التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب النظر إلى المرأة قبل التزويج

          ░35▒ (بَابُ: النَّظَرِ إِلَى المَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ).
          5125- ذكر فيه حديثَ عائشة ♦: (أُرِيْتُكِ فِي المَنَامِ...)، وقد سلف أوَّل النِّكاح [خ¦5078].
          5126- وحديثَ سهل بن سعدٍ في الواهبةِ نفسها وقد سلف، وفيه: (فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ)، وفي آخره: (فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ).
          وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه مسلمٌ، والمغيرةِ أخرجه التِّرْمِذيُّ وقال: حسنٌ وابنُ ماجه، وأخرجه ابن حبَّان مِنْ حديث أنسٍ أنَّه صلعم قَالَ للمغيرة... الحديث، ومُحمَّدِ بن مَسْلمة أخرجه التِّرْمِذيُّ والبَيْهَقيُّ وقال: مختلفٌ في إسناد ومدارُه عَلَى الحجَّاج بن أَرْطاة، وسمَّى المخطوبة ثُبَيْتَةَ بنتَ الضَّحَّاك أختَ أبي جَبِيْرة، وجابرٍ / أخرجه أبو داود بإسنادٍ جيِّدٍ، قَالَ البزَّار: لا نعلمه يُروى عنه إلَّا مِنْ هذا الوجهِ، ولا أسندَ واقد بن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن مُعاذٍ إلَّا هذا الحديث، قَالَ ابن القطَّان: ولا أعرفه، قلت: قد ذكره ابنُ حبَّان في «ثقاته». وأبي حُميدٍ أخرجه البزَّار وقال: لا نعلم له طريقًا غير هذا، وأخرجه أحمد وقال: أبو حُميدٍ أو حُميدة، الشَّكُّ مِنْ زهيرٍ، قَالَه ابن حبَّان في «صحيحه»، وفي الباب أيضًا عن أنسٍ: أنَّه صلعم كان إذا أراد خطبةَ امرأةٍ بعث أمَّ سُلَيمٍ تنظر إليها... الحديث، وأخرجه أبو داود في «مراسيله» دون ذكر أنسٍ، وذكر البَيْهَقيُّ الوصل مِنْ طريقين، وذكر مهنًّا عن أحمد أنَّه منكرٌ، وذكره الخلَّال في «علله» مِنْ حديث حمَّاد بن سَلَمة عن أنسٍ، قَالَ أبو عبد الله: أخبرنا وكيعٌ، حَدَّثنا سفيان عن رجلٍ أنَّ النَّبِيَّ صلعم بعث عائشةَ إلى امرأةٍ لتنظر إليها، فلمَّا جاءت قالت: يا رسول الله ما رأيت طائلًا، فقال: ((لقد رأيتِ بجسدِها خَالًا اقشعرَّت كلُّ شعرةٍ منك)) فقالت: يا رسول الله، ما دونك سِترٌ.
          أمَّا فقه الباب فالنَّظر إلى المخطوبة سنَّةٌ لهذِه الأحاديث، ولا قائل بوجوبه إذ قد ورد: فلا بأس وشبهه، ولا يُقال في الواجب، وقال ابن بَطَّالٍ: ذهب جمهور العلماء إلى أنَّه لا بأس بالنَّظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوَّجها، وهو قول الأربعة والثَّوْريِّ والكوفيِّين، وقالوا: لا ينظر إلى غير وجهها وكفَّيها، وقَالَ الأوزاعيُّ: ينظر إليها ويجتهد وينظر إلى مواضع اللحم.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ بأنَّه ينظر إليها بإذنها وبغيره بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قَالَ: الوجه والكفَّان، وحديثِ أبي حميدٍ السَّالف فإنَّه صريحٌ فيه فإنَّ لفظه: ((لا حرج أن ينظر الرَّجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوَّجَها مِنْ حيث لا تعلم)).
          وخالفهم آخرون وقالوا: لا يجوز لِمَنْ أراد النِّكاح ولا غيره أن ينظر إليها، إلَّا أن يكون زوجًا لها، أو ذا محرمٍ منها، ووجهُها وكفَّاها عورةٌ بمنزلة جسدها، واحتجُّوا بحديث ابن إسحاق عن مُحمَّد بن إبراهيم عن سَلَمة عن أبي الطُّفيل عن عليٍّ أنَّه صلعم قَالَ له: ((يا عليُّ، لا تُتبِع بالنَّظرة النَّظرةَ، فإنَّما لك الأولى وليس لك الأُخرى))، فلمَّا حرَّم النَّظرة الثَّانية لأنَّها تكون باختيار النَّاظر، وخالف بين حكمها وحكم ما قبلها إذ كانت بغير اختيارٍ مِنَ النَّاظر، دلَّ عَلَى أنَّه ليس لأحدٍ أن ينظر إلى وجه امرأةٍ إلَّا أن تكون زوجةً له أو ذات محرمٍ.
          واحتجَّ عليهم أهلُ المقالة الأولى أنَّ الَّذي أباحه الشَّارع في الآثار الأُوَل هو النَّظر للخطبة لا لغير ذَلِكَ، وذلك لسببٍ هو حلالٌ، ألا ترى أنَّ رجلًا لو نظر إلى وجه امرأةٍ لا نكاح بينه وبينها للشَّهادة أنَّ ذَلِكَ جائزٌ، وكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها، فأمَّا المنَّهي عنه فالنَّظر إلى غير الخطبة ولغير ما هو حلالٌ، ورأيناهم لا يختلفون في نظر الرَّجل إلى صدر الأَمَة إذا أراد أن يبتاعَها أن ذلك جائزٌ له، ولو نظر إليها لغير ذَلِكَ كان عليه حرامًا، فكذلك نظره إلى وجهها إن كان فعل ذَلِكَ لمعنًى هو حلالٌ، فهو غير مكروهٍ.
          وإذا ثبت أنَّ النَّظر إلى وجه المرأة لخطبتها حلالٌ، خرج بذلك حكمه مِنْ حكم العورة لأنَّا رأينا ما هو عورةٌ لا يُباح لِمَنْ أراد نكاحها النَّظر إليه، ألا ترى أنَّه مَنْ أراد نكاح امرأةٍ حرامٌ عليه النَّظر إلى شعرها وصدرها وإلى ما أسفل مِنْ ذَلِكَ مِنْ بدنها، كما يحرم ذَلِكَ منها عَلَى من لم يُرد نكاحها، فلما ثبت أنَّ النَّظر إلى وجهها حلالٌ لِمَنْ أراد نكاحَها ثبت أنَّه حلالٌ أيضًا لِمَنْ لم يرد نكاحها إذا لم يقصد بنظره إلى معنًى هو عليه حرامٌ، وقد قَالَ المفسِّرون في قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: إنَّه الوجه والكفَّان، وقال ابن عبَّاسٍ: الوجه وباطن الكفِّ.
          فرعٌ: لا يُشترط رضاها ولا إذنها، وعن مالكٍ روايةٌ ضعيفةٌ: لا ينظر إليها إلَّا بإذنها.
          فرعٌ: إذا لم يمكنه النَّظر استحبَّ أن يبعث امرأةً تتأمَّلها وتصفها له.
          فرعٌ: لا ينظر إليها نظرَ تلذُّذٍ ولا شهوةٍ ولا لزينةٍ، قَالَ الإمام أحمد: ينظر إلى الوجه عَلَى غير طريق لذَّةٍ، وله أن يردِّد النَّظر إليها متأمِّلًا مَحاسنها، قَالَ ابن قُدَامة: ولا يُباح له النَّظر إلى ما لا يظهر عادةً، وعن داود: ينظر إلى جميعِها، حتَّى قَالَ ابن حَزْمٍ: يجوز النَّظر إلى ما ظهر وما بطن، بخلاف الجارية المشتراة، فإنَّه لا يجوز له أن ينظر إلَّا إلى وجهها وكفِّها، وهذا لفظه في «مُحلَّاه»: ومَنْ أراد أن يتزوَّج امرأةً فله أن ينظرَ منها إلى ما بطن وظهر، مستقبلًا لها وغير مستقبلٍ، وليس له ذَلِكَ في الأَمَة الذي يريد شراءها، لا ينظر منها إلَّا إلى الوجه والكفَّين فقط، لكن يأمرُ امرأةً يثق بها إلى أن تنظر إلى جميع جسمِها وتخبرُه به. انتهى.
          ووجه ما ذكره ظاهرُ قوله صلعم: (انْظُرْ إِلَيْهَا)، لنا الآية السَّالفة ولأنَّه أُبيح للحاجة فيختصُّ بما تدعو إليه، وهو ذَلِكَ، والحديثُ مطلقٌ ومَنْ نظر إلى وجهِ إنسانٍ سُمِّي ناظرًا إليه، ومَنْ رآه وعليه ثيابه سُمِّي رائيًا له، كما قَالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4]، وقال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:36]، وفي رواية حنبلٍ عن أحمد: لا بأس أن ينظرَ إليها وإلى ما يدعوه إلى نكاحها مِنْ يدٍ أو جسمٍ ونحو ذَلِكَ.