريدي غيرَه وأردتِ حقَّك فهو ثلاثٌ. قال قال خصمُه: فهل له وجهٌ غيره؟ قلتُ: لا، إنَّما يُخيَّر مَن له حقٌ يشركه فيه غيره مِن أن يترك مِن حقِّه، قلت له: يلزمك أن تقول مثل ما قلنا لأنَّك زعمت أنَّك لا تخالف الواحد مِن الصَّحابة ما لم يُخَالفه مثلُه، ولا نعلمُ هنا مخالفًا لِمَا ذَكَرَه، والسُّنَّة ألزمُ لك مِن قولك.
          فَصْلٌ: عند أكثر العلماء ذلك واجبٌ لها، كان عند الرَّجل زوجةٌ أم لا للحديث السَّالف، ولم يخصَّ مَن له زوجةٌ ممن لا زوجةَ له، وصحَّحه ابنُ بطَّالٍ، ونقل عن ابن عبد الحكم أنَّ مرادَ الحديث: مَن له زوجةٌ ثم تزوَّج عليها، وعن بعضِهم: المراد العُمُوم؛ لأنَّ السُّنَّة لم تخصَّ، ثمَّ نَقَلَ عن ابن القاسم عن مالكٍ أنَّ المقامَ المذكور إذا كان له امرأةٌ أخرى واجبٌ، وعن ابن عبد الحكم أنَّه مُستحبٌ.
          وقد اختلفوا في المقام المذكور: هل هو مِن حقوقها عليه أو مِن حقوقه على سائر نسائه؟ فقالت طائفةٌ: هو حقُّها إن شاءَت طالبَت به وإن شاءَت تركَتهُ. وقال آخرون: هو مِن حقوقِه، إن شاءَ أقامَ عندها وإن شاءَ لم يُقِمْ، فإن أقامَ عندها ففيه مِن الاختلاف ما ذكرناه، وإن لم يُقمْ عندها إلَّا ليلةً دارَ، وكذلك إن أقامَ ثلاثًا دارَ على ما ذكرنا مِن اختلافهم، والأوَّل عندي أَوْلَى لإخبار الشَّارع أنَّ ذلك حقٌّ للبِكْر والثَّيِّب.
          وقال ابن التِّين: في بعض حديث أمِّ سَلَمَة الحجَّةُ لأبي حنيفة في قوله: إنَّ السَّبعةَ والثَّلاث للاستئناس، ثمَّ يقسِمُ لصواحبها كذلك ويُحَاسبها بالأيَّام الَّتي حُبسَ عندَها، ونقل ابن التِّين عن مذهب مالكٍ أنَّه لا يحاسبها، ثمَّ قال: فإنَّ ذلك حقٌّ لها، وقيل: للزَّوج، يريد: إذا كان له نسوةٌ سواها. وقيل: لهما جميعًا.
          وفائِدَةُ الخِلاف: أنَّها إذا تركته قُسِّم بينها وبين غيرها إذا قلنا: إنَّه حقٌّ لها، وعلى القول بأنَّه حقٌّ له أيضًا إذا تركت حقَّه قُسِم بينها وبين / صواحبها، وإن كرهت، وإن قلنا: لهما _وهو الصَّحيح_ فلا يقسِمُ لها ولهنَّ إلَّا برضاهما جميعًا أو تنقضي المدَّة.
          فَصْلٌ: قال الباجِيُّ في «منتقاه»: هل يتخلَّفُ العروسُ في هذه المدَّةِ عن الجَماعة والجُمُعة؟ روى ابن القاسم عن مالكٍ المنعَ، ونقله ابنُ بطَّالٍ عن الشَّافعيِّ، وقال سُحنُونُ: عن بعضهم أنَّه لا يخرجُ لأنَّ ذلك حقٌّ لها بالسُّنَّة، وهذا على مَن تأوَّل إقامته عند البِكر والثَّيِّب على العُمُوم، ومَن رأى أن يخرج إلى الصَّلاة تأوَّل إقامته عندها على ما يجب لها مِن القِسمة والمبيت دون غيرِها مِن أزواجه، فليس ذلك بمانعٍ له مِن الحضور، كما يفعل غير العروس في قِسْمته بين نسائه، وليس له التَّخلُّف عن الجماعة.
          ووجهُ كونه لا يخرج أنَّ مَن مَلَك منافع أجيرٍ في مدَّةٍ ما فإنَّه يسقط بذلك عنه فرائضُ الجُمُعة وحقوق إتيان الجماعاتِ كالسَّيِّد في عبدِه، فإن قلنا: إنَّه حقٌّ للزَّوجة، هل يُقضى به على الزَّوج أم لا؟ قال أشْهَبُ: هو حقٌّ عليه ولا يُقضى به عليه كالمتعة، وعن محمَّد بن عبد الحكم: يُقضى به، قال ابن حبيبٍ: ويخرج إلى حوائجِهِ وصلاتِهِ، بِكْرًا كانت أو ثيِّبًا، كانت له زوجةٌ أم لا. وروى ابنُ أبي أُوَيْسٍ عن مالكٍ فيمن دخلَ على امرأته ليلةَ الجُمُعةِ، أيتخلَّف عن الجُمُعة؟ قال: لا، تزوَّج أمير المؤمنين المَهْدِيُّ بالمدينةِ فخرج إلى الصُّبح وغيرِها.
          فَصْلٌ: خصَّ البِكرَ بالسَّبع لِمَا في خُلقِ الأبكارِ مِن الاستيحاشِ مِنَ الرِّجال والنَّفار مِن معاشرتهم، ولِمَا يَلْقى الرَّجل مِن مُعالجتهنَّ في الوصول إليهنَّ، بخلاف الثَّيِّب لسهولة أمرِها وعِلْمِها بمباشرة الرِّجال لم يفسَحْ لها في المدَّة أكثر مِن ثلاثٍ.
          فَصْلٌ: عندنا أنَّ المقامَ عندهما كذلك واجبٌ، وهو رواية ابن القاسم عن مالكٍ، وفي رواية ابن عبد الحكم: مستحبةٌ.