التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: الوليمة حق

          ░67▒ بابٌ: الوَلِيمَةُ حَقٌّ.
          5166- (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلعم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) سلف مسندًا غير مرَّةٍ [خ¦2048].
          ذكر فيه حديث أنس بن مالكٍ (أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَكَانَ أُمَّهَاتِي يُوَاظِبْنَنِي عَلَى خِدْمَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَخَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلعم وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللهِ صلعم بِزَيْنَبِ ابْنَةِ جَحْشٍ).. الحديث.
          الشَّرح: هذِه التَّرجمة لفظ حديثٍ أخرجه البَيْهَقيُّ مِنْ حديث أنسٍ مرفوعًا: ((الوليمة في أوَّل يومٍ حقٌّ، وفي الثَّاني معروفٌ، وفي الثَّالث رياءٌ وسمعةٌ)) ثُمَّ قال: ليس بقويٍّ فيه بكر بن خُنَيسٍ، تكلَّموا فيه، قلت: قال فيه ابن مَعينٍ مرَّةً: شيخٌ صالحٌ لا بأس به، إلَّا أنَّه يروي عن ضعفاء، ويكتب مِنْ حديثه الرِّقاق، وقال العِجْليُّ: كوفيٌّ ثقةٌ، وقال الجَوزَجَانيُّ: لا بأس به في السِّير، وحسَّن له التِّرْمِذيُّ حديث: ((عليكم بقيام اللَّيل)).
          وخرَّج الحاكم حديثه في «مستدركِه»، وذكر ابن أبي حاتمٍ أنَّ مروان بن معاوية الفَزَاريَّ رواه عن عوفٍ عن الحسن عن أنسٍ مثله مرفوعًا، وقال أبوه: إنَّما هو الحسن عن رسول اللهِ صلعم، مرسلٌ.
          ورواه أبو الشَّيخ مِنْ حديث مجاهدٍ عن أبي هريرة مرفوعًا: ((الوليمة حقٌّ وسنَّةٌ، فمَنْ دُعِي فلم يجب فقد عصى اللهَ ورسوله، والخَرْص والعِذَار والتَّوكير أنت فيه بالخيار)) قال: فقلت: ما أدري ما الخرص، قال: طعام الولادة، والعِذار: طعام الخِتان، والتَّوكير: الرَّجل في القوم، أو يبني الدَّار فيصنع طعامًا يدعوهم، فهو بالخيار، إن شاء أجاب وإن شاء قعد.
          وفي «مسند أحمد» مِنْ حديث الحسن عن عثمان بن أبي العاص ودُعي إلى خِتانٍ فأبى أن يجيب، فقيل له، قال: إنَّا كنَّا لا نأتي الخِتان عَلَى عهدِ رسول اللهِ صلعم، ولا نُدعى له. وروى ابنُ أبي شيبة عن جريرٍ عن ليثٍ عن نافعٍ: كان ابن عمر يطعم عَلَى خِتان الصَّبيِّ، ورُوي عن الحسن مِنْ وجوهٍ.
          قال ابن بَطَّالٍ: وقولُه: (الوَلِيمَةُ حَقٌّ) يعني: أنَّ الزَّوج يُندب إليها وتجب عليه وجوب سُنَّةٍ وفضيلةٍ، قال: ولا أعلم أحدًا أوجبها فرضًا، وإنَّما هي عَلَى قدر الإمكان والوجود لإعلان النِّكاح.
          وفي حديثٍ آخر عن أنسٍ أنَّه ◙ أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا في وليمة زينب، وقد روى مالكٌ عن يحيى بن سعيدٍ أنَّه قال: لقد بلغني أنَّ رسول اللهِ صلعم كان يولم بالوليمة ما فيها خبزٌ ولا لحمٌ.
          وهذِه الوليمة كانت عَلَى صفيَّة بنت حُييٍّ في السَّفر مرجعَه مِنْ خيبر، قِيل لأنسٍ: فبأيِّ شيءٍ أولم؟ قال: بسَويقٍ وتمرٍ. قلت: قولُه: (وَلَا أَعْلَمُ) إلى آخرِه قد علمَه غيرُه، فللشَّافعيِّ قولٌ أنَّها واجبةٌ، وقد أسلفناه عن أحمد أيضًا، وهو مشهور مذهب مالكٍ كما قالَه القُرْطُبيُّ، وفي حديث ابن بُرَيدة عن أبيه أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((يا عليُّ لا بدَّ للعرس مِنْ وليمةٍ)).
          وقال ابن حَزمٍ: فرضٌ عَلَى كلِّ مَنْ تزوَّج أن يولم بما قلَّ أو كثر، قال: وهو قول أبي سليمان وأصحابنا، وما أسلفناه عن أحمد ذكره ابن التِّينِ.
          وأمَّا ابن قُدامة فقال في «المغني»: يُستحبُّ لِمَنْ تزوَّج أن يولم ولو بشاةٍ، لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ الوليمة في العرس سُنَّةٌ مشروعةٌ، وليست بواجبةٍ في قول أكثر أهل العلم، وقال بعض أصحاب الشَّافعيِّ: هي واجبةٌ لأنَّه ◙ أمرَ بها عبد الرَّحمن ولأنَّ الإجابة إليها واجبةٌ، فكانت واجبةً، ولنا أنَّه طعامٌ لسرورٍ حادثٍ فأشبه سائر الأطعمة، والخبر محمولٌ عَلَى الاستحباب بدليل ما ذكرنا، وكونُه أمر بشاةٍ، فلا خِلاف أنَّها لا تجب، وما ذكروه مِنَ المعنى لا أصل له، ثُمَّ هو باطلٌ.
          فرعٌ: الإجابة إليها فرض عينٍ، وقِيل: كفايةٌ، وقِيل: سُنَّةٌ.
          قال ابن حَزمٍ: فرضٌ عَلَى مَنْ دُعي إلى وليمةٍ أو طعامٍ فليجبْ إلَّا مِنْ عذرٍ، فإن كان مفطرًا ففرضٌ عليه أن يأكل، فإن كان صائمًا فليدعُ اللهَ لهم. قال: فإن قلت: فقد رويتم مِنْ طريق سفيان _يعني الحديث المخرج عند مسلمٍ_ عن أبي الزُّبَير عن جابرٍ مرفوعًا: ((إذا دُعي أحدكم إلَى طعامٍ فليجب، فإن شاء طَعِمَ، وإن شاء ترك)).
          قلت: أبو الزُّبَير لم يذكر في هذا أنَّه سمعَه مِنْ جابرٍ، ولا هو مِنْ رواية اللَّيث عنه فبطل الاحتجاج به، ولو صحَّ لكان الخبر الَّذي فيه إيجاب الأكل زائدًا عَلَى هذا، وزيادة العدل مقبولةٌ لا يحلُّ تركُها، وعنده أنَّ الأكل واجبٌ.
          وقال عِيَاضٌ: لم يختلف العلماء في وجوب الإجابة في وليمة العرس، واختلفوا فيما عداها. قلت: قاله قبلَه أبو عمر أيضًا، أجمعوا عَلَى وجوب الإتيان إلى الوليمة في العرس، واختلفوا فيما سوى ذَلِكَ، والخلاف ثابتٌ في مذهبنا كما سلف.
          قال عياضٌ: ولا خلاف أنَّه لا حدَّ لأقلِّها ولا لأكثرِها. وقال المهلَّب: اختلاف فِعْلِه ◙ في هذِه الولائم المختلفة يدلُّ عَلَى أنَّه يجب عَلَى قدر الشَّأن في ذَلِكَ الوقت.
          وفي البخاريِّ في باب: مَنْ أولم بأقلَّ مِنْ شاةٍ أيضًا أنَّه أولم عَلَى بعض نسائه بمُدَّين مِنْ شعيرٍ، وعَلَى زينب بشاةٍ، وعَلَى صفيَّة فيما ذكره ابن أبي حاتمٍ عن جابرٍ: ((خرج رسول اللهِ صلعم وفي طرف ردائِه نحوٌ مِنْ مُدٍّ ونصفٍ تمرٌ عجوةٌ، فقال: كلوا مِنْ وليمة أمِّكم)).
          وعند أبي الشَّيخ مِنْ حديث عليِّ بن زيدٍ عن أنسٍ ☺: ((شهدت عرسات رسول اللهِ صلعم، فلم أرَ فيها عرسًا أفضل مِنْ عرس صفيَّة، جِيء بكبشٍ مِنَ الخمس ودقيق شعيرٍ فأكلنا، وسائر عرساته يُبسط لنا نطعٌ فيُنثر عليه زبيبٌ أو تمرٌ، فنأكل)).
          وقد أسلفنا أنَّ الوليمة عَلَى صفيَّة لم يكن فيها لحمٌ، إنَّما هو الحَيْس فيما رواه البخاريُّ وغيرُه، وعند ابن حبَّان: بسَويقٍ وتمرٍ.
          وليس في قوله لعبد الرَّحمن بن عوفٍ: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) منعًا لما دون ذَلِكَ، وإنَّما جعل الشَّاة غايةً في التَّقليل ليسارِه وغناه، وأنَّها ممَّا يُستطاع عليها ولا تجحفُه، ألا ترى أنَّه أَوْلَمَ عَلَى صفيَّة بحَيْسٍ كما سلف ليس فيها خبزٌ ولا لحمٌ، وأَوْلَمَ / عَلَى غيرِها بمُدَّين مِنْ شعيرٍ، ولو وجد حينئذٍ شاةً لأَوْلَمَ بها لأنَّه كان أجودَ النَّاس وأكرمَهم.
          قلت: ويحتمل أنَّه قال له ذَلِكَ لعُسْر الصَّحابة حين هِجرتِهم، وكان أوَّل قدومِه، فلمَّا توسَّعوا بفتح خيبر وشبه ذلك أَوْلَمَ رسول اللهِ صلعم الحَيْس وشبهه ليبيِّن الجواز.
          ويُؤخذ مِنْ حديث ابن عوفٍ الوليمة بعد البناء مطلقًا غير مقيَّدةٍ وقد سلف ويأتي.
          فصلٌ: حقيقة الوليمة: الطَّعام المتَّخذ للعرس مشتقَّةٌ مِنَ الوَلْمِ، وهو الاجتماع لاجتماع الزَّوجين، قاله الأَزْهريُّ وغيرُه، قال ابن الأعرابيِّ: أصلُها تمام الشَّيء واجتماعُه، والفعل منه: أَوْلَمَ.
          وفي «المحكم»: هي طعام العرس والإملاك، وقِيل: هي كلُّ طعامٍ صُنع لعرسٍ وغيرِه، قال الشَّافعيُّ: كلُّ دعوةٍ دُعي إليها رجلٌ، والخِتان، وحادث سرورٍ، مَنْ تركَها لم يبِنْ لي أنَّه عاصٍ كما تبيَّن في وليمة العرس، قال: ولا أحفظ أنَّ النَّبيَّ صلعم قد أجاب إلى دعوةٍ في غير وليمةٍ، ولا أعلمُه أَوْلَمَ عَلَى غير عرسٍ.
          والوليمة أنواعٌ ذكرتها في «لغات المنهاج» فراجعها.
          فصلٌ: قولُه في الحديث: (فَكَانَ أُمَّهَاتِي يُوَاظِبْنَنِي عَلَى خِدْمَةِ النَّبِيِّ صلعم) أي: يَحْمِلْنَنِي ويَبْعَثْنَنِي عَلَى ملازمة خدمتِه والمداومة عليها، ورُوي بالطَّاء المهملة والهمز مِنَ المواطأة عَلَى الشَّيء عَلَى خدمته.