التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حق إجابة الوليمة والدعوة

          ░71▒ بابُ حَقِّ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالْوَلِيمَةِ. وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ صلعم يَوْمًا وَلاَ يَوْمَيْنِ.
          ذكر فيه أربعة أحاديث:
          5173- أحدُها: عن ابن عمر ☻: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا) وأخرجه مسلمٌ.
          5174- ثانيها: حديث أبي موسى ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (فُكُّوا العَانِيَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَعُودُوا المَرِيضَ). وسلف في الجهاد في باب فكاك الأسير [خ¦3046]، والعاني: الأسيرُ.
          5175- ثالثُها: حديث أبي الأحوص عَنِ الأَشْعَثِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: (قَالَ البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ☻: أَمَرَنَا رسول اللهِ صلعم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ).. الحديث. سلف في الجنائز [خ¦1239]، وقال فيه: ((وعن المَيَاثِر والقَسِّيَّة)) ثُمَّ قال: تابعه أبو عَوانة والشَّيبانيُّ عن أشعث في إفشاء السَّلام. وأبو الأحوص اسمه: سَلَّام بن سُلَيمٍ الحنفيُّ الكوفيُّ، مات سنة تسعٍ وسبعين ومئةٍ، وفيها مات مالكٌ، وحمَّاد بن زيدٍ، وخالد بن عبد اللهِ الطَّحَّان.
          والتَّسميت بالسِّين المهملة والمعجمة. والمياثر: حمرٌ كانت مِن مراكب العجم، كما قاله ابن فارسٍ، وقال الدَّاوُديُّ: هو ما يُغشى به عيدان السَّرْج مِنَ الأحمر. والقَسِّيَّة بتشديد السِّين: ثيابٌ يُؤتى بها مِنْ مِصر فيها الحرير. والإستبرق: غليظ الدِّيباج، وغَلِطَ الدَّاوُديُّ فقال: هو الحسن مِنْ رقَّته، وقِيل: أصلُه استبرهْ، ونهى عنه تأكيدًا له، ثُمَّ حرَّم الدِّيباج كلَّه.
          5176- رابعُها: حديث سهل بن سعدٍ قَالَ: (دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَسُولَ اللهِ صلعم فِي عُرْسِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ يَوْمَئِذٍ خَادِمَهُمْ وَهْيَ العَرُوسُ) قَالَ سَهْلٌ: (تَدْرُونَ مَا سَقَتْ رَسُولَ اللهِ صلعم؟ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ). ويأتي بعده، أخرجه مسلمٌ أيضًا.
          و(أَبُو أُسَيْدٍ) بضمِّ الهمزة اسمُه مالك بن ربيعة بن البُدْن، وقِيل: البدي، وقِيل: اسم البُدْن: عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، أخي الأوس، قِيل: إنَّه آخر مَنْ مات من البدريِّين سنة ستِّين أو سنة خمسٍ وستِّين، له عَقِبٌ بالمدينة وبغداد.
          وأمُّ أُسيدٍ هذِه هي أُمُّ المُنذِر وأُسيدٍ، واسمُها: سلامة بنت وهب بن سلامة بن أميَّة، ذكرَها أهل النَّسب ولم يذكرها أحدٌ مِنْ جملة الصَّحابة، وقد صحَّ أنَّ ابنها الَّذي حنَّكه النَّبِيُّ صلعم لمَّا جيء به إليه فدلَّ أنَّ لها صحبةً، لا جَرَم ذكرها الذَّهبيُّ فيهم، ولم يذكر اسمَها فقال: أمُّ أُسيدٍ الأنصاريَّة امرأة أبي أُسيدٍ، ذَكَرَ عرسَها سهلُ بن سعدٍ، أخرجه البخاريُّ.
          وقولُها: (أَنْقَعَتْ) قَالَ الجوهريُّ: نَقَعَ الماء في الموضع استنقع، وأَنْقَعَنِي الماء: أرواني، وأنقعت الشَّيء في الماء، ويُقال: طال إنقاع الماء واستنقاعُه حتَّى اصفرَّ.
          وقولُه: (وَهْيَ العَرُوسُ) قَالَ صاحب «العين»: رجلٌ عروسٌ في رجالٍ عُرُسٍ، وامرأةٌ عروسٌ في نساءٍ عِرائس، قَالَ: والعروس نعتٌ استوى فيه المذكَّر والمؤنَّث، ما داما في تعريسهما أيَّامًا إذا عَرَّسَ أحدُهما بالآخر، وأحسن ذَلِكَ أن يُقال للرَّجل: مُعْرِسٌ لأنَّه قد أَعْرَسَ، أي: اتَّخذ عِرْسًا.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فالوليمة طعام العُرْس كما سلف، ونقل ابن بطَّالٍ اتِّفاق العلماء عَلَى وجوب الإجابة إليها، وسبقَه إليه ابن عبد البِّر، والخلاف فيه مشهورٌ عندنا كما سلف، وله شروطٌ منها: ألَّا يكون هناك منكرٌ، وقد رجع ابن مسعودٍ وابن عمر لمَّا رأيا التَّصاوير _كما سيأتي_ ومحلُّ الخوض فيها كتب الفروع.
          والمراد بإجابة الدَّاعي في العرس: قَالَ مالكٌ: ذَلِكَ في العرس خاصَّةً لإفشاء النِّكاح، وكُره لأهل الفضل أن يجيبوا للطَّعام يُدعون إليه، يريد في غير العرس. وهو ما اختلف فيه العلماء في غير العرس مِنَ الدَّعوات، فقال مالكٌ والثَّوريُّ وأبو حنيفة وأصحابه: يجب إتيان وليمة العرس، ولا يجب إتيان غيرِها مِنَ الدَّعوات.
          وقال الشَّافعيُّ: إجابة وليمة العرس واجبةٌ، ولا أُرخِّص في ترك غيرِها مثل: النِّفاس والخِتان وحادث سرورٍ، ومَنْ تركَها فليس بعاصٍ.
          وقال أهل الظَّاهر: كلُّ دعوةٍ فيها طعامٌ واجبٌ. حجَّتُهم حديث أبي موسى والبراء ☻، وهما عامَّان في كلِّ دعوةٍ، وتأوَّله مالكٌ والكوفيُّون عَلَى العرس خاصَّةً بدليل حديث ابن عمر ☻ أنَّه ◙ قَالَ: ((إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها)) وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          وفي روايةٍ له: ((إذا دُعي أحدكم فليجب؛ عُرسًا كان أو نحوه)) وله: ((إذا دُعيتم إلى كُراعٍ فأجيبوا)). ولابن ماجَهْ: ((إذا دُعي أحدكم إلى وليمة عرسٍ فليجب)) ولأبي الشَّيخ: ((مَن دعاكم فأجيبوه)) وهو مفسَّرٌ، وفيه بيان وتفسير ما أجمل ◙ في قولِه: ((أَجِيبُوا الدَّاعِيَ)) والمفسَّر يقضي عَلَى المجمل.
          قَالَ ابن حبيبٍ: وقد أُبيحت الوليمة أكثر مِنْ يومٍ، وأَوْلَمَ ابن سيرين ثمانية أيَّامٍ، ودَعا في بعضِها أُبيَّ بن كعبٍ، كذا ذكره ابن بطَّال: ابن سيرين، والَّذي أخرجه البَيْهَقيُّ وغيره: سيرين، كما ستعلمُه.
          وكره قومٌ ذَلِكَ أيَّامًا وقالوا: اليوم الثَّاني فضلٌ والثَّالث سُمعةٌ، وأجاب الحسن رجلًا دعاه في اليوم الثَّاني، ثُمَّ دعاه في الثَّالث فلم يجبه، وفعلَه ابن المسيِّب وحصبَ الرَّسولَ، أخرجه أبو داود، وفي روايةٍ: قَالَ: ((أهل رياءٍ وسمعةٍ)). وقال ابن مسعود: نُهينا أن نجيب مَنْ يُرائي بطعامِه.
          وقول مَنْ أباحها بغير توقيتٍ أولى لقول البخاريِّ: (وَلَمْ يُوَقِّتِ رسول اللهِ صلعم يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ) وَذَلِكَ يقتضي الإطلاق ومنع التَّحديد إلَّا بحجَّةٍ يجب التَّسليم لها.
          ولم يرخِّص العلماء للصَّائم في التَّخلُّف عن إجابة الوليمة، وقال الشَّافعيُّ: إذا كان المجيب مفطرًا أكل، وإن كان صائمًا دعا، واحتجَّ بحديث أبي هريرة ☺ / قَالَ: قَالَ رسول اللهِ صلعم: ((إذا دُعي أحدُكم فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصلِّ)) أخرجه مسلمٌ، أي: فليَدْعُ. وفعله ابن عمر ومدَّ يدَه وقال: باسم اللهِ كُلوا، فلمَّا مدَّ القوم أيديهم، قَالَ: كُلوا فإنِّي صائمٌ.
          وقال قومٌ: تركُ الأكل مباحٌ، وإن لم يصم أجاب الدَّعوة، وقد أجاب عليُّ بن أبي طالبٍ ولم يأكل، وقال مالكٌ: أرى أن يجيبَه في العُرس وحدَه إن لم يأكل أو كان صائمًا. وحجَّتُه حديث جابرٍ السَّالف.
          فصلٌ: ذكر في التَّرجمة: الوليمة سبعة أيَّامٍ، ولم يأت به في الحديث، وقصد الرَّدَّ عَلَى مَنْ أنكر اليوم الثَّالث، فاستدلَّ عَلَى ذَلِكَ بإطلاق إجابة الدَّاعي مِنْ غير تقييدٍ، فاندرج فيه السَّبعة المدَّعى أنَّها ممنوعةٌ، روى ابن أبي شَيبة عن أبي أسامة عن هشامٍ عن حفصة قالت: لمَّا تزَّوج أبي سيرين دعا الصَّحابة سبعة أيَّامٍ، فلما كان يوم الأنصار دعاهم وفيهم: أُبَيُّ بن كعبٍ، وزيد بن ثابتٍ. قَالَ هشامٌ: وأظنُّها قالت: ومعاذٌ، فكان أُبيٌّ صائمًا، فلما طَعِموا دعا أُبيٌّ وأمَّن القوم.
          وأخرجه البَيْهَقيُّ مِنْ حديث مُحمَّدٍ عن حفصة أنَّ سيرين عرَّس بالمدينة، فأولم فدعا النَّاس سبعًا، وكان فيمَن دعا أُبيُّ بن كعبٍ وهو صائمٌ، فدعا لهم بخيرٍ وانصرف، وكذا ذكره حمَّاد بن زيدٍ، إلَّا أنَّه لم يذكر حفصة في إسنادِه، وقال مَعمرٌ عن أيُّوب: ثمانية أيَّامٍ، والأوَّل أصحُّ.
          قال الدَّاوُديُّ: جاء أنَّ الوليمة سبعة أيَّامٍ، ودلَّ أنَّ فوقَه رياءٌ وسمعةٌ، وسيأتي حديث أنَّها في اليوم الأوَّل حقٌّ، والثَّاني معروف، والثَّالث رياءٌ وسمعةٌ، وفي حديث صفيَّة أنَّه ◙ أقام في طريق خيبر ثلاثة أيَّامٍ، يُبْنَى عليه بصفيَّة، عنده.
          فصل: وقولُه: (وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ صلعم يَوْمًا وَلا يَوْمَيْنِ) كأنَّه لم يصحَّ عندَه فيه حديث أنسٍ السَّالف، ومثله أحاديث أُخر:
          أحدُها: حديث الحسن عن عبد اللهِ بن عثمان الثَّقفيِّ عن رجلٍ أعور مِنْ بني ثقيفٍ _كان يُقال له معروفٌ أي يُثنِي عليه خيرًا إن لم يكن اسمُه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه_ أنَّه ◙ قَالَ: ((الوليمة أوَّل يومِ حقٌ، والثَّاني معروفٌ، واليوم الثَّالث رياءٌ وسمعةٌ)) أخرجه أبو داود، ولمَّا ذكر البخاريُّ في «تاريخه الكبير» زهيرًا هذا قَالَ: لا يصحُّ إسنادُه ولا يُعرف له صحبةٌ.
          وقال ابن عمر وغيرُه عن النِّبِيِّ صلعم: ((إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليجب)) ولم يخصَّ ثلاثة أيَّامٍ مِنْ غيرها، وهذا أصحُّ. قَالَ أبو عمر: في إسنادِه نظرٌ يُقال: إنَّه _يعني حديثه هذا_ مرسلٌ، وليس له غيرُه.
          وقال الباوَرْديُّ: رُوي عنه حديثٌ واحدٌ لم يثبت: ((الوليمة أوَّل يومٍ حقٌّ)) اختلف أصحاب الحسن عنه في رواية هذا الحديث، وليس يُعرف في الصَّحابة.
          قلت: قد ذكره فيهم أبو حاتمٍ الرَّازيُّ والْبُسْتِيُّ وأبو نُعَيمٍ والفَلَّاس وابن زَبْرٍ وابن قانعٍ والعسكريُّ والأزديُّ والتِّرْمِذيُّ وابن السَّكَن، وذكره أيضًا ابن أبي خَيْثَمة في «تاريخه الأوسط»، والبَغَويَّان أحمدُ في «مسنده الكبير»، وابنُ بنتِه وقال: لا أعلم لزهيرٍ غيرَه، وأبو نُعَيمٍ وابن منده ومُحمَّد بن سعدٍ كاتب الواقديِّ، وذكر غير واحدٍ أنَّ الحسن روى عنه، ودخول عبد اللهِ بن عثمان بينهما لا يضرُّه لأنَّه معدودٌ أيضًا مِنَ الصَّحابة عند أبي موسى المدينيِّ، وقال أبو القاسم الدِّمشقيُّ: أدرك رسولَ اللهِ صلعم، واستشهد باليرموك، وقد رواه النَّسائيُّ عن الحسن عن رسول اللهِ صلعم مرسلًا، فاعتضد.
          ثانيها: حديث عبد اللهِ بن مسعودٍ ☺ أنَّ رسول اللهِ صلعم قَالَ: ((طعام أوَّل يومٍ حقٌّ، وطعام يوم الثَّاني سنَّةٌ، وطعام يوم الثَّالث سمعةٌ، ومَنْ سَمَّع سَمَّعَ اللهُ به)) أخرجه التِّرْمِذيُّ، وقال: لا نعرفُه مرفوعًا إلَّا مِنْ حديث زياد بن عبد اللهِ البَكَّائيِّ، وزياد كثير الغرائب والمناكير، وسمعتُ مُحمَّد بن إسماعيل يذكر عن مُحمَّد بن عقبة قَالَ: قَالَ وَكيعٌ: زيادٌ مع شرفِه لا يكذب في الحديث. قلت: هو مِنْ فرسان «الصَّحيحين»، وأثنى عليه جماعةٌ.
          ثالثُها: حديث أبي هريرة ☺ قَالَ رسول اللهِ صلعم: ((الوليمة أوَّل يومٍ حقٌّ، والثَّاني معروفٌ، والثَّالث رياءٌ وسمعةٌ)) أخرجه ابن ماجه وفي إسنادِه عبد الملك بن حسينٍ النَّخَعيُّ، أبو مالكٍ الواسطيُّ، استشهد به الحاكم، وتكلَّم فيه غير واحدٍ.