التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا

          ░97▒ (بَابُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا)
          5211- ذكر فيه حديثَ عَائِشَةَ ♦: أَنَّه ◙ (كَانَ إِذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ...) الحديث، وفي آخره: (فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ رِجْلَيْهَا بَيْنَ الإِذْخِرِ وَتَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ لَهُ شَيْئًا).
          هذا / الحديث سلف في الشَّهادات [خ¦2688] وغيرها، ومِن طريقٍ آخر عنها في حديث الإفْكِ [خ¦2661]، وللإسماعيليِّ بعد (عَقْرَبًا): ورسولُ الله صلعم ينظرُ. وهو ظاهرٌ فيما ترجم له مِن القُرعةِ بين النِّساء عند إرادة السَّفر، وليس له المسافَرة بمَن شاء منهنَّ بدونِها، وهو قول أبي حنيفة والشَّافعيِّ، وهو أحد الأقوال عن مالكٍ، ثانيها عنه: له المسافَرَةُ بمن شاء منهنَّ بدونها، ثالثُها لبعض أصحابه: إن سافر لحجٍّ أو غزوٍ أقرَعَ، أو لتجارةٍ خرجَ بمَن شاء، وما نقلناه عن أبي حنيفة هو ما حكاه ابنُ بطَّالٍ، ونقل غيرُه عنه أنَّه الأُولى فقط.
          وقال القُرْطبيُّ: ليست واجبةً عند مالكٍ؛ لأنَّه قد يكون لبعضهنَّ مِن الغَنَاء في السَّفر والصَّلاحيَّة ما لا يكون لغيرها فتتعيَّن الصَّالحة لذلك؛ ولأنَّ مَن وَقَعت عليها القُرعة لا تُجبَر على السَّفر مع الزوج لغزوٍ ولا لتجارةٍ.
          حجَّة الأوَّلين حديثُ الباب ولا يجوز العدول عنه، ووجه الثَّاني أنَّ ضرورته في السَّفر أشدُّ منها في الحَضَر، فيحتاج إلى مَن هي أرفقُ به مِن نسائه، وأعونُ له على أموره، وأقوى على الحركة؛ فلذلك جاز له بغير قُرعةٍ.
          وفيه: العملُ بالقُرعة في المقاسماتِ والاسْتِهَامِ، وقد تقدَّم ذلك في كتاب القِسمة والشَّركة والشَّهادات، وهو مذكورٌ أيضًا في الأيمان، وفيه أنَّ القَسْمَ يكون باللَّيل والنَّهار، وقد بان ذلك في حديث عَائِشَة ♦ قالت: وكان يقسِمُ لكلِّ امرأةٍ منهنَّ يومَها وليلتها، سلف في الشَّهادات وغيره.
          وفيه أنَّ الاستِهامَ بين النَّساء مطلوبٌ، قال ابن بطَّالٍ: وهو مِن السُّنن لا مِن الفرائض، يوضِّحه أنَّ مدَّة السَّفر لا تُحاسَب به المتخلِّفةُ مِن النِّساء الغاديَة، بل يَبتدئ بالقَسْم بينهنَّ إذا قَدِم على سبيلِ ما تقدَّم قبل سفره، ولا خِلاف بين أئمَّة الفتوى في أنَّ الحاضرة لا تُقاصُّ المسافرةَ بشيءٍ مِن الأيَّام الَّتي انفردت بها في السَّفر عند قُدومه، ويعدل بينهنَّ فيما يَسْتقبل، ذكره ابن المنذر عن مالكٍ والكوفيِّين والشَّافعيِّ وأبي عُبَيدٍ وأبي ثورٍ.
          وفي تحيُّل حَفْصَة على عَائِشَة ♦ في بدلٍ بعيرها في الرُّكوب دليلٌ على أنَّه ليس مِن الفروض؛ لأنَّ حَفْصَةَ لا يحلُّ لها مِن رسول الله صلعم إلَّا ما أباحَه الله لها وبذَلَهُ مِن نفسه، فقد تحيَّلت، ولم يبيِّن لها الشَّارعُ أنَّ ذلك لا يحلُّ لها، قاله المُهَلَّبُ.
          وادَّعى القرطبيُّ أنَّ عليها الدَّرك لأنَّها خالفت مرادَه في حديثه، فقد يريد أن يحدِّث عَائِشَة حديثًا يُسرِّهُ إليها أو يختصُّ بها، فتسمعه حَفْصَة، قال: وهذا لا يجوز اتِّفاقًا، لكنْ حملَها على ذلك الغَيرة الَّتي تورث الدَّهش والحيرة.
          وقول المُهلَّب: لو كان القَسْم واجبًا عليه لحرَّم على حَفْصة ما فعلت ليس بلازمٍ؛ لأنَّ القائلَ بوجوب القَسْمِ عليه لا يمنع مِن حديثِ الأخرى في غير وقت القَسْم؛ لجواز دخوله في غير وقت عماد القسم إلى غير صاحبة النَّوبة، ويقبِّلها ويلمسها مِن غير إطالةٍ، وعماد القَسْم في حقِّ المسافر وقتَ نزوله وحالة السَّير ليست منه ليلًا كان أو غيره.
          وذكر ابنُ المُنذرِ أنَّ القِسمة تجبُ بينهنَّ كما تجبُ النَّفقةُ، وهذا يدلُّ على أنَّ القِسمةَ بينهنَّ فريضةٌ، وقولُ أهل العِلْم يدلُّ على ذلك، قال مالكٌ: الصَّغيرة الَّتي قد جُومعت والكبيرة البالغة في القَسْم سواءٌ، وقال الكوفيُّون في المرأة تبلُغُ إذا كان قد جامعَها أنَّها والَّتي قد أدركت في القَسْم سواءٌ، وهو قول أبي ثورٍ، وقال الشَّافعيُّ: إذا أعطاها مالًا على أن تحلِّله مِن يومِها وليلتها ففعلت فالعطيَّةُ مردودةٌ، وعليه أن يوفِّيَها حقَّها.
          وفيه: أنَّ دُعاءَ الإنسان على نفسه عند الحَرَجِ وما شاكلَه يعفو الله عنه في أغلب الأحوال؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ} الآية [يونس:11].
          وفيه أنَّ الغَيرةَ في النِّساء مسموحٌ لهنَّ فيها، وغير مُنكرَةٍ مِن أخلاقهنَّ ولا معاقَبٌ عليها وعلى مثلِها؛ لصبره ◙ لسماع مِثْل هذا مِن قولها، أَلَا ترى قولَها: ((مَا أرَى ربَّكَ إلَّا يُسارِعُ في هَواكَ))، ولم يردَّ ذلك عليها ولا زَجَرها وعَذَرها لِمَا جعل اللهُ في فِطْرتِها مِن شدَّة الغَيرة.
          فَرْعٌ: القُرعة فيما قدَّمناه واجبةٌ عندنا، وأمَّا سيِّدنا رسول الله صلعم فهو مبنيُّ على وجوب القَسْم في حقِّه، فمن قال بوجوبه يجعل إقراعَه واجبًا، ومَن لم يُوجبه يقول: فِعْلُ ذلك مِن حُسنِ العِشْرَة ومكارم الأخلاق وتطيِّيبًا لقلوبهنَّ.
          فَصْلٌ: قولُها: (وَكَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَة يَتَحَدَّثُ) يُحمَل _كما قال الدَّاوديُّ_ أن يكون هذا في ليلة عَائِشَة، والظَّاهرُ كما قال ابن التِّين خِلافُه لأنَّه ◙ لو كان يمشي مع عَائِشَة في ليلتها لفعل مثلَه لحَفْصَةَ، ولم تَحْتَجْ حَفْصَة أن تركبَ بعيرَ عَائِشَة، وإتيانُه ◙ إلى بعير عَائِشَة يدلُّ أنَّ ذلك كانت عادتَه معها، ولذلك رَغِبت حَفْصَةُ في مصاحبته في ليلِهِ، ولَمَّا لم تَرَه عائشةُ في تلك اللَّيلة أدركتها الغَيرة، ولم تجد إلى القول سبيلًا فتمنَّت الموتَ أنَّ عَقْربًا يقرصُها.
          فَصْلٌ: ظاهرُ حديث عَائِشَة أنَّه لا يقسِم بينَها في السَّير والحديث، وأنَّ ذلك كان مع عَائِشَة دائمًا دون حَفْصَةَ، فيحتمل أنَّ هذا القَدْر لا يجب القَسْم فيه؛ إذ الطَّريقُ ليس مَحلًّا للخَلْوَة ولا يحصُلُ لها منه اختصاصٌ، ويحتمل أن يقال: إنَّ القَدْرَ الَّذي يقع به التَّسامح مِن السَّير والحديث مع أحدهما كان يسيرًا كما كان يفعل في الحَضَر، فإنَّه يتحدَّث ويسأل وينظر في مصلحة البيت مِن غير إكثارٍ، وعلى هذا فيكون إنَّما أدام ذلك لأنَّ أصل القَسْمِ لم يكن عليه واجبًا.
          ولم يختلف الفقهاء في أنَّ الحاضِرة لا تحاسب المسافِرَةَ فيما مضى لها مع زوجها في السَّفر كما سلف، وكذلك لا يختلفون في القَسْم بين الزَّوجات في السَّفرِ كما يقسِمُ بينهنَّ في الحَضَر.
          فَصْلٌ: وقع في بعض النُّسخ بعد قولها: (يَا رَبِّ، سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي): <رَسُولَكُ>، كذا هو بالنَّصب بإضمار فعلٍ، التَّقدير: انظر رسولَك، ويجوزُ الرَّفع على الابتداء وإضمارِ الخبر، وقد أسلفنا أنَّ في رواية الإسماعيليِّ: ورسولُ الله صلعم ينظرُ.
          وقولها: (وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ شَيْئًا) ظاهره أنَّه ◙ لم يعرف القصَّةَ، أو يحتمل أن يكون عرفَها بالوحيٍ أو بالقرائنٍ، وتغافَلَ ◙ عمَّا جرى إذ لم يَجْرِ فيها شيءٌ يترتَّب عليه حُكْمٌ.