التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف

          ░109▒ (بَابُ ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِي الْغَيْرَةِ وَالإِنْصَافِ)
          5230- ذكر فيه حديثَ ابن أبي مُلَيْكَةَ: (عَنِ المِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ ☻: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ وَهُوَ عَلَى المِنبَرِ: إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِي فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيْبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِيْنِي مَا آذَاهَا).
          هذا الحديث سلف قطعةٌ منه في فضائلها [خ¦3767] بلفظ: ((فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي))، وسلف في الجهاد في باب: ما ذكر مِن دِرْعه وعَصَاه [خ¦3110] مِن طريق المِسْوَر أيضًا مطوَّلًا، وذكره في الطَّلاق أيضًا [خ¦5278].
          ورواه التِّرمذيُّ مِن حديثِ ابنِ أبي مُلَيْكَةَ أيضًا، عن عبد الله بن الزُّبير، وقال: حسنٌ صحيحٌ، قال: هكذا قال أيُّوب: عن ابن أبي مُلَيْكَةَ عن ابن الزُّبير، وقال غيرُ واحدٍ: عن ابن أبي مُلَيْكَةَ عن المِسْوَر، فيُحتمل أن يكون ابنُ أبي مُلَيْكَةَ رواه عنهما جميعًا.
          والبَضْعَةُ بفتح الباء القِطعةُ مِن اللَّحم، ولا شكَّ أنَّه ◙ يتأذَّى ممَّا تتأذَّى به، قال الدَّاوديُّ: وفيه دليلٌ أنَّه ◙ كان اشترط على عليٍّ، ولعلَّه _إن صحَّ ذلك_ أن يكونَ عليٌّ تطوَّع به بعد عُقْدة النِّكاح.
          وفيه: دفاعُ الرَّجل عن ابنته، وتَكنيةُ الكافر، وهو أبو طالبٍ. وفيه مِن الفِقه _كما قال المهلَّب_ أنَّه قد يحكم في أشياءَ لم تبلغ التَّحريم بأن يمنع منها مَن يريدها، وإن كانت حلالًا لِمَا يلحقها مِن الكراهية في العِرْض أو المضرَّة في المال.
          وفيه أيضًا: بقاءُ عارِ الآباء في أعقابِهم وأنَّهم يعيَّرون بها، ولا يوازون بالأشراف، كما عيَّر رسولُ الله صلعم بنتَ أبي جهلٍ _وهي مُسْلِمةٌ_ بعداوة أبيها لله، فحطَّ بذلك منزلتَها عن أن تحلَّ محلَّ ابنتِه، وكذلك السَّابقةُ إلى الخير والشَّرف في الدُّنيا يبقى في العَقِب فضلُه ويُرعى فيهم أمرُه، أَلَا ترى إلى قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82].
          وفيه دليلٌ أنَّه لا تجتمع أَمَةٌ وحرَّةٌ تحتَ رجلٍ إلَّا برضا الحُرَّة؛ لأنَّه ◙ لم يجعل بنتَ عدوِّه مكافئةً لابنته، فكذلك المرأتان الغير متكافئتين بالحرِّية والإسلام، ولا يجتمعان إلَّا برضا الحرَّة، أَلَا ترى أنَّ رضا فاطمة لو تأتَّى منها لَمَا منعَهُ ◙ ذلك؛ لأنَّه قال: ((يُؤذِيني ما آذَاهَا، وأخافُ أنْ تُفتَنَ في دِينِها))، ولم تكن بنت عدوِّ الله بمأمونةٍ عليها أن تكون ضرَّةً وصاحبةً لها، ولو لم يحزنها ذلك ولا خشي عليها الفِتنة لَمَا منعه مِن نِكاح بنت أبي جهْلٍ.
          ومِن هذا المعنى وحديثِ بَرِيرَة وجبَ تخيير الحرَّة إذا تزوَّج عليها أَمَةً، لأنَّ بَرِيرَة حين عُتقت فارقته لأنَّ زوجها لم يكافئها لحرِّيتِها، فكذلك الحرَّة لا تكافئها المملوكة.
          واختلف العلماء في ذلك، فقال مالكٌ: إذا نكح أَمَةً على حرَّةٍ يجوز النِّكاح والحرَّةُ بالخِيَار، هذه رواية ابنِ وَهْبٍ عنه، وروى عنه ابنُ القاسم أنَّه سُئل عمَّن تزوَّج أَمَةً وهو يجدُ طَولَ حُرَّةٍ، قال: يفرَّق بينهما، قيل: إنَّه يخاف العَنَتَ، قال: السَّوطَ يُضرب، ثمَّ خفَّفه بعد ذلك، قلتُ: فإن كان لا يخشى العَنَت؟ قال: كان يقول: ليس له أن يتزوَّجها. وقال الكوفيُّون والثَّوريُّ والأوزاعيُّ: لا يجوزُ أن يتزوَّج أَمَةً وتحتَه حرَّةٌ ولا يصحُّ نِكَاح الأَمَةِ، ولا فرقَ بين إذْنِ الحرَّة وغير إذنها.
          واختلفوا في نِكاح الحرَّة على الأَمَةِ، فقالت طائفةٌ: النِّكاحُ ثابتٌ، رُوي هذا عن عَطَاءٍ وسعيد بن المسيِّب، وبه قال الكوفيُّون والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ، وفيه قولٌ ثانٍ: وهو: أنَّ الحرَّةَ بالخِيَار إذا علمت، هذا قول الزُّهريِّ ومالكٍ، وفيه قولٌ ثالثٌ: وهو أنَّ نِكَاح الحرَّة يكون طلاقًا للأَمَةِ، رُوي هذا عن ابن عبَّاسٍ، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ.
          فائِدَةٌ: عند ابن أبي حاتمٍ: عن أنسٍ ☺ مرفوعًا: قالت أمُّ سُلَيمٍ: أَلَا تتزوَّج في الأنصار؟ قال: ((إنَّ فيهنَّ غَيرةً))، قال أبي: المرسَلُ أصحُّ.